سلمان الفارسي في سطور | على درب سلمان | سلمان قبل إسلامه ورحلة البحث عن الحقيقة | الهجرة إلى الله | مواقف سلمان | كراماته وفضائله |
سلمان الفارسي في سطور
وكان إذا قيل له: ابن من أنت؟ قال: أنا سلمان ابن الإسلام، من بني آدم.
يعرف بـ(سلمان الخير) من أهل مدينة أصبهان.
أبوه: خشنودان.
عانى كثيراً في البحث عن الحقيقة، والوصول إلى الإسلام.
شهد مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الخندق وما بعدها.
هو الذي أشار على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بحفر الخندق، كما أشار عليه يوم الطائف بنصب المنجنيق، وعمل الرسول (صلّى الله عليه وآله) بهما معاً.
كانت له من النبي (صلّى الله عليه وآله) منزلة رفيعة (1).
ذكره الشيخ الطوسي في الفهرست 110 من مؤلفي الشيعة.
أحد أعلام الصحابة، من المبرّزين منهم في العلم.
في الرعيل الأول من زهاد المسلمين.
نزل فيه من آي القرآن الكريم، وخلده الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) بأحاديث كثيرة.
امتنع من بيعة أبي بكر، وخطب عدة خطب في المسجد النبوي الشريف معارضاً السلطة.
أحد الأركان الأربعة (2).
ولاه عمر المدائن (3).
توفي في المدائن سنة 33هـ.
عمره 250 سنة (4).
قبره مزار يقصد للزيارة والدعاء، وبقربه قبر حذيفة بن اليمان، رضوان الله عليهما.
على درب سلمان
على مقربة من بغداد صوب الشرق. تلوح للناظر من بعيد بلدة صغيرة تدعى (المدائن) يلتقي فيها شاهدان. شاهد كسرى وشاهد سلمان.
أما شاهد كسرى، فذلك الطاق المحدودب الهرم الذي يحكي قصة جبروت صانعيه، والذي بقي أثراً من الإيوان الشهير الذي أقامه كسرى أنو شروان ليصبح فيما بعد مقراً للأكاسرة حيث كانوا يطلقون عليه اسم (القصر الأبيض) وكانوا يديرون من بين أروقته حكم ثالث إمبراطورية في العالم القديم. لم يبق منه اليوم سوى هذا الطاق. وهو إن دل على شيء فإنما يدل على شموخ الإسلام وعظمته حيث استطاع أن يقضي على مظاهر الأباطرة والأكاسرة بفترة وجيزة من أيام حكمه.
وأما شاهد سلمان، فضريح ومزار وقبة ومئذنتان ينطلق منهما صوت الحق عالياً مدوياً كل يوم يحكي قصة الإيمان والتضحية والشرف. وهنالك تحت تلك القبة الشامخة يتمدد جسد ذلك الصحابي العظيم (سلمان سابق فارس نحو الإيمان) والذي ستبقى روحه الزكية مناراً يشع عبر العصور بأسمى معاني النبل والوفاء للإسلام العظيم ولرسالته الخالدة، كما ستظل سيرته مؤشراً يلوح للمسلمين بأن يوجدوا خطاهم على درب الله.
إن من عظيم الحكمة وبديع التدبير أن يهيئ الله سبحانه أفراداً من أمم شتى وقوميات مختلفة يساهمون في دعم دينه وهو بعد لم يزل في طور نشأته ونموه. فكان منهم العربي والفارسي والرومي والحبشي والنبطي وكانوا كلهم سواء في ساحته يجسدون عنوان وحدته وشموله ويمثل هو عنوان وحدتهم وقوتهم دون أن يكون لاختلاف الدم أو العنصر أي تأثير.
ولقد كان للمبادرين الأول في هذا المضمار ميزة خاصة من بين سائر المسلمين مكنتهم من احتلال الصدارة في التاريخ الإسلامي، وأعطتهم لقب السبّاق نحو الإسلام وكان من بينهم صاحبنا سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه.
قال علي (عليه السلام): السبّاق خمسة، فأنا سابقُ العرب، وسلمان سابق فارس وصهيبُ سابق الروم، وبلال سابق الحبشة، وخباب سابق النبط.
لقد استطاع هؤلاء النفر أن يجسدوا نظرية الإسلام حول التفاضل بين بني الإنسان، هذه النظرية التي تقوم على أساس التقوى، تقوى الله سبحانه وإطاعته والسير على منهاجه الذي ارتضاه. كما هو صريح التعبير القرآني. قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(5).
فكانوا أوضح مصداق لهذا المضمون بفضل سلوكهم الصحيح المتسم بالإخلاص والجدية والتفاني في سبيل الله ورفع كلمته، وبهذا صار كل واحد منهم سابق أمته باستحقاق وجدارة.
ومن ثم، فقد شن الإسلام حرباً شاملةً في وجه العصبيات بشكل عام، وكافح دعاتها. فالعصبية ـ عنصرية كانت أو عرقيةً أو قبلية ـ لا ترتبط بأي مبدأ ذي قيمة من الوجهة الأخلاقية، ولا تخضع لأي منطق عقلي، بل الحكم فيها يرجع إلى العاطفة وحدها، لأن العصبية لا تعدو كونها ثورة عاطفية تنتاب الفرد إزاء قرابته أو قبيلته أو بني قومه، دون أن يكون للعدل فيها دور. لذا فإن الإسلام قد دعا إلى هذه العقلية التي يتسم بها المجتمع الإنساني بشكل عام وتوجيهها بطريقة انعكاسية نحو الإيمان بالله سبحانه، فهو أداة الربط بين المؤمنين يجمع شتاتهم، ويشد عزائمهم، ويوحد صفوفهم، وهو أيضاً الوسيلة الناجعة للوصول إلى درب الخلاص، ومن ثم النهوض بالإنسانية إلى أرقى وأسمى القيم التي تنشدها على هذه الأرض، الإيمان بالله، ورسوله، وكتبه، واليوم الآخر بكل ما انطوت عليه هذه الكلمات من مضامين عالية نبيلة تتهافت عندها جميع الحواجز المادية التي تلف حياة الإنسان، كما تتلاقى في ساحتها جميع القلوب الخيرة المفتوحة لا فرق في ذلك بين الإنسان الأبيض والأحمر والأسود والأصفر والقريب والبعيد. قال سبحانه وتعالى:
(لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (6).
ولقد كان صاحبنا (سلمان الفارسي) رضي الله عنه أحد المجسدين لهذا الشعار القرآني بعزم وإرادة وتصميم يفوق حد الوصف، جسده في بداية إيمانه حين هجر أهله ووطنه في سبيل الوصول إلى منابع الإيمان ـ كما ستقرأ ـ ضارباً عرض الحائط كل تفاهات المجوسية وأساطيرها دون تردد أو وجل وجسده بعد إسلامه حين غزا المسلمون أرض فارس سنة 15 للهجرة وأطاحوا بأكاسرتها وأساورتها حيث كان هذا الرجل العظيم (داعية المسلمين ورائدهم) في تلك الوقعة ـ على حد تعبير ابن الأثير ـ فكان يدعو قومه إلى الإسلام. يدعوهم كما كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يدعوهم. فإن أبوا ناجزهم ونهد إليهم.
إن قصة إسلام هذا الصحابي الجليل فريدة من نوعها في عالم التدين ـ حسبما أعلم اللهم عدا ما يختص بالأنبياء والرسل وأوصيائهم. فهي لا تخلو من مآثر وكرامات وخوارق تتصل كلها بعالم التدين وما يربط بين الأديان جميعاً، بل هي في ذاتها حافز للمؤمنين يمدهم بمزيد من الثبات والثقة. وهي أيضاً بقدر كونها وثيقة تاريخية تثبت أصالة الأديان السماوية، تؤكد ـ وبكل وضوح ـ كون الإسلام هو خاتمة تلك الأديان.
(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) (7).
فأنت حين تقرأ سلمان في هذا الكتاب، ستجد نفسك وجهاً لوجه أمام إنسان وقف كل حياته لأجل أن يحظى بنصيب أكبر من عالم الروح والإيمان، وحين تتعمق في قراءته أكثر، ستدرك ولا شك أن هذا الإنسان المثل كان فريداً من نوعه، وفي أبناء جنسه وفي مسلكه وفي عمق إدراكه. حتى ليخيّل إليك إنه كان أمةً في جانب، والناس في جانب، وستلمس أن هذا الإنسان الذي بدأت حياته بالغرائب والعجائب، انتهت حياته كذلك.
رحم الله سلمان، هلالاً أطل من سماء فارس ليشرق بدراً في دنيا الإسلام.
سلمان قبل إسلامه ورحلة البحث عن الحقيقة
قال سلمان (رضي الله عنه وأرضاه):
(كنت ابن دهقان (8) قرية جي من أصبهان، وبلغ من حب أبي لي أن حبسني في البيت كما تحبس الجارية فاجتهدت في المجوسية حتى صرت قطن بيت النار..) (9).
