دور أهل البيت عليهم السلام في بناء الجماعة الصالحة
3 أكتوبر,2017
بحوث اسلامية
1,536 زيارة
الجانب الروحي والمعنوي
تمهيد:
عندما بدأ أئمة أهل البيت(عليهم السلام) بناء الجماعة الصالحة وضعوا مجموعة من القواعد والاسس القوية والمحكمة لارساء هذا البناء عليها، وقد تم استنباط هذه القواعد والاسس من الرسالة الاسلامية الخاتمة بحيث تمثل الفهم الصحيح للرسالة من ناحية، وتحقق الاهداف والخصائص ـ سالفة الذكر ـ من ناحية اخرى.
ولذلك نجد أن هذه القواعد والاسس اتصفت بالشمولية والاصالة والاحكام والانسجام، فكانت مزيجاً من الابعاد والجوانب تتوافر فيه جميع مستلزمات البناء المرصوص المحكم الذي يؤهّله للقيام بهذا الدور التاريخي وهو حفظ الاسلام والامة الاسلامية والدفاع عنهما من ناحية، وتحقيق المثل الصالح للجماعة الانسانية في مسيرة البشرية من ناحية أخرى.
وتمثل هذه القواعد والاسس الجانب العقائدي والاخلاقي والثقافي والمعنوي والروح المعنوية العالية والخطوط السياسية العامة.
وبذلك يكون امامنا خمسة من فصول البحث في هذا الباب وسوف نتناول كلّ واحد من هذه الفصول الخمسة بالاشارة والحديث المختصر وسوف يتبين بعض التفصيل لها من خلال القسم الثاني عندما نتناول البناء الفوقي والانظمة للجماعة الصالحة.
علماً بأن كل واحد منها يصلح لدراسة مستقلة وثائقية وتاريخية وتحليلية.
الفصل الأول
الفكـر والعقيدة
لقد اهتم أهل البيت(عليهم السلام) اهتماماً خاصاً ومتميّزاً بجانب الفكر والعقيدة; لانه يعتبر الاساس الذي يمكن أن يقوم عليه بناء أي جماعة بشرية. وبمقدار ما يكون هذا الجانب قوياً وواضحاً ومنسجماً وشمولياً، تكون الجماعة قوية وقادرة على مواجهة المصاعب والمشكلات والظروف المختلفة التي تفرزها حركة التاريخ.
ومن خلال هذه الرؤية لدور الجانب العقائدي والفكري نجد أن القرآن الكريم يهتم به أكبر اهتمام، ويعالج ـ في المجتمع الجاهلي ـ القضية العقائدية والفكرية، قبل كل شيء. ويرسّخ في المجتمع (الجماعة الاسلامية) هذه القضية.
ويمكن أن نلاحظ في بناء الكتلة الصالحة والجماعة الصالحة الذي أقامه أهل البيت(عليهم السلام) من خلال هذا الجانب (الفكري والعقائدي)، الامور التالية:
1 ـ القرآن والسنة مصدرا العقيدة:
الالتزام بطرح الافكار والعقائد التي يمكن استنباطها من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، حيث كانوا دائماً يستشهدون على هذه العقائد بالنصوص القرآنية والاحاديث النبوية، بالاضافة إلى الالتزام بأن يكون الطرح منسجماً مع الفطرة الانسانية السليمة.
ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح من خلال النصوص التي وردت عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) في توضيح هذه الافكار والعقائد، وكذلك في اساليب الاحتجاج والمناقشة للافكار الاخرى([1][54]).
وقد اعطى أهل البيت(عليهم السلام) اهمية خاصة للعقل في فهم العقيدة، ولكن إنما كان ذلك من اجل ترسيخ المنهج الصحيح في ادراك الامور ـ كما سوف نعرف في النقطة الرابعة ـ وايجاد القناعة واليقين بالافكار العقائدية التي لا يصح الاكتفاء فيها بالظن. ومع ذلك لم يُغفل اهل البيت(عليهم السلام) موضوع تأكيد أن جميع العقائد الصحيحة قد جاء بها الكتاب الكريم والسنة النبوية واكدها العقل البشري والفطرة الانسانية السليمة.
2 ـ التكامل بين العقيدة والمذهب:
مراعاة التكامل المذهبي والعقائدي بين أصول العقائد والفطرة الكليّة للكون والحياة وعالم الغيب والشهادة من ناحية، والفروع التي تتفرّع عن هذه العقائد من ناحية أخرى، أي التكامل بين النظرية والتطبيق، وبين العقيدة والسلوك، وبين الاصول والفروع. فالمذهب الامامي يقوم على أساس العقيدة التي ترى أن أهل البيت(عليهم السلام) يمثلون دوراً يرتبط بالعقيدة في النظرة الكلية للاسلام، وأن الامامة لها بُعد إلهي يشبه بُعد الرسالة ومسؤولياتها باستثناء الوحي، لان الامام منصوب من قبل الله تعالى كما أن الرسول مبعوث ومرسل منه تعالى.
