في الثالث عشر من شهر رجب وفي يوم الجمعة بعد ثلاثين سنة من عام الفيل وقبل البعثة النبوية بعشر سنوات ؛ جاءت فاطمة بنت أسد إلى الكعبة وقد أخذها الطلق فتعلقت بأستار الكعبة مستجيرة بالله عز وجل خائفة أن يراها أحد من الذين يجتمعون في أمسياتهم في أروقة المسجد الحرام فتوارت خلف أستار الكعبة وألصقت نفسها بجدار الكعبة وأخذت تقول : ” يا رب إنّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسلٍ وكتب ، وإنّي مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم وإنّه بنى البيت العتيق .
فبحقِّ الذي بنى هذا البيت وبحقّ المولود الذي في بطني إلاّ ما يسّرت عليَّ ولادتي قال يزيد بن قعنب : فرأيت البيت قد انشق عن ظهره، ودخلت فاطمة فيه، وغابت عن أبصارنا وعاد إلى حاله والتزق الحائط، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أنّ ذلك أمر من أمر الله عَزَّ وجَلَّ، ثمّ خرجت في اليوم الرابع وعلى يدها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) . ذُكر ذلك في المستدرك على الصحيحين للنيسابوري ج3 ص 483 وتاريخ الطبري ج2 ص 56-57 وتاريخ اليعقوبي ج2 ص 23 ، وحكى الحافظ الكنجي الشافعي : في الكفاية من طريق ابن نجار عن الحاكم النيسابوري أنه قال : ولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بمكة في بيت الله الحرام ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة من رجب سنة ثلاثين من عام الفيل ولم يولد قبله ولا بعده مولود في بيت الله الحرام سواه إكراماً له بذلك وإجلالاً لمحلّه من التعظيم ، ونقل الولادة في الكعبة المسعودي في ” مروج الذهب ” والسبط ابن الجوزي في ” تذكرة الخوّاص ” وطلحة الشافعي في ” مطالب المسؤول ” .
وقال شهاب الدين الألوسي صاحب التفسير المشهور في كتاب ” الخريدة الغيبية في شرح القصيدة العينية لعبد الباقي العمري عند قول الشاعر : أنت العلي الذي فوق العلى رفعا * ببطن مكّة عند البيت إذ وُضعا يقول : وكون الأمير كرّم الله وجهه وُلد في البيت أمر مشهور في الدنيا ، وذكر في كتب الفريقين السنة والشيعة ولم يشتهر وضع غيره – كرّم الله وجهه – كما اشتهر وضعه ، بل لم تتفق الكلمة إلاّ عليه ، وما أحرى بإمام الأئمة أن يكون وضعه فيما هو قبلة للمؤمنين ، وسبحان من يضع الأشياء في مواضعها وهو أحكم الحاكمين ” وقال أيضاً تعقيباً على قول الشاعر العمري : وأنت أنت الذي حطّت له قدمٌ * في موضعٍ يدهُ الرحمن قد وضعا. ” أحب عليه الصلاة والسلام (يعني عليا) أن يكافئ الكعبة حيث ولد في بطنها بوضع الصنم عن ظهرها ” فالشيعة مجمعون على الولادة في الكعبة وكثيرٌ من علماء السنة وفي عشرات الكتب يؤكّدون ذلك .
بعد خروج فاطمة بنت أسد من جوف الكعبة أسرع البشير إلى أبي طالب وأهل بيته فأقبلوا مسرعين والبِشر يعلو وجوههم، وتقدّم من بينهم محمّد المصطفى (صلى الله عليه و آله) فضمّه إلى صدره، وحمله إلى بيت أبي طالب ـ حيث كان الرسول في تلك الفترة يعيش مع خديجة في دار عمه منذ زواجه ـ وانقدح في ذهن أبي طالب أن يسمّي وليده (عليّاً) وهكذا سمّاه، وأقام أبو طالب وليمةً على شرف الوليد المبارك، ونحر الكثير من الأنعام .
كان أبو طالب ذا مال يسير وعيال كثير وأصاب مكّة وقريش فاقة ، فطلب رسول الله (ص) من عمّه العبّاس أن يتكفّل كل منهما واحداً من أبناء أبي طالب ، فأخذ العباس جعفر بن أبي طالب وتولّى شؤونه وتكفّل أمره . وأخذ النبي (ص) علياً ، يقول الإمام علي (ع) : ولقد علمتم موضعي من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا ولد ، يَضمّني إلى صدره ويكنفني في فراشه ، ويمسّني جسده ، ويشمّني عرفه ، وكان يمضغ الشيء ثمّ يلقمنيه ، وما وجد لي كذبة بقول ولا خطلة في فعل ، ولقد قرن الله به ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من لدن أنْ كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالَم ، ليله ونهاره ، ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أُمّه ، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه عَلَما ، ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء ، فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشمّ ريح النبوّة .
