الشيعـة والتحـريف
لا يمكننا الآن أن نتخلّى عن حياديّتنا حيال أهمّ وأقدس موروث ورثه المسلمون، فقداسة القرآن تطغى على كل محاباة تقتحم وجدان الإنسان ومشاعره وهو في غمرة الخوض بأخطر البحوث على الإطلاق، فقد احتل القرآن الكريم الصدارة في الموروث التقديسي لدى المسلمين، ولعلّ محاولات التحريف التي حامت حولـه كانت دوافعها بسبب ما للقرآن من قدسيّة بين المسلمين، فالوضّاعون حاولوا النيل من قداسة القرآن الكريم لأنّ قداسة المسلمين مستمدّة منها، ودفع التنافس السياسي الذي أربك المواقف بالقيادات السياسية أن تزجّ بنفسها في معترك جمع القرآن وقد أخفقت في جمعه، لكنها سعت إلى تحريك محاولات تحريفه، ـ كما أشرنا ـ ولم تحظ محاولاتهم في هذا المجال بتأييد المسلمين الذين يتطلّعون إلى الاهتمام بالقرآن الكريم ومحاولات حفظه وصيانته، فبقيت هذه المحاولات ضمن إطار المناورة السياسية التي تجيد لعبتها.
إلاّ إنّ ذلك لم تتوفّر دواعيه لدى الشيعة من بادئ الأمر، فالعهد الذي تكلّل بالابداع الفكري الذي تزعّمه عليّ(ع) إبّان عهده جعل للقرآن الكريم الحظوة في الاهتمام والأولوية في العمل، ولم نجد ما يدعو إلى تعرّض القرآن الكريم للتحريف.
فإنّ القيمومة على القرآن كان يتأهّل بها عليّ بن أبي طالب(ع) لما حظي به من قربٍ من رسول الله(ص)، فكانت ملازمته له والأخذ عنه سبباً في أن يكون جهد عليّ(ع) موفوراً على القرآن واهتمامه منصبّاً فيه، وأهمّ خطوة خطاها عليّ بن أبي طالب(ع) على الاطلاق هو حفظه للقرآن وصيانته له من العبث، وبالتالي تقديمه للمسلمين محفوظاً بقداسته.
نعم، ممّا يؤاخذ على القيادة السياسية في تعاطيها مع القرآن أنها لم تستغل ما قدّمه عليّ(ع) من التفسير الذي كان مع القرآن فهي حاولت وبكل أسف أن تنتقي النصوص وتترك التفسير الذي كلّف الاُمّة تركه وتغييبه، بروز الآراء الاجتهادية وانبثاقها عن رغبات كانت على حساب مفاهيم القرآن ومعانيه.
صحيح أنّ أئمة أهل البيت(ع) كانوا هم المرجع في معرفة القرآن وتفسيره لما ورثوا من القرآن وتفسيره عن عليّ(ع)، إلا أنّ ذلك بقي في حدود دائرة شيعتهم وخاصّتهم.
ولنا أن نتساءل الآن: لماذا لم يجدّد عليّ بن أبي طالب(ع) محاولته في فرض القرآن الذي ورثه من النبيّ(ص) مع تفسيره وحمل الاُمّة ـ على الأقل أيام خلافته ـ على الأخذ به وفرض التعاطي معه رسمياً وشعبياً؟
وللوقوف على أسباب ذلك، فإنّنا لا يمكننا أن نتجاهل التداعيات السياسية التي عاشها عليّ إبّان السقيفة حتّى فترة حكمه.
فقد كان عليّ(ع) ـ كما ذكرنا ـ مأخوذاً بالظرف المتشنّج الذي اعتمدته القيادة، أي كان عليّ(ع) تحت وطأة الأحكام العرفيّة التي تدين أيّة حركة على أساس التهمة المحتملة، أو على أساس المعارضة القادمة من رحم الأحداث التي أحدثتها حركة السقيفة الإنقلابية، وبالتأكيد أنّ ذلك سيُبرزُ معارضة على اختلاف توجّهاتها، بل على اختلاف مستوياتها، فالمعارضة السياسية تتّكئ على المعارضة الفكرية التي أدانت السقيفة بأنّ عملها خروج
على الموروث الذي يفترض الأخذ به، وهو الوصاية من قبل
رسول الله(ص) إلى المؤهّل لخلافته بعد أن عرف رسول الله(ص) قدرات ومواهب عليّ بن أبي طالب(ع) أثناء ملازمته للنبيّ(ص) طيلة فترة حياته، ورسول الله(ص) أجَلّ من أن تأخذه أهواء القربى ونوازع العصبية دون أن يقدّم ما عرفه من مواهب القيادة في عليّ(ع) وتُحال المعارضة الفكرية إلى معارضة سياسية متنامية إلى رؤى واُطروحات في الخلافة والحكم.