الذي يبدو من هذا النص أن سلمان اعتنق المجوسية في بادئ أمره عندما كان يعيش في ظل أبويه شأن أي إنسان يعتنق دين آبائه وأجداده حين لا يجد مندوحةً عن ذلك وحين يفتقد المرشد والموجّه ويعيش بعيداً عن آفاق المعرفة ومع هذا فإن ذلك لا يمكن جعله خدشةً في نقاء الذات التي كان يحملها سلمان ولا وصمةً في طهرها، سيما بعد أن يتضح لنا أن ارتباطه بالمجوسية كان شكلياً صورياً غير مستند إلى شيء من قناعاته كما سيأتي.
إلا أنه من المقطوع أن سلمان لم يعتنق المجوسية حتى في صباه، بل كان موحداً لله سبحانه، نعم حكمت عليه بيئته التي عاش فيها أن يرتبط بالمجوسية ارتباطاً شكلياً، كما ورد ذلك في الأحاديث المأثورة عن النبي الكريم وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين.
من ذلك ما رواه الصدوق عن ابن نباتة عن علي (عليه السلام) في حديث جاء فيه: (حضرت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسلمان بين يديه فدخل أعرابي فنحاه عن مكانه وجلس فيه. فغضب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى در العرق بين عينيه واحمرتا عيناه ثم قال: يا أعرابي أتنحي رجلاً يحبه الله تبارك وتعالى في السماء ويحبه رسوله في الأرض.. إلى أن قال: إن سلمان ما كان مجوسياً، ولكنه كان مظهراً للشرك مبطناً للإيمان) (10).
وفي حدث الإمام الصادق (عليه السلام):
(إن سلمان كان عبداً صالحاً حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين) (11).
قال الصدوق: إن سلمان ما سجد قط لمطلع الشمس، إنما كان يسجد لله عزّ وجلّ، وكانت القبلة التي أمر بالصلاة إليها شرقيّة، وكان أبواه يظنان أنه إنما يسجد للشمس كهيئتهم) (12).
أجل إن من يتتبع قصة إيمان هذا الرجل يلمس فيها شواهد على ذلك، وهو مصداق الآية الشريفة: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (13).
الهجرة إلى الله
ما عانى أحد من هذه الأمة ما عاناه سلمان في طلب الحق، وقطع طريقاً طويلاً مملوءاً بالمصاعب للوصول إليه.
روى أبو نعيم عن سلمان رضوان الله عليه قال: تداولني بضعة عشر، من ربّ إلى ربّ (14).
وعن عبد الله بن عباس قال: حدثني سلمان الفارسي وأنا أسمع من فيه قال: كنت رجلاً فارسياً من أهل أصبهان، من قرية يقال لها (جيّ) وكان أبي دهقان قريته، وكنت أحب خلق الله إليه، لم يزل حبّه إيّاي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار الذي يوقدها، لا يتركها تخبو ساعة، وكانت لأبي ضيعة عظيمة، فشغل في بنيان له يوماً فقال لي: يا بني إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب إليها فاطّلعها، وأمرني ببعض ما يريد، ثم قال لي: ولا تحتبس عني، فإنك إن احتبست عني كنت أهم إليّ من ضيعتي، وشغلتني عن كل شيء من أمري.
قال: فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم، ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي فلم آتها، ثم قلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام، فرجعت إلى أبي، وقد بعث في طلبي، وشغلته عن عمله كله، فلما جئته قال: أي بني أين كنت؟ أو لم أكن عهدت إليك ما عهدت؟
قلت له: يا أبت مررت بأناس يصلّون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس.
قال: أي بني، ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه.
قلت له: كلا والله، إنه لخير من ديننا.
قال: فخافني، وجعل في رجلي قيداً ثم حبسني في بيته، وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم.
قال: فقدم عليهم ركب من الشام، تجار من النصارى فأخبروني بهم، فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم.
قال: فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين علماً؟
قالوا: الأسقف في الكنيسة، فجئته فقلت له: إني قد رغبت في هذا الدين، فأحببت أن أكون معك، وأخدمك في كنيستك، فأتعلم منك، وأصلي معك.
قال: ادخل، فدخلت معه، وكان رجل سوء، يأمرهم بالصدقة، ويرغّبهم فيها، فإذا جمعوا له شيئاً منها اكتنزه لنفسه، ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، قال: فأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع ثم مات فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة، ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه، ولم يعط المساكين منها شيئاً، فقالوا لي: وما علمك بذلك؟ قلت لهم: أنا أدلكم على كنزه، قالوا: فدلّنا عليه، فأريتهم موضعه فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهباً وورقاً، فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبداً، فصلبوه ورجموه بالحجارة، وجاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه.
قال سلمان: فما رأيت رجلاً لا يصلي الخمس أرى أنه كان أفضل منه، وأزهد في الدنيا، ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلاً ونهاراً منه، فأحببته حبّاً لم أحبّه شيئاً قبل، فأقمت معه زماناً طويلاً، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان إني قد كنت معك وأحببتك حبّاً لم أحبه شيئاً قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله تعالى، فإلى من توصي بي، وبم تأمرني.
قال: أي بني، والله ما أعلم اليوم أحداً على ما كنت عليه، فقد هلك الناس، وبدّلوا، وتركوا أكثر ما كانوا عله، إلا رجلاً بالموصل، وهو فلان، وهو على ما كنت عليه، فالحق به.
قال: فلما مات وغيّب لحقت بصاحب الموصل، فقلت له: يا فلان، إن فلاناً أوصاني عند موته أن الحق بك، وأخبرني أنك على أمره فقال لي: أقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته خير رجل، على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة، قلت له: يا فلان، إن فلاناً أوصى بي إليك، وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟
قال: يا بني، والله ما أعلم رجلاً على مثل ما كنا عليه إلا رجلاً بنصيبين، وهو فلان، فالحق به.
فلما مات وغيّب لحقت بصاحب نصيبين، فأخبرته خبري، وما أمرني به صاحبه، فقال: أقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حُضر قلت له: يا فلان، إن فلاناً كان أوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي، وبم تأمرني؟ قال: يا بني، والله ما أعلمه بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلاً بعمورية من أرض الروم، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأته، فإنه على أمرنا، فلما مات وغيّب لحقت بصاحب عمورية، فأخبرته خبري، فقال: أقم عندي، فأقمت عند خير رجل، على هدى أصحابه وأمرهم، واكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة، ثم نزل به أمر الله تعالى، فلما حُضر قلت له: يا فلان، إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي، وبم تأمرني؟
قال: أي بني والله ما أعلم أصبح اليوم أحد على مثل ما كنا عليه من الناس آمرك به أن تأتيه، ولكنه قد أطلّ زمان نبي، وهو مبعوث على دين إبراهيم (عليه السلام)، يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حرتين، بينهما نخل، به علامات لا تخفى: يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوة، فإن استعطت أن تلحق بتلك البلاد فافعل، ثم مات وغيّب، ومكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مرّ بي نفر من كلب تجار، فقلت لهم: احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه، قالوا: نعم فأعطيتهموها وحملوني معهم، حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني، فباعوني من رجل يهودي عبداً، فكنت عنده، ورأيت النخل، فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي، ولم يحقّ في نفسي، فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريضة من المدينة، فابتاعني منه، فاحتملني إلى المدينة، والله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها، وبعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فأقام بمكة ما أقام، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل له فيه بعض العمل، وسيدي جالس تحتي إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه، فقال: يا فلان، قاتل الله بني قيلة، والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي، قال: فلما سمعتها أخذتني العرواء حتى ظننت أني سأسقط على سيدي، فنزلت عن النخلة، فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول؟ فغضب سيّدي فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: ما لك ولهذا؟ أقبل على عملك.
قال: وكان عندي شيء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو بقباء، فدخلت عليه، فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء قد كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم، فقرّبته إليه، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لأصحابه: كلوا، وأمسك يده فلم يأكل، فقلت في نفسي: هذه واحدة، ثم انصرفت عنه فجمعت شيئاً، وتحوّل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى المدينة، ثم جئته به، فقلت له: إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها، فأكل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) منها، وأمر أصحابه فأكلوا معه، فقلت في نفسي: هاتان ثنتان، ثم جئت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو ببقيع الغرقد، قد تبع جنازة رجل من أصحابه، وعليّ شملتان لي (15) وهو جالس في أصحابه، فسلّمت عليه، ثم استدرت أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي، فلما رآني رسول الله استدبرته، عرف أني استثبت في شيء وصف لي، فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فأكببت عليه أقبله وأبكي، فقال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله): تحوّل، فتحولت فجلست بين يديه، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يابن عباس، فأعجب ذلك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن يسمع ذلك أصحابه.