إن السلوك الانساني يتأثّر بهذا الفهم العقائدي حيث يشاهد الربط بين الايمان (بالولاية) وتكامل (الاعمال والسلوك).
فقد روى الكليني في الصحيح عن احدهما(عليهما السلام) قال: «الايمان إقرار وعمل والاسلام إقرار بلا عمل»([2][55]).
وأيضاً عن الامام الرضا(عليه السلام) قال: «من أحب عاصياً فهو عاص، ومن أحب مطيعاً فهو مطيع، ومن أعان ظالماً فهو ظالم، ومن خذل ظالماً فهو عادل. إنه ليس بين الله وبين أحد قرابة، ولا تنال ولاية الله إلاّ بالطاعة».
وفي عيون الاخبار عن ابراهيم بن محمد الهمداني: «من خذل عادلاً فهو ظالم» وفيه: «لا ينال احد ولاية الله» ذيله: «ولقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لبني عبد المطلب: ائتوني بأعمالكم لا بأحسابكم وانسابكم. قال الله تعالى: (فإذا نُفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون * فمن ثقُلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفّت موازينه فأولئك الذين خسروا انفسهم في جهنم خالدون)([3][56]).
كذلك الاخذ عن (أئمة أهل البيت(عليهم السلام)) سواء في الاصول أو الفروع إنّما هو أخذ عن الانسان الذي يتّصف (بالعلم الكامل) ولكن في المدى الانساني، و (بالعصمة) عن الذنب والخطأ في البيان، و (بحق الولاية)، والامر والنهي في المصاديق والتفاصيل.
عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «إن العلم الذي نزل مع آدم(عليه السلام) لم يرفع، والعلم يتوارث، وكان علي(عليه السلام) عالم هذه الامّة، وإنّه لم يهلك منّا عالم قطّ إلاّ خلفه من أهله من عَلِمَ مثل علمه، أو ما شاء الله»([4][57]).
وعنه(عليه السلام): «إنّ العلم يتوارث، ولا يموت عالم إلاّ وترك من يعلم مثل علمه، أو ما شاء الله»([5][58]).
وعن ضريس الكناسيّ قال: «كنت عند أبي عبد الله(عليه السلام) وعنده أبو بصير فقال ابو عبد الله(عليه السلام): إن داود ورث علم الانبياء، وان سليمان ورث داود، وان محمداً(صلى الله عليه وآله وسلم) ورث سليمان، وإنا ورثنا محمداً(صلى الله عليه وآله وسلم) وإن عندنا صحف إبراهيم وألواح موسى، فقال أبو بصير: إن هذا لهو العلم، فقال: يا أبا محمد ليس هذا هو العلم، إنّما العلم ما يحدث بالليل والنهار، يوماً بيوم وساعة بساعة»([6][59]).
فلا يكون الاخذ عنهم من قبيل الاخذ عن (الرواة) أو (المجتهدين) الذين يكون دورهم النقل والفتوى، ويرجع إليهم الناس في حدود معرفة الحكم الشرعي من خلال النقل والفتوى دون أن يكون لهم حق الولاية والتشريع في منطقة الفراغ كما أن المجتهدين يعتمدون على الحدس ويتعرضون إلى الاشتباه والنسيان في الفهم أو في حفظ النص أو الاستنباط منه وهذا بخلاف أئمة الهدى من أهل البيت(عليهم السلام) فإن لهم الولاية وعلمهم يقيني قطعي.
عن محمد بن الحسن الميثمي، عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: «سمعته يقول: إن الله عزّوجلّ أدّب رسوله حتى قوّمه على ما أراد، ثمّ فوّض إليه فقال عزّ ذكره: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) فما فوّض الله إلى رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم)فقد فوّضه إلينا»([7][60]).