إذن فعليٌّ(ع) «بكل تفاصيله» معارضة تقليدية لأيّة قيادة سياسية سوف تبتني كياناتها على قواعد السقيفة واُسسها، فأقوال عليّ(ع) وخطبه ومناهجه حتّى قرآنه الذي تعهّد بتفسيره وتأويله يُعدّ معارضة خارجة على القانون، بل تنامى هذا الشعور لدى القواعد الشعبية حتّى أخذت تتعاطى ذلك في أدبيّاتها، لتتكوّن بذلك العقلية الإسلامية الشعبية على أنّ كل ما لم يألفه المسلمون إبّان عهد الشيخين هوخروج على المألوف الشرعي الذي لا يمكن التعامل معه، وإلاّ ماذا يعني قول عليّ «لا يهاج القرآن اليوم»([1]). إلاّ دليلاً على أنّ عليّاً(ع) كانت تطوّقه تقليديات السقيفة التي لايمكنها أن تترك له شأناً في التحرك أو فرصة في الاصلاح، والحروب الثلاثة التي أحاطت بفرصه في الاصلاح ـ صفين والجمل والنهروان ـ دليل على حركة السقيفة السلبية وفاعليتها المعارضة ضدّ عليّ(ع) حتّى في حكمه.
إذن فلا يمكن أن يفرض عليٌّ(ع) ما لديه من القرآن المفسّر على مكوّنات عقلية السقيفة وامتداداتها. وعلى أيّ حال نبقى نسجّل لعليّ(ع) وبكل اعتزاز ما بذله من أجل حفظ القرآن وصيانته من التحريف وذلك فيما قدّمه من النصّ القرآني المفسّر، إذ القرآن لا يحفظ في نصوصه فقط، بل في تفسيره كذلك والنصوص الخالية من التفسير توفّر فرصاً أكثرفي إقحام الآراء والاجتهادات التي تنشأ منها محاولات التحريف، ومحاولة عليّ(ع) في تقديم النصّ المفسّر بقرآنيته اُحيطت بالمعارضة الشديدة من قبل السياسة بكل تأكيد، إلاّ أنهّا تبقى تفعل فاعليّتها طالما تعيش حيويتها في حركة الإمامة أي اهتمام أئمة أهل البيت(ع) في تقديم القرآن بنصوصه المفسّرة متى دعت الحاجة إلى ذلك.
إلا ّ أنّ امتدادات القيادة السياسية تحوم حول فرص الاستفادة من الثروة التفسيرية التي خلّفها عليّ(ع)، حتّى أحالت هذه الجهود الرائعة إلى محاولات تشهير تقطع الطريق على محاولات أئمة أهل البيت(ع) في التفسير متهمة الجهود التفسيرية بأنها حالات تحريف تطال القرآن، إلاّ أنّ الحقّ خلاف ذلك، فإنّ الروايات التي بين أيدينا تدين محاولات التحريف وتحمّل المسؤولية في ذلك على القيادات السياسية الرافضة لحالات التفسير وتتّهمها هي بأنّها محاولات تحريف.
إلا ّ أنّ ذلك كما نرى تفريط غير مشروع بالتراث القرآني، فالشيعة من خلال متابعتنا لجهودهم حرصوا على إحباط محاولات التحريف وتصدّوا لها بكل قوّة، أمّا أنّهم يتّهمون بمحاولات التحريف فأمر ليس عملياً، إذ التحريف يعني دعوى سقوط آيات من النص القرآني ونقصان القرآن، أو زيادته لابدّ أن يصدر على لسان علمائهم، في حين لم نجد لهذا المعنى من أثر في تراثيات الشيعة وأدبياتهم.
نعم، حاولت بعض الجهات أن تستغل الروايات التي تشير إلى تفسير الآية بأنها محاولة تحريف دون الالتفات إلى مضامين هذه الروايات أو تغافلها تعمّداً من أجل إلصاق تهمة التحريف بالشيعة، في حين لا تتعدّى هذه الروايات عن ذكر معنى الآية، أو أنّ نزول الآية بمعناها كذا وليس كما يُظنّ أنّها كذا.
وهكذا فبالإمكان استعراض بيليوغرافيا للروايات المفسّرة
التي يستغلّها البعض لينسبها إلى التحريف دون دقّة علمية وتروًّ روائي.
——————————————————————————–
([1]) إعلام الخلف: 3/ 148.