قال سلمان: ثم قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كاتب يا سلمان، فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير (16) وأربعين أوقية، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لأصحابه: أعينوا أخاكم، فأعانوني بالنخل، والرجل بثلاثين ودية (17) والرجل بخمس عشرة ودية، والرجل بعشر، يعين الرجل بقدر ما عنده، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية، فقال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله): اذهب يا سلمان ففقّر (18) لها، فإذا فرغت فأتني، أكن أنا أضعها بيدي، قال: ففقّرت، وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت جئته فأخبرته فخرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله) معي إليها، فجعلنا نقرّب إليه الودي، ويضعه رسول الله بيده، حتى فرغنا (19) فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة، قال: فأديت النخل وبقي عليّ المال، فأتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن، فقال: ما فعل سلمان المكاتب، فدعيت له، فقال: خذ هذه فأدّها ممّا عليك يا سلمان، قلت: وأين تقع هذه يا رسول الله ممّا عليّ؟ فقال: خذها فإن الله سيؤدي بها عنك، قال: فأخذتها فوزنت لهم منها، والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية، فأوقيتهم حقهم منها (20).
مواقف سلمان
1- غزوة الخندق
الذي عليه أكثر المؤرخين أن سلمان لم يشارك في غزوات النبي الأولى كبدر وأحد، لأنه كان لا يزال في حينها قيد الرق، أما بعد أن أعتقه الإسلام من رقه فإنه لم ينفك عن مصاحبته (صلّى الله عليه وآله) ومواكبته له في غزواته وحروبه، وإسداء الرأي والنصيحة حينما تطلب الأمر ذلك، فكان له مواقف خالدة في هذا المضمار احتفظ لنا التاريخ ببعض منها نظراً لما كان يترتب عليها من أهمية تتصل بالحفاظ على قوة المسلمين العسكرية.
وأهم هذه المواقف وأعظمها ما أشار به على المسلمين في حربهم ضد الشرك فيما يسمى بـ(غزوة الخندق) وغزوة الخندق هذه اشتملت على مشاهد مثيرة يعيشها القارئ من خلال ما سجلته أقلام المؤرخين حولها، ففيها التقت الكثافة العددية لجيش العدو بالقلة العددية لجيش المسلمين. مع ما دبر من مكائد تجمعها كلمة (الحرب خدعة) بين الطرفين، وتدخل العنصر الغيبي (الإلهي) لحسم الموقف، ممّا يدعو القارئ والكاتب إلى ضرورة الإلمام بها وبظروفها ولو بنحو الإجمال.
لقد بدأت هذه الحرب في شوال من السنة الخامسة للهجرة بتحريض جماعة من اليهود وذلك: أن نقرأ من يهود بني النضير قرروا فيما بينهم أن يقوموا بجملة تستهدف تجميع القوى المناهضة للرسول (صلّى الله عليه وآله) ولرسالته الإسلامية ومن ثم مهاجمته في المدينة والقضاء عليه وعلى من يكون معه، فقدموا على قريش بمكة ودعوهم إلى ذلك وقالوا نكون معكم حتى نستأصله. وكان من هؤلاء اليهود سلام ابن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلي وغيرهم.
فقالت لهم قريش: يا معشر اليهود! إنكم أهل الكتاب الأول، وتعلمون بما أصبحنا عليه نحن ومحمد، ونحن نسألكم أديننا خير أم دينه؟
فقالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه!
وبهذه المناسبة نزلت الآية الكريمة: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) (21).
ولما سمعت قريش من اليهود ذلك استبشرت وطمعت في أن يحقق لها هذا التكتل النصر على محمد (صلّى الله عليه وآله) فتواعدوا وإياهم على حربه عندما يتيسر لهم من العرب من يناصرهم عليه.
ولم يكتف اليهود بذلك، بل حرضوا بعض القبائل الأخرى على حربه (صلّى الله عليه وآله) واعدين إيّاه النصر الأكيد، إذ لا طاقة لمحمد وأصحابه على مناجزتهم والثبات في وجههم، وهم بهذا العدد الضخم من الأفراد والعدة الكاملة من السلاح، فاستجابت لهم غطفان وكان قائدها عيينة بن حصن، وبنو سليم بقيادة سفيان بن شمس، وبنو أسد، وفزارة، وبعض قبيلة الأشجع وبنو مرة وغيرهم، وكان أبو سفيان قائد قريش، فبلغ مجموعهم أكثر من عشرة آلاف مقاتل وكان في قريش وحدها ثلاثة آلاف فارس ومعها ألف وخمسمائة بعير.
وبلغ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ذلك فجمع أصحابه وأمرهم بالاستعداد للمواجهة وحثهم على الجهاد واستشارهم في وضع خطة تمنع دخولهم إلى المدينة، فأشار عليه سلمان الفارسي (رضي الله عنه) بحفر الخندق قائلاً له:
(كنا بفارس إذا حوصرنا حفرنا خندقاً يحول بيننا وبين عدونا..).
فاستحسن النبي (صلّى الله عليه وآله) وأصحابه هذا الرأي وأمر بحفره، وبهذه المناسبة صار المهاجرون والأنصار يبدون تقربهم لسمان فاختلفوا فيما بينهم وكل يقول: سلمان منا، لكن النبي (صلّى الله عليه وآله) حسم الأمر بقوله: (سلمان من أهل البيت) فكانت هذه الكلمة من الرسول في حقه أكبر وأعظم وسام يناله صحابي.
ثم أن النبي حدد لكل عشرة من المسلمين أن يحفروا أربعين ذراعاً، وكان هو كأحدهم يحفر بيديه مؤاساةً وتشجيعاً لهم، وكان المسلمون يحفرون وينشدون الأشعار، أما سلمان، فلا نشيد ولا كلمة على لسانه تلهب حماسه، لكنه مع ذلك كان من أنشطهم وأخلصهم في العمل، وسر النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يسمع من سلمان شعراً كما يسمع من غيره، فقال (صلّى الله عليه وآله) اللهم أطلق لسان سلمان ولو على بيت من الشعر فأنشأ سلمان يقول:
ما لــــي لســـــان فأقـــــول الشعرا أســـــأل ربـــــي قــــــوّةً ونـــصرا
علــــى عــــدوي وعــــــدو الطهر محـــــمد المـــــختار حـــــاز الفخرا
حتى أنـــــال فــــي الجـــنان قصرا مع كـــل حوراء تحاكي البدرا(22)
وبينما كان سلمان مع تسعة نفر يحفرون في المساحة المحددة لهم وإذا بصخرة بيضاء قد اعترضتهم، فأعجزتهم ولم تصنع بها المعاول شيئاً، فقالوا لسلمان: اذهب إلى رسول الله وأخبره بذلك، فلعله يأمرنا بالعدول عنها، فإنا لا نريد أن نتخطى أمره.
فلما أخبره سلمان بذلك، أقبل عليهم وهبط بنفسه إلى الخندق وأخذ المعول من سلمان وضرب الصخرة ضربةً صدعتها وخرج منها بريق أضاء أجواء المدينة حتى لكأنها مصباح في بيت مظلم ـ على حد تعبير الراوي ـ فكبّر رسول الله. ثم ضربها ضربةً ثانية فتصدعت وخرج منها نفس البريق الأول، وفي الضربة الثالثة تكسرت وظهر لها بريق أضاء ما وراء المدينة. فكبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأشرقت نفسه الكبيرة للنصر المؤمل في النهاية، ثم أخذ بيد سلمان وصعد خارج الخندق.
فقال له سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد رأيت شيئاً ما رأيته قط!
فالتفت رسول الله إلى القوم وقال: هل رأيتم ما يقول سلمان؟
فقالوا: نعم يا رسول الله، بأبينا أنت وأمنا، لقد رأيناك تضرب، فيخرج البرق كالموج، فرأيناك تكبر فكبرنا، ولم نر غير ذلك.
قال: صدقتم، أضاءت لي في البرقة الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأخبرني جبريل بأن أمتي ظاهرة عليها. ثم ضربت الثانية، فأضاءت لي قصور الحمر من أرض الروم وأخبرني جبريل بأن أمتي ظاهرة عليها.. وفي الضربة الثالثة أضاءت لي قصور صنعاء وأخبرني جبريل بأن أمتي ظاهرة عليها.. فاستبشر المسلمون بذلك.
وكان النصر حليف المسلمين، وما ذلك إلا بفضل دعاء النبي (صلّى الله عليه وآله) وتأييد الله له، وبضربة علي (عليه السلام) لعمرو، وبإشارة سلمان بحفر الخندق.
2- حصار الطائف
بعد أن فرغ النبي (صلّى الله عليه وآله) من فتح مكة واستقامت له الأمور فيها، قام بإرسال السرايا نحو القبائل المجاورة لمكة لتطهير المنطقة من عبادة الأوثان ونشر راية التوحيد، وكانت الظروف مهيأةً له بالنسبة لذلك.
وفي ذات يوم بلغه أن (هوازن) وأحلافها من (ثقيف) و(جشم) و(نصر) قد ساءهم انتصاره بمكة وقدّروا أن الدائرة ستدور عليهم، وأن المسلمين سيقتحمون عليهم بلادهم، فاجتمعوا فيها بينهم وقرروا القيام بمبادرة عسكرية لصد الهجوم المرتقب من النبي وأصحابه، فبلغ عددهم مجتمعين نحو ثلاثين ألف مقاتل أو أكثر، ونزلوا بسهل (أوطاس) المعروف بـ(حنين) بقيادة مالك بن عوف.