ولذلك لم تتعرّض هذه الجماعة إلى حالة الانفصام والتأرجح بين الاوامر التي كان يصدرها الحكّام والولاة للمجتمع الاسلامي العام والتي كان يراها العامة والجمهور ذات صيغة شرعية، وقد تكون من منطلقات الانفعال والتأثر بالاهواء والعواطف ـ أحياناً ـ أو الظروف السياسية التي كانت تحيط بهم، أو يتعرضون أحياناً أخرى إلى الاشتباه والخطأ، وبين الفتاوى التي كان يصدرها المجتهدون من منطلقات الفهم الخاص للنص القرآني والسنّة النبوية، أو الرجوع إلى الظنون مثل قواعد (القياس) و(الاستحسان) و(المصالح المرسلة) وغيرها، عندما يعجزون عن الوصول إلى النص الشرعي، أو يصدرون فتواهم في مقابل هذا النص، كما في موارد الاجتهاد في مقابل النص، حيث كانوا يرونه بعيداً عن مواقع الاستحسان أو المصالح الاجتماعية المرسلة التي كانوا يرونها من خلال فهمهم لحركة المجتمع وقد تعرض بعض هؤلاء الفقهاء للاذى والملاحقة من قبل هؤلاء الولاة في بعض الاحيان بسبب هذا التناقض، كما حصل ذلك لابي حنيفة الذي تعرض للسجن والاعتقال من قبل المنصور بسبب موقفه السياسي في تأييد يحيى بن زيد، وكذلك احمد بن حنبل بسبب موقفه من قضية خلق القرآن واختلافه مع المأمون في ذلك.
كما أن هذه الجماعة الصالحة لم تتعرّض إلى حالة الانفصام بين الكلاميّين والفلاسفة المسلمين أصحاب النظريات والمتبنّيات العقائدية التي اختلفوا فيها أشدّ الاختلاف، وبين الفتاوى التي أفتى بها فقهاء قد لا يلتزمون هذه النظرية أو تلك، بحيث واجهت بعض الجماعات الاسلامية حالة الرجوع إلى فقيه يلتزم متبنّيات عقائدية وفكرية معينة فيكون اشعرياً أو معتزلياً أو مفوضاً أو غير ذلك من العقائد التي قد يختلف فيها مع مقلِّده الذي أخذ بالنظريات العقائدية والفكرية من رجال آخرين.
ولذلك لا نجد بين علماء ومجتهدي الشيعة وأتباع أهل البيت هذا الاختلاف العقائدي والفكري الذي نراه في علماء المذاهب الاسلامية.
([1][54]) يمكن مراجعة البحار ج10 وكذلك كتاب الاحتجاج للطبرسي واصول الكافي، كتاب الايمان والكفر. وكذلك تراجم أئمة أهل البيت(عليهم السلام) في مظانها، فإن هذه الكتب مملوة بالاحتجاجات التي تستند إلى القرآن والسنة والعقل. وعلى سبيل المثال نذكر النموذجين التاليين:
1 ـ احتجاج فاطمة(عليها السلام): «أيها المسلمون، أأُغلب على إرثي؟ يابن أبي قحافة، أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فرياً! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول: (وورث سليمان داود)، وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا إذ قال: (فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب) وقال: (وأولو الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) وقال: (يوصيكم الله في اولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) وقال: (إن ترك خيراً الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقاً على المتقين)وزعمتم أن لاحظوة لي ولا إرث من أبي ولا رحم بيننا. أفخصّكم الله بآية أخرج أبي منها؟ أم هل تقولون: إن أهل ملَّتين لا يتوارثان؟ أو لست أنا وأبي من اهل ملَّة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟ فدونكما مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولا ينفعكم إذ تندمون، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم…» (الاحتجاج: 102).
2 ـ احتجاج امير المؤمنين(عليه السلام) على قتال أهل البصرة:
عن الاصبغ بن نباتة قال: «كنت واقفا مع أمير المؤمنين(عليه السلام) يوم الجمل فجاء رجل حتى وقف بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين، كبَّر القوم وكبّرنا وهلّل القوم وهلَّلنا، وصلَّى القوم وصلَّينا، فعلام تقاتلهم؟ فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): على ما أنزل الله جل ذكره في كتابه. فقال: يا أمير المؤمنين، ليس كل ما أنزل الله في كتابه أعلمه فعلِّمنيه، فقال علي(عليه السلام): ما أنزل الله في سورة البقرة. فقال: يا أمير المؤمنين، ليس كل ما أنزل الله في سورة البقرة أعلمه فعلِّمنيه، فقال علي(عليه السلام) هذه الاية: (تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض منهم من كلَّم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعدما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) فنحن الذين آمنا وهم الذين كفروا. فقال الرجل: كفر القوم وربِّ الكعبة. ثم حمل فقاتل حتى قتل رحمه الله». الاحتجاج: 169 ـ 170.
([2][55]) اصول الكافي 2: 24، ح2.
([3][56]) وسائل الشيعة 11: 446 ، ح6.
([4][57]) اصول الكافي 1: 222 ح2.
([5][58]) المصدر نفسه: ح3.
([6][59]) المصدر نفسه: 225 ،ح4.
([7][60]) اصول الكافي 1: 268، ح9.
2017-10-03