تقترب الذكرى السنوية الأولى لكارثة منى، التي قضى فيها زهاء سبعة آلاف من ضيوف الرحمن من شتى أنحاء العالم الاسلامي، من بينهم 500 حاج إيراني، وذلك نتيجة للتدافع الذي حصل أثناء رمي الجمرات، وتباطؤ عمليات اسعاف المصابين.
ولعل جرح الإيرانيين هو الأبلغ مما حصل، نتيجة لسوء المعاملة التي لاقوها من النظام السعودي بعد الكارثة، بالرغم من أنهم أكبر الضحايا، فبدل أن تبذل السعودية جهوداً خاصة للملمة الجراح، والاعتذار وتطييب خواطر عائلات الضحايا ، ومحاسبة المقصرين، واتخاذ التدابير للحؤول دون تكرار الفاجعة، اصرت السعودية بصلف واستعلاء على التملص من المسؤولية، بل ووضع مزيد من العراقيل أمام بعثة الحج الإيرانية، وإضافة بنود على مذكرة الحج التي كان يُعمل بها خلال السنوات الماضية، كالاصرار على أن يتم منح تأشيرات الحج للإيرانيين في دولة ثالثة، ومنع الطيران الوطني الإيراني من نقل الحجاج الإيرانيين، إضافة إلى وضع قيود على عدد المستوصفات الصحية الإيرانية، وهي الشروط التي احتج عليها الجانب الإيراني، ما تسبب في نهاية المطاف إلى حرمان الإيرانيين من فريضة الحج لهذا العام.
السعودية التي تنفي عن نفسها أنها تسيّس الحج، بل في المقابل تكيل هذه التهمة إلى إيران، ينبغي -إن كانت صادقة في مدّعاها- أن تفصل في سلوكها بين أزماتها الكثيرة مع النظام الإيراني، وبين حق المواطنين الإيرانيين بأداء الفريضة الإلهية، وحقهم في الحصول على مستلزمات الراحة والأمان، في أرض الحرمين التي “من دخلها كان آمنا”، فهل الواقع كذلك؟
وهنا لا نريد أن ندخل في تقييم المواقف الإيرانية والسعودية تجاه قضايا المنطقة والأزمات والتصادم الحاصل بين البلدين، بل نريد أن نتحدث عن الأمر من زاوية إنسانية، ومن زاوية واجب السلطات السعودية تجاه مواطنين مسلمين جاؤوا لأداء فريضة إلهية واجبة على كل المسلمين.
إذا لم يكن هناك خلفية سياسية للعراقيل التي وضتعها السعودية أمام بعثة الحج الإيرانية، فلماذا تصر السعودية على وضع شروط جديدة على مذكرة الحج بين البلدين؟ وإضافة قيود على الحجاج الإيرانيين، لم تكن تفرضها في السابق؟ ولماذا ما كان مقبولاً لدى السعودية قبل تصاعد أزماتها مع إيران، أصبح اليوم غير مقبول؟
وإذا كانت السعودية تميز في تعاملها بين المواطن الإيراني والدولة الإيرانية، لماذا تفرض على المواطن الإيراني، تحمل مشاق السفر إلى دولة ثالثة، للحصول على تأشيرة الحج، وبالتالي تحمل اعباء صحية واقتصادية إضافية، خاصة إذا اخذنا بالاعتبار أن غالبية الحجاج من الطاعنين في السن وليس بمقدروهم كثرة الترحال والسفر؟
ثم ماذا نسمي منع السعودية لليمنيين والسوريين من الحج لعدة أعوام على التوالي، أليس هذا تسييس؟ أليس لمواقف السعودية من اليمن وسوريا علاقة بالأمر؟
الحقيقة التي ترفض السعودية الاعتراف بها ويعلمها الجميع، أن هناك استهتار وتعال كبير من السلطات السعودية في التعامل مع كل أبناء العالم الاسلامي، وتعامل السعودية المهين مع العمالة الوافدة تشهد على ذلك، فالسعودية التي تنسب إلى نفسها زعامة العالم الاسلامي، تنظر بدونية إلى بقية الشعوب الاسلامية وهذا السبب الأساسي وراء التقصير الذي حصل في فاجعة منى، والتباطؤ في اسعاف الجرحى، واتخاذ التدابير اللازمة بحقهم. أما فيما يتعلق بالإيرانيين واليمنيين فالسعودية تنظر إليهم بدونية أكبر نتيجة تصفية حسابات سياسية مع دولهم.