كان النبي (ص) أوّل من احتضنه بعد خروجه من جوف الكعبة ، وعاش معه طفلاً وفتىً يافعاً ، يمضغ له الطعام وهو طفل في بيت أبي طالب ، وأخذه لبيته واشتغل بتربيته وهو ابن ست سنوات ، يصطحبه أحياناً إلى غار حراء ، وكان أوّل من آمن بالنبوة مع خديجة بنت خويلد ، عاش مرحلة الدعوة السرّيّة إلى أن نزل الوحي على النبي (ص) : ” وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ” فجمع النبي أقرباءه ودعاهم إلى كلمة التوحيد بعد أن أولم لهم وقال (ص) : من منكم يقول أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنك يا محمد رسول الله ؟ لم يجبه أحدٌ من الحاضرين إلاّ علي (ع) قال : أنا أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك يا محمد رسول الله . فيضع النبي (ص) يده على عاتق علي (ع) ويقول له : أنت أميني ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي . وهذا ما هو معروف بحديث الدار . إذ إن النبي (ص) بأوّل إعلان لدعوته عيّن خليفته وهو (ص) ” مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ” من يومها صارت الدعوة علانية وصار النبي (ص) يدعو الناس في مكّة لتوحيد الله سبحانه والإيمان بنبوّته ، آمن به البعض سرّاً وكانوا يختلفون إليه ليلاً ، وصار النبي (ص) يُصلّي في الكعبة ويصلّي خلفه علي (ع) وخلفهما خديجة إلى أن أمر أبو طالب يوماً ولده جعفر بقوله : صِلْ جناح ابن عمّك . فكان النبي (ص) يصلّي وخلفه علي وجعفر وخلفهما خديجة .
وكانت قريش ترسل فتيانها فيعتدوا على رسول الله (ص) وهو في صلاته ، لأنّ رجالهم كانوا يخافون سطوة بني هاشم وخاصةً الحمزة عمّ النبي (ص) ، فكان عليّ يتصدّى للدفاع عن النبي ويردّ عدوان فتية قريش بقرص آذانهم وضربهم إلى أن اتخذت قريش قرار مقاطعة بني هاشم وحصارهم في شعب أبي طالب فكان عليّ (ع) إذا جنّ الليل ينام في فراش النبي (ص) مطمئناً على حياته (ص) وغير خائف على نفسه ، وبقي علي (ع) في بيت رسول الله (ص) بعد وفاة والده مؤمن قريش أبي طالب (رض) وحينما تآمرت قريش بأن تختار من كلّ بيت منها رجلاً ليهجموا على النبي ويقتلوه في فراشه ؛ وهم محيطون البيت يخرج النبي (ص) من بينهم وعلي نائمٌ على فراش رسول الله (ص) ؛ ليوهم كفّار قريش أنّ النبي لا يزال في البيت ، غيرُ آبهٍ لما يحصل له ، ليضمن سلامة رسول الله بذلك من مؤامرة قريش ، وبعد أن ينجز الإمام علي (ع) وصايا النبي (ص) في مكة يلحقه مع الفواطم إلى المدينة حيث كان ينتظره النبي (ص) ويبدأ مع النبي (ص) في تأسيس الدولة الربانية بعد أن كان معه في مكّة في مرحلة الدعوة لتوحيد الله سبحانه ، فساهم الإمام علي (ع) في بناء المسجد النبوي وشارك النبي (ص) الجوع وواساه النبي بنفسه كما تحدّث القرآن حينما أراد وفد النصارى محاججة النبي (ص) فنزلت الآية الكريمة بلسان النبي (ص) ” فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ” آية المباهلة .