وتجهز النبي (صلّى الله عليه وآله) لملاقاتهم ومعه نحو عشرة آلاف مقاتل، وبدأت الحرب بين الفريقين ونظراً لتفوّق المشركين عددياً، ووجود بعض المنافقين والمتخاذلين ومن أسلموا رهبةً في صفوف المسلمين، فقد رجحت كفّةُ المشركين عسكرياً وحلّت الهزيمة في صفوف المسلمين ولولا ثبات النبي (صلّى الله عليه وآله) وخروجه إلى المعركة بنفسه وثبات بعض أصحابه معه وتذكير المسلمين ببيعتهم للرسول (صلّى الله عليه وآله) تحت الشجرة وحثهم على مواصلة الكفاح لولا هذا لكانت هزيمتهم محتمةً والفشل حليفهم، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره، فقد انتهت المعركة بنصر المسلمين، وفي ذلك نزلة الآية الكريمة:
(وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا) (23).
وقد ظفر المسلمون في هذه الحرب بغنائم كثيرة بلغت اثنتين وعشرين ألفاً من الشياه، وأربعة آلاف أوقية من الفضة، وكان عدد الأسرى ستة آلاف أسير، أما قائد المشركين مالك بن عوف فقد فرّ في عدد من ثقيف إلى الطائف، وكانت الطائف مدينةً محصنةً لها أبواب، وكان أهلها ذوو خبرةٍ في الحرب وثروات طائلة مكّنتهم أن يجعلوا حصونهم من أمنع الحصون، فجمع النبي (صلّى الله عليه وآله) الغنائم والأسرى وجعل على حراستها بُديل بن ورقاء وجماعة من المسلمين، وأمر مناديه بالرواح إلى الطائف لمحاصرتها طمعاً في أن يسلم أهلها، فسار المسلمون نحوها ونزلوا في مكان قريب منها، ولما أشرف عليهم أهل الطائف هالتهم كثرتهم، فأمروهم بوابل من النبل وأصابوا عدداً من المسلمين ممّا حدا بالنبي (صلّى الله عليه وآله) أن يأمرهم بالانتقال إلى مكان آخر.
أقام المسلمون في ذلك المكان أياماً ينتظرون مواجهة ثقيف لهم، لكن ثقيف لم تكن بحالة من الاستعداد تمكنهم من المواجهة بعد هزيمتهم في حنين، فأثرت الانتظار على المواجهة والمكوث داخل الحصن، سيّما وأن الحصن منيعٌ والمؤن متوفرة، وليس لدى المسلمين السلاح الذي يمكنهم من اقتحام الحصن.
وطال الانتظار بالمسلمين. وهنا أشار سلمان الفارسي (رضي الله عنه) باستعمال المنجنيق قائلاً: يا رسول الله، أرى أن تنصب المنجنيق على حصنهم، فإنا كنا بأرض فارس ننصب المنجنيق على الحصون وتنصب علينا، فنصيب من عدونا ويصيب منا بالمنجنيق، وإن لم يكن المنجنيق طال الثواء (24).
فأمره رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فعمل منجنيقاً بيده، فنصبه على حصن الطائف (25) وقذفوا به الصخور إلى ما وراء الحصن فلم نعمل فيه، ثم استعملوا نوعاً آخر من الأسلحة كان لبعض القبائل المقيمة بأسفل مكة علم بها وهو الدبابة وهي آلة من جلود البقر يدخلون في جوفها تقيهم النبال والسيوف، ثم يندفعون بها إلى الحصون، ومنها ينفذون إلى ما وراءها، ولكن رجال الطائف كانوا من المهارة بمكان، حيث أرسلوا عليهم سكك الحديد المحماة. فلاذوا بالفرار.. ولم يطل انتظار المسلمين كثيراً فقد أشار النبي عليهم بقطع كرومهم وأشجارهم، وحين ناشدوه الله والرحم كفّ عن ذلك، ثم أمر مناديه أن ينادي: أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حرّ، فنزل إليه نفرٌ منهم، منهم أبو بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة فأخبر النبي أنهم يملكون من المؤن والذخائر ما يكفيهم زمناً طويلاً، فاستدعى رسول الله نوفل بن معاوية الدؤلي واستشاره في أمرهم، فقال نوفل:
يا رسول الله، إن ثقيفاً كثعلب في جحر، فإن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرّك.
وكان قد مضى على النبي نحواً من خمسة عشر يوماً أو تزيد وقد أصبحوا على أبواب شهر (ذي القعدة) وهو من الأشهر الحُرُم وقد حرّم الإسلام فيه القتال، فآثر النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يرجع عنهم ليعود إليهم بعد انقضاء الأشهر الحرم فيما لو أصرّوا على موقفهم المعادي للإسلام. لكنهم عادوا إلى صوابهم وأرسلوا إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) وفداً يعرضون عليه إسلامهم ثم أسلموا.
كراماته وفضائله
1- في القرآن الكريم
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): نزل القرآن أرباعاً: فربع فينا، وربع في عدونا، وربع سير وأمثال، وربع فرائض وأحكام، ولنا كرائم القرآن (26) وسلمان رضوان الله عليه لما كان منهم صلوات الله عليهم، فخليق أن ينزل فيه آي من القرآن الكريم تخلده على مر الدهور والأعوام.
نذكر بعض ذلك:
1ـ قال ناس من الصحابة: نزل قوله تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا..) (27) في سلمان (28).
2ـ قال قتادة في قوله تعالى: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) (29) قال: منهم سلمان، وعبد الله بن سلام (30).
3ـ (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (31) فهذه نزلت في سلمان الفارسي فكان عليه كساء فيه يكون طعامه وهو دثاره ورداؤه، وكان كساء من صوف، فدخل عيينة بن حصين على النبي (صلّى الله عليه وآله) وسلمان عنده، فتأذى عيينة بريح كساء سلمان وقد كان عرق فيه، وكان يوم شديد الحر، فعرق في الكساء، فقال: يا رسول الله إذا نحن دخلنا عليك فاخرج هذا واصرفه من عندك، فإذا نحن خرجنا فأدخل من شئت، فأنزل الله (وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا) وهو عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر الفزاري (32).
4ـ قال أنس في قوله تعالى: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً) (33) هم قوم يفرّون إلى الله فيعطون ويحبون ويكرمون ويشفعون، منهم سلمان الفارسي (34).
5ـ عن أبي هريرة: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تلا هذه الآية: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (35) قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا، ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب على فخذ سلمان الفارسي ثم قال: هذا وقومه، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من فارس (36).
وسام الشرف
قال عمر بن عبد العزيز وقد قام من عنده علي بن الحسين (عليه السلام): من أشرف الناس؟ فقالوا: أنتم، فقال: كلا، فإن أشرف الناس هذا القائم من عندي آنفاً، من أحبّ الناس أن يكونوا منه، ولم يحب أن يكون من أحد (37).
فشرف محمد وآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين لا يدانيه شرف، وفضلهم لا يوازيه فضل، وسؤددهم لا يشابه سؤدد.
وهذا الشرف الباذخ، والفضل العظيم، شمل سلمان الفارسي رضوان الله عليه، فكل من ترجم له ذكر الحديث النبوي الشريف (سلمان منا أهل البيت) (38).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام):
لعـــــمرك مــــا الإنـــــــسان إلا بــدينه فلا تـــــترك التقـــوى اتكالاً على النسب
لقد رفــــــع الإســـــــلام سلمان فارس وقد هجّن الشرك الشريف أبا لهب(39)
ويقول الشيخ محيي الدين بن العربي: ولما كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عبداً محضاً، قد طهره الله وأهل بيته تطهيراً، وأذهب عنهم الرجس وهو كل ما يشينهم، فإن الرجس هو القذر عند العرب، هكذا حكى الفراء، قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (40) فلا يضاف إليهم إلا مطهّر، ولابد فإن المضاف إليهم هو الذي يشبههم فما يضيفون لأنفسهم إلا من له حكم الطهارة والتقديس، فهذه شهادة من النبي (صلّى الله عليه وآله) لسلمان الفارسي بالطهارة، والحفظ الإلهي، والعصمة، حيث قال فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله): سلمان منا أهل البيت، وشهد الله لهم بالتطهير، وذهاب الرجس عنهم، وإذا كان لا ينضاف إليهم إلا مطهر مقدس، وحصلت له العناية الإلهية بمجرد الإضافة، فما ظنك بأهل البيت في نفوسهم، فهم المطهرون، بل هم عين الطهارة (41).
2- في الحديث الشريف
كان الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) يكرّم أصحابه، ويشيد بمواقفهم الكريمة، ويثمّن جهود المخلصين منهم، وهو الذي شكر لنسيبة بنت كعب الأنصارية رضوان الله عليها موقفها المشرّف يوم أحد، وقتالها المشركين، فقال: لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان. وكان يراها يومئذ تقاتل أشد القتال، وإنها لحاجزة ثوبها على وسطها، حتى جرحت ثلاثة عشر جرحاً (42).
