لم تحتمل صنعاء طوال سنة ونصف السنة من حرب “التحالف السعودي” عليها، مثلما احتملت خلال اليومَين الماضيين. نحو 700 قتيل وجريح في “محرقة العزاء” في أربع غارات جوية متتالية على حشود في قلب العاصمة اليمنية، تناثرت دماؤهم في وجه الجميع، في جريمة أحرجت الراعي الأميركي للحرب، لكنها لم تخرجه منها، كشريك وحليف ومتواطئ.
الفجوة الواسعة في سقف أحد مباني مجلس العزاء في القاعة الكبرى في صنعاء، بفعل أحد صواريخ غارة “التحالف السعودي”، تفضح بطلان التشويش على الجريمة الموصوفة التي ارتكبت السبت، والتشكيك بها. صور الجثث المتفحمة والأشلاء المتناثرة والجرحى المبتوري الأطراف، تقول في ما تقول إن الحرب السعودية على “جارها” اليمني، بلغت ما هو أبعد من العبثية، وإن كل يوم يمر عليها صار بمثابة جريمة موصوفة.
الحقيقة الثابتة أن وزير الحرس الوطني السعودي الأمير متعب بن عبدالله بن عبد العزيز، سيتلقى رصاصات الرد اليمني الأكثر قساوة، على الجبهات الجنوبية للمملكة، بعدما تضافرت نداءات اليمنيين لـ “الثأر”، بمستوى لم تصله هتافات الحرب منذ بدايتها قبل 18 شهرا، عندما أعلن السعوديون بكل خفة، في أيامها الأولى، تدمير أكثر من 90 في المئة من قدرات “العدو”.. وما زالت الحرب مستمرة حتى الآن!
وتقول مصادر مقربة من المجلس السياسي الأعلى في صنعاء، إن المشاهِد المصوَّرة التي تواردت بكثرة خلال الأسابيع الماضية لهجمات قوات الجيش اليمني و”اللجان الشعبية” في مناطق داخل المملكة السعودية كما في نجران وجيزان والخوبة وغيرها، ستتصاعد في المرحلة المقبلة، بعد نداءات التعبئة والنفير العام التي وجهها كل من زعيم حركة “أنصار الله” عبد الملك الحوثي والرئيس السابق علي عبدالله صالح.
ولم تستبعد المصادر أيضا أن تشهد الحرب عملياتِ إطلاقٍ مكثفٍ للصواريخ نحو العمق السعودي، ردا على الجريمة الكبرى التي ارتكبت في صنعاء، وهي ربما الأكثر دموية منذ بدء عدوان “التحالف السعودي”.
وكان الردّ الأولي قد جاء سريعاً بإعلان حركة “أنصار الله” مقتل 25 جندياً سعودياً وإصابة عشرات آخرين في عمليات اقتحام في الخوبة في جيزان. وكان الحوثيون وعدوا الرياض بـ”ردّ عسكري عنيف ومباشر ثأرًا لدماء” اليمنيين الذين تظاهروا بالآلاف، تحت شعار “براكين الغضب” احتجاجًا على المجزرة.
ودعا عبدالملك الحوثي الشعب اليمني إلى “النفير العام” والتحرك نحو الحدود السعودية وكل جبهات المواجهة مع السعوديين و”المرتزقة” من جماعة الرئيس المطعون في شرعيته عبد ربه منصور هادي، وذلك من أجل “أخذ الثأر من قتلة النساء والأطفال”.
وخاطب الحوثي اليمنيين بالقول “علينا أن ننفر على كل المستويات، علينا أن نأخذ بثأرنا لنكون رجالا وأحرارا.. إذا تخلفنا لن يسامحنا التاريخ ولن تسامحنا الأجيال”، مضيفا أن هذه الجريمة “وصلت في بشاعتها إلى درجة التحرج لدى العدو الأميركي في الدرجة الأولى منها رغم كونه المشارِك والمخطِّط والمدير للعدوان، وذلك في سياق محاولته لتقديم نفسه بأنه طرف محايد”.
وكان الرئيس السابق علي عبدالله صالح دعا وزارة الدفاع ورئاسة الأركان ووزارة الداخلية إلى “وضع الترتيبات اللازمة لاستقبال المُقاتلين في جبهات نجران وجيزان وعسير للأخذ بثأر ضحايانا… آن الأوان وحانت ساعة الصفر أن أدعو ابناء القوات المسلحة والأمن واللجان الشعبية كافة.. إلى جبهة القتال، إلى الحدود، للأخذ بالثأر، للأخذ بثأر ضحايانا”.