وكان لعلي (ع) الدور الحاسم في كلّ الغزوات من أوّل معركة وهي بدر ؛ حيث كان الإمام علي (ع) بطلها ، فلم يغب عن غزوة من غزوات النبي (ص) إلاّ غزوة تبوك حيث استخلصه النبي (ص) على المدينة قائلاً له : ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي ؟ ( وهو الحديث المعروف بحديث المنزلة ) . ففي معركة بدر قتل الإمام علي (ع) ستة وثلاثين مشركاً من أصل سبعين قتلهم المسلمون ، وفي معركة أحد ثبت يحمي رسول الله (ص) بمعيّة أفرادٍ قلّة ثبتوا معه ؛ حتى منع المشركين من الوصول إلى النبي (ص) ، أمّا في معركة الأحزاب فكانت ضربته لعمر ابن ود العامري الحاسمة للمعركة لمصلحة المسلمين الذين كان قد تملّكهم الخوف اجتاز عمر ابن ود الخندق وأخذ يتحدّى النبي (ص) والمسلمين ، ووصل الخوف بالمسلمين – كما وصفهم القرآن ” إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ” – لم يستنهضهم قول النبي (ص) : مَنْ لعمر وأنا أضمن له على الجنة ؟ لم يجرؤ أحدٌ إلاّ علي (ع) يقول : أنا له يا رسول الله ، وفي المرة الثالثة قال له النبي (ص) : إنه عمر ! فقال علي (ع) : وأنا علي . فأذن له رسول الله (ص) وقال : لقد برز الإيمانُ كلّه إلى الشركِ كلّه . وقال (ص) عن الضربة التي صرع فيها عليٌ (ع) عمر ابن ود : ضربة علي يوم الخندق أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة .
وكان (ع) هو فاتح باب خيبر بعد أن فشل من كان قبله في اقتحام الحصن ، قال النبي (ص) : لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّهُ الله ورسوله ، كرّار غير فرّار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه . فيأخذ الراية عليٌ (ع) ويقتل مرحباً بطل اليهود ويقتحم الحصن بعد أن اقتلع بابه بيدٍ واحدةٍ ويجعله جسراً ليعبر عليه جيش المسلمين إلى داخل الحصن . وفي معركة حنين ينهزم المسلمون بعد أن قالوا لن نهزم اليوم عن قلّة ، لكنّ علياً ومعه بعض بني هاشم يثبتون ويدافعون عن رسول الله (ص) بكلّ شجاعة وعزيمة حتى أنزل الله نصره عليهم .
عليٌ (ع) لم يكن يخشى إلاّ الله سبحانه وهو القائل : لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيتُ مدبراً . ورآه رجلٌ يكسر رغيف الخبز على ركبته بكلتا يديه فسأله : عجباً يا أمير المؤمنين أنت مقتلع باب خيبر بيد واحدة وتكسر الرغيف بكلتا يديك على ركبتك ؟! فيجيبه (ع) قائلاً : قوّتي تلك لله وهذه قوّتي لنفسي .
كان (ع) يرى أنّ كلّ كيانه ووجوده لله فحينما يكون في خدمة ربّه لا يشعر بضعف أو وهن ، لأنه امتلأ حبّاً لله وهو القائل : والله لو كشف الغطاء ما ازددتُ يقيناً . وإخلاصه (ع) لله سبحانه فلم يكن ذوبانه في الله طمعاً في جنّة أو خوفاً من نار ، وقد ناجى ربّه : إلهي ما عبدتُك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنّتك ولكن رأيتك أهلاً للعبادة فعبدتُك .
يا علي ! أنا وأنت أبوا هذه الأمة ، عليّ مع الحق والحق مع علي يدور معه كيفما دار ، يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت، وما عرفني إلا الله وأنت، وما عرفك إلا الله وأنا .
من أوّل يومٍ أعلن فيه النبي (ص) دعوته قال لعلي (ع) : أنت خليفتي ، وفي المدينة أيام تبوك قال له: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، وختم النبي (ص) في حجّة الوداع يوم الغدير قائلاً : ألا من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه . وأخذ له البيعة من الحجيج وقال له عمر : بخٍ بخٍ لك يا علي لقد صرت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة . وبعد وفاة النبي (ص) وقبل دفنه كانت سقيفة بني ساعدة ، اعترض علي (ع) وبيّن بأنّه الحق في الخلافة هو له ، لكنه سالم حفاظاً على بيضة الإسلام ، وكان كلامه المشهور : لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين ما لم أعلم فيها ظلم إلاّ عليّ خاصّة . ولأنّ الأمور لا تحتمل الحرب مع المخالفين لأنه كان يرى أن ذلك يؤدّي إلى ضياع الإسلام وهلاك الفريقين ، ولأنّ العرب قريبو عهدٍ بالجاهلية ، فرأى (ع) أن الأصلح للرسالة أن يغضّ الطرف ويكون الناصح لمن تولوا الأمر يشير عليهم بما هو صلاح المسلمين ولم يتصرّف معهم بعدوانية ، كان (ع) يشير عليهم بما فيه مصلحة الدعوة الإسلامية ويعطيهم رأيه في الغزوات والحروب ، ويوماً نهى عمر عن الذهاب على رأس الجيش لقتال الفرس بعد أن كان البعض قد نصح عمر بذلك ، فقال الإمام (ع) لعمر : أرسل جيشك وابقَ في المدينة ، إن احتاج المسلمون مدداً أرسلت إليهم ، لأنّ وجودك بين الجيش يدفع العدو للنيل من رأس المسلمين فيهزمهم . وكان ينبّه عمر عند كلّ خطأ ، حتى اشتهر القول من عمر : لولا علي لهلك عمر ، و : لا كنتُ لمعضلة ليس فيها أبا الحسن .