فلا غرو منه صلوات الله عليه إطراء سلمان رضوان الله عليه، وذكر فضائله ومناقبه تثميناً لإيمانه، ودعوة للآخرين في اللحوق به.
نذكر بعض هذه الأحاديث:
1ـ روي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) من وجوه أنه قال: لو كان الدين عند الثريا لناله سلمان (43).
2ـ عن النبي (صلّى الله عليه وآله): أمرني ربي بحبّ أربعة، وأخبرني أنه سبحانه يحبهم: علي وأبو ذر والمقداد وسلمان، رضي الله عنهم (44).
3ـ إن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال، في نفر، فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها، فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ وأتى النبي (صلّى الله عليه وآله) فأخبره، فقال: يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضب ربك جلّ وعلا. فأتاهم أبو بكر فقال: يا أخوتاه أغضبتكم؟ قالوا: لا يا أبا بكر، يغفر الله لك (45).
4ـ قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): سلمان يبعث أمة لقد أشبع من العلم (46).
5ـ وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): السبّاق أربعة: أنا سابق العرب، وصهيب سابق الروم، وسلمان سابق فارس، وبلال سابق الحبشة (47).
6ـ وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): سلمان سابق فارس (48).
7ـ وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): اشتاقت الجنّة إلى ثلاثة: علي وعمّار وسلمان (49).
3- في حديث أهل البيت
سئل علي أمير المؤمنين (عليه السلام) عن سلمان، قال:
(امرؤ منا وإلينا أهل البيت، من لكم بمثل لقمان الحكيم، علم العلم الأول والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر، وكان بحراً لا ينزف!) (50).
عن أبي جعفر (عليه السلام)، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: (ضاقت الأرض بسبعة، بهم ترزقون، وبهم تنصرون، وبهم تمطرون، منهم: سلمان الفارسي والمقداد، وأبو ذر، وعمار، وحذيفة. وكان علي (عليه السلام) يقول: وأنا إمامهم، وهم الذين صلوا على فاطمة (عليها السلام)).
أخرج الشيخ الطوسي في أماليه، عن منصور بن بزرج، قال:
قلت لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام) ما أكثر ما أسمع منك ـ سيدي ـ ذكر سلمان الفارسي؟
قال (عليه السلام): لا تقل سلمان الفارسي، ولكن قل سلمان المحمدي، أتدري ما أكثر ذكري له؟ قلت: لا.
قال: لثلاث خصال: إيثاره هوى أمير المؤمنين (عليه السلام) على نفسه، والثانية: حبه للفقراء واختياره إياهم على أهل الثروة والعدد، والثالثة: حبه للعلم والعلماء.
وأخرج الكشي عن محمد بن حكيم، قال:
ذكر عند أبي جعفر (عليه السلام) سلمان المحمدي، فقال: إن سلمان منا أهل البيت، إنه كان يقول للناس: هربتم من القرآن إلى الأحاديث، وجدتم كتاباً دقيقاً حوسبتم فيه على النقير والقطمير والفتيل وحبة الخردل، فضاق عليكم ذلك، وهربتم إلى الأحاديث التي اتسعت عليكم (51).
وبسنده عن الحسين بن صهيب عن أبي جعفر، قال: ذكر عنده سلمان الفارسي قال فقال أبو جعفر (عليه السلام):
لا تقولوا سلمان الفارسي، ولكن قولوا: سلمان المحمدي، ذاك رجل منا أهل البيت (52).
الصدوق، بسنده عن ابن نباتة قال:
سألت أمير المؤمنين (عليه السلام) عن سلمان الفارسي رحمة الله عليه وقلت: ما تقول فيه
فقال: ما أقول في رجل خلق من طينتنا، وروحه مقرونة بروحنا، خصه الله تبارك وتعالى من العلوم بأولها وآخرها وظاهرها وباطنها وسرها وعلانيتها. ولقد حضرت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسلمان بين يديه. فدخل أعرابي فنحاه عن مكانه وجلس فيه. فغضب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى در العرق بين عينيه واحمرتا عيناه ثم قال: يا أعرابي. أتنحي رجلاً يحبه الله تبارك وتعالى في السماء ويحبه رسوله في الأرض! يا أعرابي، أتنحي رجلاً ما حضرني جبرئيل إلا أمرني عن ربي عزّ وجلّ أن أقرئه السلام! يا أعرابي، إن سلمان مني، من جفاه فقد جفاني ومن آذاه فقد آذاني، ومن باعده فقد باعدني، ومن قربه فقد قربني، يا أعرابي لا تغلطن في سلمان، فإن الله تبارك وتعالى قد أمرني أن أطلعه على علم المنايا والبلايا (53)، والأنساب وفصل الخطاب.
قال: فقال الأعرابي: يا رسول الله، ما ظننت أن يبلغ من فضل سلمان ما ذكرت، أليس كان مجوسياً ثم أسلم؟
فقال النبي (صلّى الله عليه وآله) يا أعرابي أخاطبك عن ربي، وتقاولني؟! إن سلمان ما كان مجوسياً، ولكنه كان مظهراً للشرك، مبطناً للإيمان.
يا أعرابي، أما سمعت الله عزّ وجلّ يقول: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً). أما سمعت الله عزّ وجلّ يقول: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا). يا أعرابي خذ ما آتيتك وكن من الشاكرين، ولا تجحد فتكون من المعذبين، وسلم لرسول الله قوله تكن من الآمنين (54).
الهوامش:
1- من حديث لأبي الدرداء عن سلمان: إن فيكم رجلاً كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذا خلا به لم يبغ أحداً غيره. حياة الصحابة ج4، ص481.
2- انظر كتاب أبي ذر من هذه السلسلة.
3- قاعدة الملك الكسروي، تبعد عن بغداد حوالي 35 كيلومتراً.
4- في أسد الغابة، ج2، ص269 قال العباس بن يزيد: قال أهل العلم: عاش سلمان ثلاثمائة وخمسين سنة، فأما مائتان وخمسون فلا يشكّوا فيها.
5- سورة الحجرات، الآية 13.
6- سورة المجادلة، الآية 22.
7- سورة آل عمران، آية 19.
8- الدهقان: أمير البيدر أو أمير الفلاحين. وقطن بيت النار: سادنها والمشرف عليها.
9- شرح النهج، ج18، ص36، ومضمون هذا النص متفق عليه لدى أغلب المؤرخين.
10- لاحظ البحار، ج22، ص347.
11- البحار، ج22، ص327.
12- سلمان الفارسي، ص4.
13- سورة الأنعام، الآية 79.
14- حلية الأولياء، ج1، ص195. وأنت ولله الحمد نشأت مسلماً من مسلمين، رفعت عنك متاعب العناء، وطلب الحقيقة، ويكفيك مستمسكاً على أحقية دينك، ونبوّة نبيك، كتاب الله الناطق، فهو يتحدى البشرية منذ ألف وأربعمائة سنة على أن يأتوا بمثله (فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ثم تنزّل معهم ليريهم عجزهم (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) فلم يستطيعوا ذلك، فتنزّل معهم (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) ولما عجزوا عن ذلك تحداهم (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) فعليك الحفاظ على الحقيقة، تعيش عليها، وتعمل لها، وتموت عليها، إياك والانحراف عنها، فتخسر جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
15- الشملة: الكساء الغليظ، يلتحف به الإنسان.
16- بالفقير: بالحفر وبالغرس.
17- الودية: فراخ النخل الصغار.
18- فقر: احفر.
19- في الاستيعاب، ج2، ص58، فغرس رسول الله (صلّى الله عليه وآله) النخل كله، فأطعم النخل كله.
20- سيرة ابن هشام، ج1، ص221.
21- سورة النساء، الآيتان 51-52.
22- الدرجات الرفيعة، ص218.
23- سورة التوبة، الآيتان 25-26.
24- المغازي للواقدي، ص937. والثواء: الإقامة.
25- شرح النهج، ج18، ص35.
26- ينابيع المودة، ص126.
27- سورة البقرة، الآية 62.
28- تهذيب تاريخ دمشق الكبير، ج6، ص304.
29- سورة الرعد، الآية 43.
30- تهذيب تاريخ دمشق الكبير، ج6، ص204.
31- سورة الكهف، الآية 28.
32- تفسير القمي، ج2، ص34.
33- سورة مريم، الآية 85.
34- تهذيب تاريخ دمشق الكبير، ج6، ص204.
35- سورة محمد، الآية 38.
36- تهذيب تاريخ دمشق الكبير، ج6، ص203.
37- أعيان الشيعة، ج1، ص631، ط2.
38- السيرة النبوية لابن هشام، ج2، ص224.
39- تهذيب تاريخ دمشق الكبير، ج1، ص205.
40- سورة الأحزاب، الآية 33.
41- الفتوحات المكية، ج1، ص196.
42- شرح نهج البلاغة، ج14، ص266.