جميع الشواهد تشير خلال موسم الحج الماضي، أن السعودية أغلقت الشارع الرئيسي المؤدي لرمي الجمرات، وأجبرت الحجاج الإيرانيين، بشكل خاص على عبور شارع فرعي، كان مسدوداً من الطرف المقابل، الأمر الذي يعزز فرضية العمل المدبر، أو على الأقل سوء التدبير، والتعامل باستهتار مع الحجاج. كما لم تقم السلطات السعودية بأي مساعي لرش المياه لتخفيف الفاجعة عن الحجاج الذين قضوا نتيجة العطش وارتفاع درجات الحرارة، بل على العكس من ذلك، كانت السعودية مهتمة بلملمة الفضيحة أكثر من اهتمامها بحياة الحجاج، فقد سارعت إلى وضع المصابين مع الموتى في الحاويات، بدل معالجتهم، لتقضى على آخر رمق لهم.
وبعد الفاجعة لم يرق التعامل السعودي إلى مستوى المأساة، من خلال المماطلة في تسليم جثامين الشهداء والكشف عن مصائرهم، والعمل بادئ الأمر على دفنهم في مقابر جماعية، وحتى اليوم مايزال هناك عشرات الشهداء من الإيرانيين وغيرهم في عداد المفقودين. والجدير بالذكر أن السعودية ماطلت في تسليم جثمان سفير إيران السابق غضنفر ركن آبادي، وتم تسليمه فيما بعد، بعد أن انتزع منه قلبه ودماغه وأعضائه الداخلية، في خطوة سعودية عصية على الفهم.
وإذا كانت السعودية تدعي أن الرواية الإيرانية للأحداث “لا تستند للموضوعية والمصداقية” كما صرح مؤخراً ولي العهد السعودي محمد بن نايف، فلماذا تتملص من مطالب تشكيل هيئة تقصي حقائق من الدول الاسلامية؟ فالسعودية لا تريد أن تعتذر أو تعترف بالتقصير، ولا تقبل بتحكيم هيئة اسلامية، لسان حالها، هذا الذي عندنا، وكأن البيت الحرام ملكٌ لهم ورثوه عن آبائهم.
وإيغالاً في استبدادها وفرض إرادتها على شعوب العالم الاسلامي، واعتبار نفسها وصية على مسلمي العالم، ستضع السعودية خلال موسم الحج الحالي قاعدة بيانات 3 ملايين حاج في متناول شركة أمنية ذات علاقة مع “اسرائيل”، وذلك من خلال ايكال مهمة تزويد الحجاج بأساور الكترونية إلى شركة الأمن الشهيرة “جي فور أس” البريطانية الاسرائيلية، حيث فرضت سلطات الرياض هذه الأساور على الدول المبتعثة، بحجة ضمان متابعة سير عمليات الطواف والتفويج ورمي الجمرات خلال مراسم الحج. فهل سألت السعودية الدول الاسلامية عما إذا كانت ترغب في وضع بيانات مواطنيها في يد أعدائها؟ أم أنها تريد أن يعتاد العالم الاسلامي على التعامل مع اسرائيل، من خلال إشراكها في أحدى أهم الفرائض المقدسة لدى المسلمين.
كانت السعودية ومازالت توظف ورقة الحرمين الشريفين، خدمة لأهدافها السياسية، ولإعطاء نفسها مشروعية التحكم بشعوب العالم الاسلامي، وترويضها خدمة لها ولحلفائها من دول الاستكبار العالمي، فتارة بتكفير المسلمين المقاومين، وتارة بتطبيع العلاقات مع الاسرائيليين. فبعد كل هذا هل يحق للسعودية إدارة ملف الحج منفردة؟