وأعلنت وزارة الصحة التابعة للحوثيين أن الغارات الأربع على الصالة الكبرى في ساحة السبعين الكبيرة في صنعاء، حيث كان يُشارك آلاف الأشخاص بمراسم عزاء والد وزير الداخلية الموالي للحوثيين جلال الرويشان، أدت إلى مقتل وجرح 700 شخصّ وهي حصيلة مرشّحة للارتفاع، ودعت الوزارة الأمم المتحدة إلى المُساعدة في نقل 300 جريح للعلاج في الخارج نتيجة للجروح البليغة التي يُعانون منها.
ومن بين ضحايا المجزرة محافظ صنعاء عبدالقادر هلال، ورئيس الدائرة الاقتصادية في حزب “المؤتمر” عبدالله غالب المخلافي، وعضو اللجنة العامّة لحزب “المؤتمر الشعبي العامّ” اللواء محمد ناصر العامري وإبنه، وقائد الأمن المركزي في صنعاء العقيد محمد بن محمد هلال ونائب مدير أمن محافظة صنعاء العميد محمد عايض شديق، وعضو المكتب السياسي لحركة “أنصار الله” مبارك المشن الزايدي.
وفي ردّ أولي على المجزرة، نفّذ الحوثيون وحلفاؤهم من أنصار صالح عمليتَين عسكريتين على موقعَي الكرس والقرن في قطاع جيزان، ما أدى إلى مقتل أكثر من 25 عسكرياً سعودياً بينهم ضباط، وفقاً لقناة “المسيرة”.
واستجابة لدعوة “المجلس السياسي الأعلى، خرج آلاف اليمنيين في تظاهرة تحت شعار “براكين الغضب”، أمام مكتب الأمم المتحدة في صنعاء للتنديد بـ”جرائم الحرب” التي يرتكبها “التحالف”. وحمل المتظاهرون الأعلام اليمنية وردّدوا عبارات: “الموت لآل سعود” و”بالروح بالدم نفديك يا يمن”.
وطالب رئيس “اللجنة الثورية العليا” محمد علي الحوثي “المجلس السياسي الأعلى” بفتح معسكرات التدريب لكي يلتحق بها أبناء الشعب اليمني.
من جهته، قال رئيس وفد حركة “أنصار الله” المُفاوِض محمد عبدالسلام إن المجزرة ستنعكس سلباً على المفاوضات، مشدّداً على أن ما حصل “يُحتّم أن يكون هناك ردّ مؤلم في مختلف الجبهات.. لكي يشفي غليل اليمنيين”.
مراجعة فورية؟
قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي للبيت الأبيض نيد برايس في بيان، إن “التعاون الأمني للولايات المتحدة مع السعودية ليس شيكاً على بياض.. وفي ضوء هذه الحادثة وغيرها من الحوادث الأخيرة، شرعنا في مراجعة فورية لدعمنا الذي سبق وانخفض بشكل كبير للتحالف الذي تقوده السعودية”، مضيفاً أن الولايات المتحدة “مستعدة لضبط دعمها بما يتلاءم بشكل أفضل مع المبادئ والقيم والمصالح الأميركية، بما في ذلك التوصّل إلى وقف فوري ودائم للنزاع المأساوي في اليمن”.
واكتفى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون بالمطالبة بإجراء تحقيق سريع ومستقلّ ونزيه في المجزرة. وأعلن المُنسّق الإنساني للأمم المتحدة في اليمن جايمي ماكغولدريك أن “المجتمع الإنساني مصدوم ومروَّع بالغارات الجوية التي استهدفت قاعة عامة حيث كان يُشارك آلاف الأشخاص بمراسم عزاء”.
وطالبت وزارة الخارجية الروسية بتحقيق “دقيق وموضوعي” حول مجزرة صنعاء، وبعقاب “صارم” للمنظّمين والمنفّذين. بينما طالبت باريس بتحقيق مستقلّ بهدف تحديد هوية المرتكبين”. واتّهم وزير الدفاع الإيراني العميد حسين دهقان الحكام السعوديين بأنهم “مُجرمو حرب ويجب أن يُحاكموا بأسرع وقت”.
محرر الشؤون العربية ــ السفير