43- الاستيعاب، ج2، ص59.
44- الاستيعاب، ج2، ص59.
45- الاستيعاب، ج2، ص60.
46- أنساب الأشراف، ج1، ص488.
47- صفة الصفوة، ج1، ص534.
48- الطبقات الكبرى، ج7، ص318.
49- المستدرك على الصحيحين، ج3، ص137.
50- الأعلام للزركلي، م3، ص169.
51- الدرجات الرفيعة، ص209-210.
52- البحار، ج22، ص349.
53- علم المنايا والبلايا: ربما يقصد به اطلاعه على ما يجري على بعض الناس. ومنه إخبار علي (عليه السلام) لميثم التمار بأنه سيقتل ويصلب وإخباره لرشيد الهجري كذلك، وأمثال هذا ممّا هو معروف مشهور.
54- البحار، ج22، ص347.
عطاء
ومن تأمل الأحاديث الواردة في ثواب المصائب والنكبات التي يصاب بها العبد، ودّ أن لا يفوته هذا المغنم العظيم، وحتى ورد أن العبد إذا نظر إلى عطاء الله جلّ جلاله عوضاً عن العلل والأسقام يود أنه نشر بالمناشير.
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): يود أهل العافية يوم القيامة أن لحومهم قرضت بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء (55).
وأكثر من هذا: فقد ورد أن أهل البلاء لا ينصب لهم ميزان.
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): إذا نشرت الدواوين، ونصبت الموازين، لم ينصب لأهل البلاء ميزان، ولم ينشر لهم ديوان؛ وتلا هذه الآية: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (56).
ولا يأخذك شك في هذا ومثله، فعطاء ربك واسع لا تحيط بأبعاده حتى ورد أن العبد إذا صرّف ديناراً بدراهم، ثم حسبها بعد ذلك، واشتبه في حسابها فوجدها ناقصة درهماً، وتأثر على ذلك الدرهم الوهمي، فإن الله سبحانه وتعالى يعطيه على ذلك ثواباً، فكيف بالمرض؟
ورواية ابن عساكر: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقد سلمان، فسأل عنه، فأخبر أنه عليل، فأتاه يعوده، ثم قال: عظم الله أجرك، ورزقك العافية في دينك وجسمك، إلى منتهى أجلك، إن لك من وجعك خلالاً ثلاث: أما واحدة فتذكرة من ربك تذكر بها، وأما الثانية فتمحيص لما سلف من ذنوبك، وأما الثالثة فادع بما شئت فإن دعاء المبتلى مجاب (57).
يصوم الدهر
يقول الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام): إنّ آدم (عليه السلام) قال: يا رب سلطت عليّ الشيطان، وأجريته مني مجرى الدم، فاجعل لي شيئاً.
فقال: يا آدم جعلت لك أن من همّ من ذريتك بسيئة لم تكتب له، فإن عملها كتبت عليه سيئة، ومن هم منهم بحسنة فإن لم يعملها كتبت له حسنة، فإن هو عملها كتبت له عشراً.
قال: يا رب زدني.
قال: جعلت لك أن من عمل منهم سيئة ثم استغفر غفرت له.
قال: يا رب زدني.
قال: جعلت لهم التوبة حتى تبلغ النفس هذه.
قال: يا رب حسبي (58).
ومن هذا الفيض الإلهي جاء قوله جل جلاله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) وقوله: (مَثَل حَبَّةٍ..).
ومن هذا المنطلق الرحب أجاب سلمان رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوماً لأصحابه: أيّكم يصوم الدهر؟
قال سلمان: أنا يا رسول الله. فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): فأيكم يحيي الليل؟ قال سلمان: أنا يا رسول الله.
قال: فأيكم يختم القرآن في كل يوم؟
قال سلمان: أنا يا رسول الله.
فغضب بعض أصحابه فقال: يا رسول الله إن سلمان رجل من الفرس يريد أن يفتخر علينا قلت: أيكم يصوم الدهر؟ قال: أنا، وهو أكثر أيامه يأكل، وقلت: أيكم يحي الليل؟ فقال: أنا، وهو أكثر ليله نائم، وقلت: أيكم يختم القرآن في كل يوم؟ فقال: أنا، وهو أكثر أيامه صامت.
فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): مه يا فلان، أنى لك بمثل لقمان الحكيم، سله فإنه ينبئك.
فقال الرجل لسلمان: يا عبد الله أليس زعمت أنك تصوم الدهر؟ فقال: نعم فقال: رأيتك في أكثر نهارك تأكل فقال: ليس حيث تذهب، إني أصوم الثلاثة في الشهر، وقال الله عزّ وجلّ: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) وأصِلْ شعبان بشهر رمضان، فذاك صوم الدهر، فقال: ألست زعمت أنك تحيي الليل، فقال: نعم، فقال: إنك أكثر ليلك نائم، فقال: ليس حيث تذهب، ولكني سمعت حبيبي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: فمن بات على طهر فكأنما أحيا الليل، فأنا أبيت على طهر، فقال: أليس زعمت أنك تختم القرآن في كل يوم؟ قال: نعم، قال: فإنك أكثر أيامك صامت، فقال: ليس حيث تذهب، ولكني سمعت حبيبي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول لعلي (عليه السلام): يا أبا الحسن، مثلك في أمتي مثل قل هو الله أحد، فمن قرأها مرّة فقد قرأ ثلث القرآن، ومن قرأها مرتين فقد قرأ ثلثي القرآن، ومن قرأها ثلاثاً فقد ختم القرآن، فمن أحبّك بلسانه فقد كمل له ثلث الإيمان، ومن أحبك بلسانه وقلبه فقد كمل له ثلثا الإيمان، ومن أحبّك بلسانه وقلبه، ونصرك بيده فقد استكمل الإيمان، والذي بعثني بالحق يا علي لو أحبك أهل الأرض كمحبة أهل السماء لك لما عُذّب أحد بالنار. وأنا أقرأ قل هو الله أحد في كل يوم ثلاث مرات، فقام فكأنه قد ألقم حجراً (59).
وصايا خالدة
وهذه وصايا مهمة أتحف بها النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) هذا الصحابي الجليل، وجدير بالمسلم أن يأخذ هذه الوصايا القيّمة للعمل والتطبيق، بل يتخذها شعاراً ومنهجاً لحياته الطويلة، ليكسب سعادة في الدنيا ونعيماً في الآخرة.
روى السيد المرتضى رضوان الله عليه عن سلمان رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بسبع لا أدعهن على كل حال: أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأن أحبّ الفقراء وأدنو منهم، وأن أقول الحق وإن كان مرّاً، وأن أصل رحمي وإن كانت مدبرة، وأن لا أسال الناس شيئاً، وأوصاني أن أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة (60).
العلم
لهذا الصحابي الجليل مميزاته الكثيرة في عالم السمو والفضيلة، ومن أبرزها اتصافه بالعلم بشكل ملحوظ.
روى ابن عدي عن أنس: قيل: يا رسول الله عمن نكتب العلم بعدك؟
قال: عن علي وسلمان (61).
وسئل علي بن أبي طالب عنه فقال: تابع العلم الأوّل، والعلم الآخر، ولا يدرك ما عنده (62).
وسئل عنه مرة أخرى فقال: ذاك امرؤ منا وإلينا أهل أبيت، من لكم بمثل لقمان الحكيم، علم العلم الأوّل، وقرأ الكتاب الآخر، وكان بحراً لا ينزف (63).
ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) أدرك سلمان العلم الأوّل، والعلم الآخر، وهو بحر لا ينزح، وهو منّا أهل البيت (64).
ويقول الفضل بن شاذان: ما نشأ في الإسلام رجل من كافة الناس أفقه من سلمان الفارسي (65).
وأوصى معاذ بن جبل رجلاً أن يطلب العلم من أربعة، سلمان أحدهم (66).
— نذكر بعض ما ورد عنه في العلم، ووصاياه في ذلك:
1ـ عن أبي البختري قال: صحب سلمان رجل من بني عبس ليتعلم منه، فخرج معه فجعل لا يستطيع أن يفضله في عمل، أن عجن جاء سلمان فخبز، وإن هيّأ الرجل علفاً للدواب ذهب سلمان فسقاها، حتى انتهوا إلى شط دجلة وهي تطفح، فقال سلمان للعبسي: أنزل فاشرب، فنزل فشرب، فقال له سلمان: ازدد، فازداد، فقال له سلمان: كم تراك نقصت منها؟ فقال العبسي له: وما عسى أن أنقص منها. فقال سلمان: كذلك العلم تأخذ منه ولا ينقص، فعليك بالعلم بما ينفعك (67).
2ـ وعن حفص بن عمرو السعدي، عن عمه، قال: قال سلمان لحذيفة: يا أخا بني عبس العلم كثير، والعمر قصير، فخذ من العلم ما تحتاج إليه في أمر دينك، ودع ما سواه فلا تعانه (68).