وفي عهد عثمان حاول (ع) كثيراً الاصلاح ، لكن الخليفة كان مُسيطراً عليه من بني أمية وخاصّة مروان بن الحكم الذي كان يُولّي ويعزل ، مما سبّب ثورةً على عثمان من المسلمين في كلّ مكان وهجموا على داره فقتلوه وجُرح الحسنان (ع) أثناء الدفاع عن دار عثمان ، فلم يتصرّف الإمام علي (ع) بردّات الفعل أو الثأر ممن تقمّصوا الأمر والولاية على المسلمين ، وبيّن أن ذلك لم يكن عن جهل عنهم ، واختصر حال الانحراف عند أولئك بقوله (ع) : كأنهم لم يسمعوا كلام الله ” تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ” بلى والله ؛ لقد سمعوها ووعوها ولكن حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها . وكان (ع) يحذّر دائماً من حبّ الدنيا ويقول : حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة . ذلك الانحراف هو الذي صيّر الخلافة ملكاً عضوداً وجعل بني أمية وخاصةً آل مروان ينزون على منبر النبي (ص) ويحرفون الإسلام عن وجهته الصحيحة ، وذاك الانحراف هو الذي حاول أمير المؤمنين (ع) تصحيحه بعدما بويع بالخلافة ، لكنّ من غرّتهم الدنيا ومن جهلوا الحق ومن كانوا قد دخلوا بالإسلام كُرهاً لم يتركوا لعلي (ع) فرصة للاصلاح فأمضى السنوات الخمس في الخلافة في مواجهة الناكثين في حرب الجمل والقاسطين في صفّين والمارقين في النهروان إلى أن سقط مخضّباً بدمه في محراب صلاته في مسجد الكوفة على يد اللعين ابن ملجم ، فصرخ (ع) : فزتُ وربّ الكعبة .
لأنّ حياته كلّها من حين أن فتح عينيه على النور في الكعبة المشرّفة إلى أن أغمضها على الحق في مسجد الكوفة كانت كلّها لله سبحانه ، لم يدّخر من دنياه تبراً ولم يعدّ لبالي ثوبه طمراً . خرج من هذه الدنيا فرحاً بما أعطاه الله له باكياً على هذه الأمة التي نذر حياته في سبيلها ، ولو أنهم أمّروه (ع) لفازوا ، وهو القائل : لو ثُنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل الإنجيل بإنجيلهم وأهل التوراة بتوراتهم وأهل الزبور بزبورهم . لكنهم تركوا يد عليٍ (ع) خالية فعبثت الأيدي الضالة والظالمة بالإسلام فضاعت الأمة وتفرّقت وضلّت ، لأنهم قالوا حسبنا كتاب الله – كلمةُ حقّ يراد بها باطل – وتركوا عليّاً القرآن الناطق وتخلّفوا عن أهل البيت (ع) الذين هم عدل القرآن فضاعوا وتسلّطت عليهم الأمم ، ولو أنهم أطاعوا نبيّهم بالتمسّك بالكتاب والعترة لسادوا العالم وعمّ العدل الذي لابد وأن يتم بوعدٍ من الله حينما تتمكّن فئةٌ من الأمة تؤمن بالله ولا تفرّق بين الكتاب والعترة ؛ فيظهر الله سبحانه دينه على الأمر كلّه وعلى البشريّة كلّها ويعم العدل ، وهذا وعد الله الذي لا يُخلف ميعاده .
إنّ كل الخلافات والانحرافات والانهزامات وتسلّط الكافرين على المسلمين سببه اليوم الذي أبعد فيه أهل البيت (ع) عن الأمر ، لولا ذلك لما كانت نكبة فلسطين التي مرّت ذكراها الـ 66 ، هذه الذكرى التي نسيها الكثيرون وتناساها آخرون تماشياً مع المؤامرات الصهيو أمريكية ، وأضاعوا الأولويات وانشغلوا بكلّ جهد بتنفيذ أوامر الشيطان الأكبر والشر المطلق بتمزيق العالمين العربي والإسلامي ليستمر الصهاينة في تثبيت دولتهم اليهودية ، حيث يعملون على تهويد القدس وهدم المسجد الأقصى والقضاء على حلم العودة للشعب الفلسطيني .
