يبدو أن الحكومة التركية أدركت عقم سياساتها الخارجية ونجاح خصومها على الساحتين السورية والعراقية، كما أنها بدأت تشعر بتفاقم الخطر المحدق باستراتيجيتها الإقليمية بعد عجزها عن احتواء المعارضين الأكراد فبدأت تقلب صفحات الماضي وتستفز حكومة بغداد عبر إقامة قواعد عسكرية في عمق الأراضي العراقية.
في أواخر عام 2015 م توغلت القوات التركية في شمال العراق واستقرت بمنطقة بعشيقة التابعة لمحافظة نينوى الأمر الذي أثار ضجة إعلامية عالمياً وإقليمياً وسخطاً شعبياً في الشارع العراقي، حيث كان النواة الأولى لهذه القوات مؤلفة من 150 جندياً مدعومين بـ 25 من الدبابات والعجلات المدرعة إضافة إلى كاسحات ألغام.
الحكومة العراقية آنذاك رفضت هذا التدخل السافر ورئيس الوزراء حيدر العبادي طالب أنقرة بسحب قواتها فوراً وكذب مزاعم حكومة أردوغان بكون هذه القوات دخلت الأراضي العراقية بطلب من الحكومة العراقية حيث أصدر بياناً أكد فيه على أن حكومته وحتى حكومة نوري المالكي لم تطلب ذلك مطلقاً معتبراً أن تواجد هذه القوات يتعارض مع سيادة بلده.
وزارة الخارجية العراقية من جانبها أصدرت بياناً شجبت فيه هذا التدخل غير المبرر والذي ينقض السيادة العراقية وأكدت كذلك على أن حكومة بغداد تكذب مزاعم أنقرة في طلب استقدام قوات تركية إلى الأراضي العراقية.
وبعد هذا التوغل المفاجئ أعلن أحد المسؤولين الأتراك أن المئات من القوات التركية دخلت في المناطق المحاذية لمدينة الموصل بغية تدريب بعض الميليشيات العراقية مؤكداً على أن البلدان الأعضاء في التحالف ضد داعش على علم بهذه الخطوة.
وأما وكالة أنباء رويترز في ذكرت تصريحاً لاثنين من المسؤولين الأمريكان أكدا على أن الحكومة الأمريكية كانت علم بتوغل القوات التركية في الأراضي العراقية معتبرين هذه الخطوة بأنها تندرج ضمن العلميات والإجراءات التي يتخذها التحالف الذي تقوده واشنطن.
* التوغل العسكري: اعتراض عراقي ورد تركي
بعد تزايد الاعتراضات على خطوة أنقرة في التعدي على سيادة العراق، وافق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على سحب بعض هذه القوات، ولكن بعد مدة خرجت هذه الحركة غير المبررة عن دائرة الضوء إثر تلك الأحداث المحتدمة والمتمثلة بانهماك القوات العراقية والسورية في محاربة تنظيم داعش الإرهابي وخوض معارك مصيرية أدت إلى كسر شوكة هذا التنظيم الإرهابي وسحب البساط من تحت قدميه في الكثير من المناطق الاستراتيجية في هذين البلدين، ولكن قبل أيام تأججت هذه الأزمة من جديد إثر تصريح بعض المسؤولين الأتراك بضرورة مشاركة هذه القوات في عمليات تحرير الموصل تزامناً مع إضافة 200 جندي إضافي إلى تلك القوات المتوغلة في عمق الأراضي العراقية.
وفي هذه المرة أيضاً ثارت موجة من الاعتراضات العراقية الساخطة ولكنها أشد وأوسع نطاقاً من تلك المواقف التي اتخذت في العام الماضي ولا سيما أن العراق يمر اليوم في أيام مصيرية في تأريخه السياسي وهو على أبواب انطلاق عمليات تحرير الموصل من زمرة داعش الإرهابية.