3ـ وكتب إلى أبي الدرداء: إن العلم كالينابيع يغشاهنّ الناس، فيختلجه هذا وهذا، فينفع الله به غير واحد، وإن حكمة لا يُتكلّم بها كجسد بلا روح، وإن علماً لا يخرج ككنز لا ينفق منه، وإن مثل العالم كمثل رجل حمل سراجاً في طريق مظلم يستضيء به من مرّ به، وكلّ يدعو له بالخير (69).
4ـ وكان يقول: الناس ثلاثة: سامع فعاقل فتارك، وسامع فعارف، ومن الناس حامل داء، ومنهم حامل شفاء، ومن الناس من إذا ذكرت الله عنده أعانك، وأحبّ ذلك، وإن نسيت ذكّرك، ومن الناس من إذا ذكرت الله عنده لم يعنك، وإن نسيته لم يذكرك؛ فتواضع لله وتخشّع، وخف الله يرفعك الله، وقل سلاماً للقريب والبعيد، فإن سلام الله لا يناله الظالمون، وإن رزقك علماً فابتغ إليه، كي تعلّم ممّا علّمك الله، فإن مثل العالم الذي يعلّم كمثل رجل حامل سراج على ظهر الطريق، فكل من مرّ به يستبصر به، ويدعو له بالبركة والخير، وإن مثل علم لا يقال به كصنم نائم لا يأكل ولا يشرب، وإن مثل حكمة لا تخرج ككنز لا ينفع (70).
وصاياه
ومن الوسائل التي اتبعها الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم للنهوض بالمجتمع، وتعليم الأمة، هي وصاياهم الخالدة، والتي تعتبر موسوعة أخلاقية، كبرى، سجلنا قسماً منها في كتاب (أئمتنا) وعلى نهجهم سلك أكابر الصحابة، فكانوا يوصون إخوانهم من الصحابة والتابعين بالأخذ بتعاليم السماء، والالتزام بالنهج المحمدي، مصداقاً لقوله تعالى: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (71).
نذكر في هذه الصفحة بعض وصايا هذا الصحابي الجليل فخذها للعمل والتطبيق:
1ـ قال له أصحابه: أوصنا.
فقال: من استطاع منكم أن يموت حاجاً أو معتمراً أو غازياً أو في نقل القراءة فليمت، ولا يموتن أحدكم فاجراً ولا خائناً (72).
2ـ وقال له رجل: أوصني. قال: لا تتكلم. فقال: من عاش في الناس لا يستطيع أن لا يتكلم. فقال: إن تكلمت فتكلم بحق أو اسكت. قال: زدني. قال: لا تغضب. قال: أمرتني أن لا أغضب وإنه ليغشاني ما لا أملكه. قال: إن غضبت فاملك لسانك ويدك. قال: زدني. قال: لا تلابس الناس. قال: ما يستطيع من عاش في الناس أن لا يلبسهم. قال: فإن لابستهم فاصدق الحديث، وأدّ الأمانة (73).
3ـ وقال: إذا أظهرتم العلم، وخزنتم العمل، وتحاببتم بالألسن، وتباغضتم بالقلوب، لعنكم الله فأصمكم، وأعمى أبصاركم (74).
4ـ عن قتادة قال: قال سلمان: إذا أسأت سيئة في سريرة فأحسن حسنة في سريرة، وإذا أسأت سيئة في علانية فأحسن حسنة في علانية لكي تكون هذه بهذه (75).
5ـ قال له سعد بن أبي وقاص: أوصني يا أبا عبد الله. قال: نعم، اجعل الله عند همّك إذا هممت، وعند لسانك إذا حكمت، وعند يدك إذا قسمت (76).
6ـ عن أوس بن ضمعج قال: سألنا سلمان رضي الله عنه عن عمل نعمله فقال: تفشي السلام، وتطعم الطعام، وتصلي والناس نيام (77).
7ـ ومن حديث له: حافظوا على هذه الصلوات الخمس فإنهن كفارات لهذه الجراحات ما لم تصب المقاتلة ـ يعني الكبائر (78).
8ـ ومن وصية له لجرير: يا جرير تواضع لله عزّ وجلّ، فإنه من تواضع لله عزّ وجلّ في الدنيا رفعه الله يوم القيامة. يا جرير، هل تدري ما الظلمات يوم القيامة؟ قلت: لا، قال: ظلم الناس بينهم في الدنيا.
قال: ثم أخذ عويداً لا أكاد أراه بين إصبعيه قال: يا جرير لو طلبت في الجنة مثل هذا العود لم تجده.
قلت: يا أبا عبد الله، فأين النخل والشجر؟
قال: أصولها اللؤلؤ والذهب، وأعلاها الثمر (79).
9ـ عن أبي جحيفة عن أبيه قال: آخى النبي (صلّى الله عليه وآله) بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة (80) فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليست له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً قال: كل فإني صائم قل: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم فقال نم، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن. قال: فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه. فأتى النبي (صلّى الله عليه وآله) فذكر ذلك له، فقال البني (صلّى الله عليه وآله): صدق سلمان (81).
10ـ عن أبي عثمان قال: كنا مع سلمان الفارسي رحمه الله تحت شجرة، فأخذ غصناً منها فنفضه فتساقط ورقه. فقال: ألا تسألوني عما صنعت؟ فقلنا: خبرنا، فقال: كنا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في ظل شجرة فأخذ غصناً فتساقط ورقه. فقال: ألا تسألوني عما صنعت؟ فقلنا: خبّرنا يا رسول الله، قال: إن العبد المسلم إذا قام إلى الصلاة تحاطت عنه خطاياه كما تحاطت ورق هذه الشجرة (82).
11ـ كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) آخى بين سلمان وأبي الدرداء، وسكن أبو الدرداء الشام، وسكن سلمان العراق، فكتب أبو الدرداء إلى سلمان: سلام عليك، أما بعد فإن الله رزقني بعدك مالاً وولداً، ونزلت الأرض المقدسة.
فكتب إليه سلمان: سلام عليك: أما بعد، فإنك كتبت إليّ أن الله رزقك مالاً وولداً، فاعلم أنّ الخير ليس بكثرة المال والولد، ولكن الخير أن يكثر حلمك، وأن ينفعك علمك. وكتبت لي أنك نزلت الأرض المقدسة، وأن الأرض لا تعمل لأحد، اعمل كأنك ترى، واعدد نفسك من الموتى (83).
مواعظ وحكم
إن رجلاً قطع الفيافي بحثاً عن الدين، وخدم عمراً طويلاً أعلام الدين من أجل الوصول إلى الحقيقة، ثم كانت الخاتمة السعيدة في دخول الإسلام، والتلمذة على يد الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، وابن عمه أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقول عائشة: كال لسلمان مجلساً من رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
فجدير بمثل هذا الإنسان أن يفيض علماً وحكماً على الأمة.
نذكر لك بعض ما بين أيدينا من ذلك:
1ـ عن أبي الأحوص قال: افتخرت قريش عند سلمان، فقال سلمان: لكني خلقت من نطفة قذرة، ثم أعود جيفة منتنة، ثم يؤدى بي إلى الميزان، فإن ثقلت فأنا كريم، وإن خفت فأنا لئيم (84).
2ـ وقال: مثل القلب والجسد مثل أعمى ومقعد، قال المقعد: إني أرى ثمرة ولا أستطيع أن أقوم إليها فاحملني، فحمله فأكل وأطعمه (85).
3ـ وقال: أضحكني ثلاث، وأبكاني ثلاث: ضحكت من مؤمّل الدنيا والموت يطلبه، وغافل لا يُغفل عنه، وضاحك ملء فيه لا يدري أمسخط ربّه أم مرضيه، وأبكاني ثلاث: فراق الأحبّة: محمد وحزبه، وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي رب العالمين، حتى لا أدري إلى النار انصرافي أم إلى الجنة (86).
4ـ كان سلمان إذا وضع الطعام بين يديه قال: الحمد لله الذي كفانا المؤونة، وأحسن الرزق (87).
5ـ وقال: لو يعلم الناس عون الله للضعيف ما غالوا بالظهر (88).
6ـ وقال: عجباً لمؤمّل الدنيا والموت يطلبه، وغافل ليس بمغفول عنه، وضاحك ولا يدري أربّه راض عنه أم ساخط (89).
7ـ عن أبي سعيد الوهبي عن سلمان قال: إنما مثل المؤمن في الدنيا كمثل المريض معه طبيبه الذي يعلم داءه ودواءه، فإذا اشتهى ما يضره منعه وقال: لا تقربه، فإنك إن أتيته أهلكك، فلا يزال يمنعه حتى يبرأ من وجعه، وكذلك المؤمن يشتهي أشياء كثيرة ممّا قد فضل به غيره من العيش، فيمنعه الله عزّ وجلّ إيّاه ويحجزه حتى يتوفاه فيدخله الجنة (90).
8ـ وقال: أكثر الناس ذنوباً يوم القيامة أكثرهم كلاماً في معصية الله (91).
9ـ وقال: لكل امرئ جواني وبراني، فمن يصلح جوانيه يصلح الله برانيه ومن يفسد جوانيه يفسد الله برانيه (92).