إنّ أكثر خيرات العالم والمواد الأولية أودعها الله سبحانه في باطن هذه المنطقة التي تلهّى حكّامها بالفتات يتنعّمون بها ويتسلّطون على شعوبها ويقمعون حريّاتهم ، إلاّ إيران الإسلام حيث استطاع الإمام الخميني (رض) إسقاط الشاه العميل ، واستطاع أن يقيم دولة تمسّكت بالكتاب والعترة فارتقت إلى مصافّ الدول الكبرى علماً وقوّةً واستثماراً لمواردها وثرواتها التي حرّرتها من الشركات العالمية التي كانت تستثمرها ، إنّ ما يعيشه العالم الإسلامي عامةً والعالم العربي خاصّةً لا يمكن الخروج منه إلاّ بالعودة لتعاليم السماء الأصيلة وإيثار الآخرة على الدنيا .
في لبنان – حسب الظاهر – الشعب اللبناني أكثر شعوب المنطقة دفعاً للضرائب وأقلّها نصيباً من الخدمات ، وخاصةً على صعيد الكهرباء والماء والطبابة والتعليم ، إنّ ما نشهده من اضرابات يطالب أصحابها بحقوقهم لا يمكن الخروج منه وتحقيق المطالب إلاّ إذا حزم الحكم أمره ، وإنْ لم يُطبّق قانون : من أين لك هذا ؟ فعلى اأقل العمل لإيقاف الهدر والتراجع عن قرارات ومشاريع تهدر المال العام ولا تحقّق شيئاً للمواطنين ، والعمل بشفافية لإنصاف العمّال والموظّفين الذين لا يريدون – الأكثر منهم – إلاّ الكفاف من العيش ليطمئنوا على حاضرهم ومستقبل أولادهم وسلامة الوطن الذين بذلوا كل جهدٍ في سبيله ، حيث طردوا الاحتلال ومنعوا التقسيم بإخلاصهم لا بعمل الدولة العاجزة التي لو تُرك الأمر للمتسلّطين فيها لما تحرّرت أرض ولا سلم شعب ولا بقي جيش وطني يحفظ الأمن في لبنان ويبحث عن المخلّين بالقانون والناشرين للإرهاب .
إنّ لبنان لا يقوم إلاّ برئيس قوي ويجب أن يأتي بفعل اللبنانيين لا من خلال تفاهمات خارجية ، لأنّ شعباً صنع مقاومة وحفظ جيشاً وطنياً يستحق رئيساً صُنع في لبنان ، رئيسٌ يحفظ الوطن بشعبه وجيشه ومقاومته إلى أن يصير لنا جيشٌ قادرٌ على ردع جيش العدو يطمئنُ الشعب ويريح المقاومة ليكونوا مواطنين مخلصين لهذا الوطن ينهضون به وليبقى لبنان وطناً نهائياً لجميع أبنائه وطوائفه ، كما أراده المخلصون لهذا الوطن والعاملون على قوّته واستمراره وعلى رأسهم الإمام المغيّب السيد موسى الصدر الذي تآمر عليه السائرون في فلك المشروع الصهيو أمريكي لتفتيت المنطقة ، لكن الله ردّ مكرهم في نحورهم ، أخفوا الإمام الصدر الذي كان صامداً في وجه مشاريعهم وخاصةً مشروع هنري كسينجر ، الذي أسقطه الإمام الخميني (رض) بإسقاط شاه إيران وحكومته وسقط معه مشروع تفتيت المنطقة ، ولأنّ الإمام الخميني كان مطيعاً لربه ومخلصاً لشعبه ومتمسكاً بالكتاب والعترة ، فأقام الإمام الخميني دولة الإسلام في إيران ، دولةً لم تستطع كلّ الحروب والمؤامرات والحصارات وغيرها من إضعافها ، وبعد كلّ هجمة أو مؤامرة كانت تخرج منتصرة وأعظم وأقوى مما كانتا عليه ، فبعد اسبوع تطلّ ذكرى انتصار المقاومة الإسلامية بتحرير الجنوب عام 2000م ، وبعد حوالي اسبوعين تطلّ ذكرى وفاة الإمام الخميني العظيم فسلامٌ عليه يوم ولد ويوم توفي ويوم يبعثه الله مع أجداده الطاهرين .
وآخر دعوانا أن صلِّ اللهم على المصطفى وآله الطاهرين والحمد لله رب العالمين