وبعد هذا التطور في الأحداث أعلن أردوغان في الأسبوع الماضي بأن قواته ستشارك في عمليات استعادة الموصل من داعش ولا يمكن لأحد منع بلده من المشاركة في هذه العمليات، في حين أن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي أعلن في مؤتمر صحفي عقد في العاصمة العراقية بغداد بأن تركيا ليس لها أي دور في عمليات تحرير الموصل، ودعا حكومة أنقرة سحب قواتها من الموصل فوراً كي لا يحدث اشتباك بين القوات العراقية والقوات التركية المتوغلة في محافظة نينوى كما أكد على أن تواجد هذه القوات يعرقل العمليات العسكرية المرتقبة واعتبر أن تواجد هذه القوات في الشمال العراقي هو أمر لا مبرر له.
واعتبر العبادي أن تواجد القوات الأجنبية على الأراضي العراقية يعد خطاً أحمر وحذر الجنود الأتراك بأنهم ليسوا في نزهة.
وممثل آية الله العظمى السيد علي السيستاني وإمام جمعة مدينة كربلاء دعا جميع بلدان العالم ولا سيما بلدان الجوار إلى احترام سيادة العراق ووحدة أراضيه معتبراً أن ورود أي جندي إلى الأراضي العراقية لا بد وأن يكون بطلب من الحكومة العراقية نفسها.
ورئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم فقد صرح قائلاً: قواتنا العسكرية تؤدي واجبها فهي تحارب داعش هناك، والحرب ضد داعش في العراق وسوريا لا تقتصر علينا فحسب بل إن جميع البلدان تحاربهم وكذلك الأمم المتحدة، وهناك تحالف دولي ضدهم.
وأكد يلدريم بأن قوات بلاده المتوغلة في الشمال العراقي تؤدي مهام إنسانية واعتبر تصريحات المسؤولين العراقيين المناهضين لتواجد قوات بلاده في الموصل بأنها خطيرة واستفزازية مؤكداً على أن هذه القوات كانت متواجدة هناك منذ مدة طويلة.
هذه الحرب اللفظية ما زالت متواصلة وحكومة أردوغان ترفض دعوات بغداد في سحب قواتها، في حين أن الحكومة الأمريكية أعلنت أن تحرير الموصل سيكون بقيادة ضباط عراقيين ودعت بلدان الجوار إلى احترام سيادة العراق.
* سلطة كردستان العراق تعطي الضوء الأخضر لأردوغان
وفي السياق ذاته أعلن المتحدث باسم حكومة إقليم كردستان العراق صفين دزي أن القوات التركية متواجدة في شمال العراق ضمن قوات التحالف الدولي ضد داعش وهدفها تدريب بعض الميليشيات العراقية في محافظة نينوى وعلى هذا الأساس أنشأت قاعدة عسكرية هناك مؤكداً على أن أنقرة سترسل قريباً المزيد من القوات إلى هذه القاعدة برفقة معدات عسكرية إضافية.
* لمحة على خلفية تواجد القوات التركية في إقليم كردستان العراق
تجدر الإشارة هنا إلى أن تواجد القوات العسكرية التركية في شمال العراق ليس أمراً جديداً، ففي عهد نظام الدكتاتور صدام حسين تم إبرام معاهدة أمنية بين بغداد وأنقرة عام 1981 م أجاز فيها دكتاتور العراق آنذاك بدخول القوات التركية إلى الأراضي العراقية بمسافة 20 كم بغية مطاردة قوات حزب العمال الكردستاني، وفي عام 2006 م بادرت الحكومة التركية إلى تأسيس قواعد عسكرية في منطقة كردستان حيث تمركز معظمها في محافظة دهوك ويبلغ عددها اليوم عشر قواعد أهمها قاعدة بامرني التي تضم 600 جندي تركي وقاعدة كاني ماسي التي يتواجد فيها 400 جندي تركي، ويدعى أن مهمة هذه القوات هي الحيلولة دون دخول قوات الـ ب ك ك إلى الأراضي التركية.
