العـلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
ـ 2 ـ
الانسان ونموه في مجتمعه
المجتمع الانساني كسائر الخواص الروحية الانسانية ، وما يرتبط بها لم يوجد حين وجد تاماً كاملاً لا يقبل النماء والزيادة ، بل هو كسائر الامور الروحية الإدراكية الإنسانية لم يزل يتكامل بتكامل الانسان في كمالاته المادية والمعنوية ، وعلى الحقيقة لم يكن من المتوقع أن تستثنى هذه الخاصة من بين جميع الخواص الانسانية فتظهر أول ظهورها تامة كاملة أتم ما يكون وأكمله بل هي كسائر الخواص الانسانية التي لها ارتباط بقوتي العلم والإدارة تدريجية الكمال في الانسان .
والذي يظهر من التأمل في حال هذا النوع أن أول ما ظهر من المجتمع فيه الاجتماع المنزلي بالازدواج لكون عامله الطبيعي ، وهو جهاز التناسل أقوى عوامل الاجتماع لعدم تحققه إلا بأزيد من فرد واحد أصلاً بخلاف مثل التغذي وغيره ، ثم ظهرت منه الخاصة التي سميناها في مباحث كتابنا ( الميزان ) بالاستخدام وهو توسيط الانسان غيره في سبيل رفع حوائجه ببسط سلطته وتحميل إرادته عليه ثم برز ذلك في صورة الرئاسة كرئيس المنزل ورئيس العشيرة ، ورئيس القبيلة ، ورئيس الأمة ، وبالطبع كان المقدم المتعين من بين العدة أولاً أقواهم وأشجعهم ، ثم أشجعهم وأكثرهم مالاً وولداً ، وهكذا حتى ينتهي إلى أعلمهم بفنون الحكومة والسياسة ، وهذا هو السبب الابتدائي لظهور الوثنية ، وقيامها على ساقها حتى اليوم .
____________
(1) سورة الفرقان ، الآية : 54 .
( 9 )
وخاصة الاجتماع بتمام أنواعها ( المنزلي وغيره ) وإن لم تفارق الانسانية في هذه الأدوار ، ولو برهة إلا أنها كانت غير مشعور بها للإنسان تفصيلاً بل كانت تعيش وتنمو بتبع الخواص الاخرى المعني بها للإنسان كالاستخدام والدفاع ونحو ذلك .
والقرآن الكريم يخبرأن أول ما نبه الانسان بالاجتماع تفصيلاً واعتنى بحفظه استقلالاً نبهته به النبوة ، قال تعالى : ( وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ) (1) .
وقال أيضاً : ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ) (2) ، حيث ينبىء أن الانسان في أقدم عهوده كان أمة واحدة ساذجة لا اختلاف بينهم حتى ظهرت الاختلافات وبانت المشاجرات فبعث الله الأنبياء وأنزل معهم الكتاب ليرفع به الاختلاف ، ويردهم إلى وحدة الاجتماع محفوظة بالقوانين المشرعة . وقال تعالى : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) (3) .
فأنبأ أن رفع الاختلاف من بين الناس وإيجاد الاتحاد في كلمتهم إنما كان في صورة الدعوة إلى إقامة الدين وعدم التفرق فيه ، فالدين كان يضمن اجتماعهم الصالح .
والآية : ـ كما ترى ـ تحكي هذه الدعوة ( ودعوة الاجتماع والاتحاد )
____________
(1) سورة يونس ، الآية : 19 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 213 .
(3) سورة الشورى ، الآية : 13 .
( 10 )
عن نوح عليه السلام ، وهو أقدم الأنبياء أولي الشريعة والكتاب ثم عن إبراهيم ، ثم عن موسى ، ثم عن عيسى عليهم السلام ، وقد كان في شريعة نوح وإبراهيم النزر اليسير من الاحكام ، وأوسع هؤلاء الأربعة شريعة موسى ، وتتبعه شريعة عيسى على ما يخبر به القرآن وهو ظاهر الأناجيل وليس في شريعة موسى ـ على ما قيل ـ سوى ستمائة حكم تقريباً .
فلم تبدأ الدعوة إلى الاجتماع دعوة مستقلة صريحة إلا من ناحية النبوة في قالب الدين كما يصرح به القرآن ، والتاريخ بصدقه .