في الوقت الذي حشدت فيه تركيا قواتها لدخول مدينة “الباب” شمال سوريا، كان الجيش السوري ينظر بعينٍ ثاقبةٍ ويدرس جميع الاحتمالات اللاحقة، ليختار منها الاحتمال الأقوى الذي يكبح الطغيان التركي، ويجعله مُكبّلاً دون حراك، فاختار التوجه شرقاً، ليضع أنقرة في موقف حرج ويختلط الأوراق من جديد.
الجيش السوري الذي كان يملك القدرة على دخول مدينة “الباب” حسب المعطيات الميدانية، آثر التوجّه شرقاً، تاركاً القوات التركية تعيش في نشوة النصر، لتستفيق بعد ساعات في حسرة على مشروعها الذي أفشله الجيش السوري بعد أن قطع الطريق أمام الحلم التركي في التوسع شرقاً وإنشاء منطقة عازلة في الشمال السوري.
قوات الجيش السوري لم تكتف بقطع الطريق أمام التمدد التركي فحسب، بل عززت من وجودها على الشريط الفاصل بين قوات “درع الفرات” المدعومة تركياً، وبين الوحدات الكردية المتمثلة بـ”قوات سوريا الديمقراطية” بعد أن تسلّم الجيش السوري من الأخيرة خطوط التماس غرب منبج بطول يقارب 50 كيلومتراً، وفق رعاية روسية بين الجانبين.
الوجود السوري على الشريط الفاصل بين الوحدات الكردية وقوات “درع الفرات” المدعومة تركياً، جاء باتفاق روسي ليؤكد على عدة نقاط أهمها:
أولاً: استبعاد حصول اشتباك بين الطرفين السوري والتركي في المستقبل القريب، حيث حرصت أنقرة في الفترة الماضية على تفادي أي مواجهة مع الجيش السوري عند أطراف الباب، خوفاً من النتائج المتوقعة.
ثانياً: التفاف الجيش السوري ووصوله إلى مناطق سيطرة الوحدات الكردية، سيجعل الفصائل المدعومة من أنقرة محصورة في مثلث مغلق “جرابلس – أعزاز – الباب”، وبالتالي الحدّ من حركة هذه الفصائل وإبطال مفعولها.
ثالثاً: قطعُ الطريق على القوات التركية للتوجه إلى مدينة “منبج” الاستراتيجية، وبالتالي إبعاد تركيا من معادلة الدخول إلى مدينة “الرقة” (معقل داعش)، بل زيادة احتمال دخول الجيش السوري إليها بالتعاون مع العشائر العربية والقوات الكردية.
رابعاً: فتح شريان حياة ما بين منبج وحلب، والذي سينعكس إيجاباً على أهالي المدينتين، نظراً لما تحويه منبج من حقول نفطية وأراض زراعية خصبة، وفي الوقت نفسه تأمين المستلزمات الأساسية التي تحتاجها منبج من مدينة حلب.
كل هذه المعطيات، شكّلت صدمة للجانب التركي الذي لم يجد مخرجاً لعجزه بعد “الباب”، إلا الإعلان عن عملية عسكرية شاملة ستطلقها تركيا شمالي سوريا، حسب ما ذكرت صحيفة “يني شفق” التركية، وذلك بعد الزيارة التي سيقوم بها الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان إلى موسكو في العاشر من الشهر الجاري، ولقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث من المقرر أن يبحث الجانبان مجموعة من القضايا على رأسها المسألة السورية.
وللهروب من الصدام مع الجانب السوري في المنطقة الفاصلة بين ريف منبج الغربي وريف الباب الشرقي، أعلنت تركيا أن العملية العسكرية لـ “تحرير منبج” على حدّ وصفها، ستنفذها وحدات عسكرية تركية موجودة على الحدود بمشاركة ألفين وخمسمئة عنصر من فصائل “الجيش الحر”، بدلاً من الوحدات العسكرية الموجودة في مدينة “الباب”، وزعمت أنقرة أن السبب في ذلك يعود لتجنيب مدينة الباب هجوماً معاكساً من تنظيم داعش الإرهابي، إلا أن المعطيات تشير إلى عدم جرأة القوات التركية على الصدام مع الجيش السوري، نظراً للنتائج الوخيمة التي ستنعكس عليها في حال فكّرت في هذا الخيار.
التهديد التركي الجديد، قابله ردّ قوي من القوات الكردية المقاتلة شمال سوريا، حيث أعلن القيادي الكردي “عبد الكريم صاروخان”، أنه “في حال استمرت تركيا على هذا النحو، سيكون ذلك بداية حرب أخرى جديدة على الأراضي السورية وفي شمالها”.
مع كل ما سبق يواصل الجيش السوري تحريره لمزيد من القرى والبلدات في ريف حلب الشرقي، حيث بات يبعد 4 كيلومترات عن بلدة “دير حافر” جنوب شرق مدينة الباب والتي تعد أحد المعاقل الرئيسية لتنظيم داعش في المنطقة، كما أصبح الجيش على بعد 17 كيلومتراً من منطقة “الخفسة” الحاوية على مضخات المياه التي تسيطر عليها داعش والتي تزوّد مدينة حلب بشكل كامل بمياه الشرب.