في عام 2003 م طالب برلمان كردستان العراق بخروج القوات التركية من المحافظات الكردية وفي عام 2005 م طالب مجلس النواب العراقي بشكل رسمي بهذا الأمر أيضاً إلا أن أنقرة تجاهلت كل هذه الدعوات بل وأنشأت قواعد جديدة وأرسلت المزيد من القوات سواء بطلب من حكومة الإقليم أو تلقاء نفسها.
* الخلفية التأريخية لتواجد الأتراك في الموصل
التواجد التركي في الموصل له جذور تأريخية، حيث قال الباحث أمين بازارتشي أن الموصل التي تحدها حدود مع الأراضي التركية تحظى بأهمية بالغة بالنسبة إلى حكومة أنقرة لذا فالأتراك يعتبرون أي خطر يهدد هذه المدينة بأنه يهدد الأمن التركي، وحسب اتفاقية لوزان فإن تركيا كانت تؤمن جانباً من ميزانيتها من نفط الموصل حتى نهاية عقد الثمانينيات من القرن المنصرم، وفي عام 1926 م حينما كان العراق تحت نير الاستعمار البريطاني عقدت معاهدة أنقرة التي نصت على أن المواطنين الأتراك في الموصل يجب وأن يكونوا تحت حماية حكومة أنقرة، كما نصت هذه المعاهدة على ما يلي:
1 – توكل مدينة الموصل في العراق إلى الحكومة التركية.
2 – الحكومة التركية لها صلاحية حماية المواطنين الأتراك في الموصل.
كما أن تركيا في تلك الآونة كان لها الحق في الإشراف على مساحة تبلغ 90 كم في عمق الأراضي العراقية، أي جميع تلك المناطق التي تقطنها القومية التركمانية، كما أنها مخولة في التصدي لأي خطر تتعرض له هذه القومية والتدخل عسكرياً وبشكل مباشر.
لو أن هذه المعاهدة ما زالت سارية المفعول، فالحكومة التركية لها الحق في التدخل بالموصل كما أنها حسب الأتفاق الذي أبرمته مع المقبور صدام حسين لها الحق في التوغل في الأراضي العراقية لمواجهة قوات الـ ب ك ك، أي أن المعاهدة الأخيرة تحدد التدخل التركي في مواجهة المعارضين الأكراد فحسب ولا تشمل تنظيم داعش الإرهابي.
ومن الجدير بالذكر أن العراق حينما كان رازحاً تحت الاحتلال الأمريكي قبل سنوات، تم تدوين مسودة مشروع ينص على ضم محافظي نينوى وكركوك إلى إقليم كردستان، إلا أن تركيا تدخلت في الأمر ورفضت ذلك، وهي اليوم تفرض سيطرتها على إقليم كردستان ومناطق من الموصل أيضاً.
لذا يبدو أن أنقرة غير مستعدة للتخلي عما تعتبره حقاً مشروعاً لها وفق معاهدات أبرمتها مع أطراف عراقية وغير عراقية قديماً وحديثاً، وهذا الأمر واضح في التصريحات التي تبدر من رجب طيب أردوغان بين الفينة والأخرى، وفضلاً عن ذلك فهو يسعى لتنفيذ هذا المشروع أيضاً في الأراضي السورية، ويبدو أن الحكومة التركية أدركت عقم سياساتها الخارجية ونجاح خصومها على الساحتين السورية والعراقية، كما أنها بدأت تشعر بتفاقم الخطر المحدق باستراتيجيتها الإقليمية بعد عجزها عن احتواء المعارضين الأكراد فبدأت تقلب صفحات الماضي وتستفز حكومة بغداد عبر إقامة قواعد عسكرية في عمق الأراضي العراقية وتهدد الحكومة السورية بالتدخل العسكري بين حين وآخر.