10ـ عن أبي هريرة أنه قال تخطى سلمان الفارسي حلقة قريش وهم عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في مجلسه، فالتفت إليه رجل منهم فقال: ما حسبك وما نسبك، وبم اجترأت أن تتخطى حلقة قريش؟
قال: فنظر إليه سلمان فأرسل عينيه وبكى وقال: سألتني عن حسبي ونسبي، خلقت من نطفة قذرة، فأما اليوم ففكرة وعبرة، وغداً جيفة منتنة، فإذا نشرت الدواوين، ونصبت الموازين، ودعي الناس لفصل القضاء فوضعت في الميزان، فإن أرجح الميزان فأنا شريف كريم، وإن أنقص الميزان فأنا اللئيم الذليل، فهذا حسبي وحسب الجميع.
فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): صدق سلمان، صدق سلمان، من أراد أن ينظر إلى رجل نور الله قلبه فلينظر إلى سلمان (93).
11ـ عن أبي عظمان، عن سلمان قال: إن العبد إذا كان يدعو الله في السرّاء، فنزلت به الضرّاء، قالت الملائكة: صوت معروف من آدمي ضعيف، فيشفعون له، وإذا كان لا يدعو الله في السرّاء، فنزلت به الضرّاء، قالت الملائكة: صوت منكر من آدمي ضعيف فلا يشفعون له (94).
12ـ عن سعيد بن وهب قال: دخلت مع سلمان على صديق له من كندة نعوده، فقال له سلمان: إن الله عزّ وجلّ يبتلي عبده المؤمن بالبلاء ثم يعافيه فيكون كفارة لما مضى فيستعتب (95) فيما بقي، وإن الله عزّ وجلّ يبتلي عبده الفاجر بالبلاء ثم يعافيه فيكون كالبعير عقله أهله ثم أطلقوه، فلا يدري فيم عقلوه، ولا فيم أطلقوه حين أطلقوه (96).
13ـ عن أبي عثمان، عن سلمان قال: لما افتتح المسلمون جوخى (97) دخلوا يمشون فيها، وأكداس الطعام فيها أمثال الجبال.. قال: ورجل يمشي إلى جنب سلمان فقال: يا أبا عبد الله ألا ترى إلى ما أعطانا الله؟ فقال سلمان: وما يعجبك، فما ترى إلى جنب كل حبة ممّا ترى حساب (98).
الأمير الزاهد
اقتضت سياسة عمر بن الخطاب توظيف بعض عناصر المعارضة لتخلو المدينة منهم، فأقل ما يتوقع منهم أن يتحدثوا للوفود الكثيرة التي تصل المدينة المنوّرة: إن الخليفة الذي عيّنه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وبايعه المسلمون في غدير خم قابع في بيته، فتخلصاً من مشاكل كثيرة ربما تحدث من بقائهم أرسل قسماً غير قليل منهم.
وبنفس الوقت اقتضت سياسة المعارضة الاستجابة لهذا التوظيف، لأن به تتحقق أمنيتهم في نشر مبادئهم، وبث الدعوة لعميدهم، فجميع البلاد التي عملت فيها المعارضة انتشر فيها مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وكيف ما كان فقد أرسل عمر سلمان الفارسي رضوان الله عليه والياً على المدائن، قاعدة الملك الكسروي، والتي تبعد عن بغداد حوالي 35 كيلومتراً، ويقول سلمان: أكرهني عمر على الإمارة وأنا لا أريدها (99).
هذا وقد تولى سلمان ولاية المدائن في عهد عمر بن الخطاب، ولم نعثر على نص يحدد تاريخ هذه الولاية وزمانها، إلا أنه من المرجح أن توليه لها كان بعد فتحها دون أن يسبقه أحد إليها (100) سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار خصوصية اللغة (الفارسية) بالإضافة إلى كونه من السابقين، ممّا يعطيه الأفضلية في ذلك.
وممّا يجدر ذكره، أنه حين ورد إلى المدائن قعد تحت ظلال الحائط في المسجد ولم يقبل أن يدخل قصر الإمارة. كما روي ذلك عنه، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على مدى السمو النفسي الذي كان يتمتع به هذا الرجل والذي جعله في مصاف عباقرة العالم ممن تخدمهم الدنيا ولا يخدمونها، وقد بقي سلمان في المدائن إلى أن توفي في سنة 34 هجرية على الأصح ـ كما يقول السيد بحر العلوم (101).
بينما يذهب البعض إلى أنه بقي فيها إلى خلافة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) (وأنه توفي في سنة 36 للهجرة) (102). ولعلهم يستندون في ذلك إلى الكتاب الذي بعث به إليه أمير المؤمنين (عليه السلام)، والكتاب هذا نصه:
(أما بعد، فإنما مثل الدنيا مثل الحيّة، ليّنٌ مسّها قاتلٌ سمّها، فأعرض عما يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها لما أيقنت به من فراقها وتصرّف حالاتها، وكن آنس ما تكون بها أحذر ما تكون منها، فإن صاحبها كلما اطمأن فيها إلى سرور أشخصته إلى محذور، أو إلى إيناس أزالته عنه إلى إيحاش، والسلام) (103).
لكن هذا لا يكفي دليلاً لما ذهبوا إليه، فإن لعلي (عليه السلام) في نفس سلمان مكانة كبرى تخوله أن يبعث إليه بمثل هذا الكتاب حتى في عهد عمر، وقد ذكر الشريف الرضي رحمه الله أنه كتبه إليه قبل خلافته.
يوم السقيفة
رأت المعارضة أن تسمع صوتها الحكام وجمهور المسلمين، ورغم عدائها للسلطة فقد تكلمت بأدب، ولم تخرج في كلامها إلى السب وشبهة.
وكان المحور الذي تكلمت به التذكير ببيعة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وبيان فضائله ومناقبه، لا سيما الفضائل التي تشير إلى إمامته، وأحقيته بالخلافة.
ثم جاء دور سلمان الفارسي (عليه السلام) فقال: يا أبا بكر إلى من تستند أمرك إذا نزل بك القضاء، وإلى من تفزع إذا سئلت عمّا لا تعلم وفي القوم من هو أعلم منك، وأكثر في الخير أعلاماً ومناقب منك، وأقرب من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قرابة وقدمة في حياته، فقد أوعز إليكم فتركتم قوله، وتناسيتم وصيته، فعما قليل يصفو لكم الأمر حين تزوروا القبور، وقد أثقلت ظهرك من الأوزار، لو حملت إلى قبرك لقدمت على ما قدمت، فلو راجعت إلى الحق وأنصفت أهله لكان ذلك نجاة لك يوم تحتاج إلى عملك، وتفرد في حفرتك بذنوبك عما أنت له فاعل، وقد سمعت كما سمعنا، ورأيت كما رأينا فلم يروعك ذلك عما أنت له فاعل، فالله الله في نفسك فقد أعذر من أنذر (104).
وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه (عليه السلام) قال: خطب الناس سلمان الفارسي رحمة الله عليه بعد أن دفن النبي (صلّى الله عليه وآله) بثلاثة أيام فقال فيها: ألا أيها الناس اسمعوا عني حديثي، ثم اعقلوه عني، ألا وإني أوتيت علماً كثيراً، فلو حدثتكم بكل ما أعلم من فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) لقالت طائفة منكم: هو مجنون، وقالت طائفة أخرى: اللهم اغفر لقاتل سلمان، ألا وإنّ لكم منايا، تتبعها بلايا، ألا وإنّ عند علي (عليه السلام) علم المنايا والبلايا، وميراث الوصايا، وفصل الخطاب، وأصل الأنساب، على منهاج هارون بن عمران من موسى (عليه السلام) إذ يقول له رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أنت وصيي في أهل بيتي، وخليفتي في أمتي، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى، ولكنكم أخذتم سنة بني إسرائيل، فأخطأتم الحق فأنتم تعلمون ولا تعلمون.
أما والله لتركبن طبقاً عن طبق، حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة، أما والذي نفس سلمان بيده لو وليتموها علياً لأكلتم من فوقكم ومن تحت أقدامكم، لو دعوتم الطير لأجابتكم في جو السماء، ولو دعوتم الحيتان من البحار لأتتكم، ولما عال (105) ولي الله، ولا طاش لكم سهم (106) من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله، ولكن أبيتم فوليتموها غيره، فأبشروا بالبلايا، واقنطوا من الرخاء، وقد نابذتكم على سواء فانقطعت العصمة فيما بيني وبينكم من الولاء.
عليكم بآل محمد (صلّى الله عليه وآله)، فإنهم القادة إلى الجنة، والدعاة إليها يوم القيامة، عليكم بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فوالله لقد سلمنا عليه بالولاية، وإمرة المؤمنين مراراً جمّة مع نبيّنا، وكل ذلك يأمرنا به، ويؤكّد علينا، فما بال القوم عرفوا فضله فحسدوه؟! وقد حسد هابيل قابيل فقتله، وكفّاراً قد ارتدّت أمة موسى بن عمران، فأمر هذه الأمة كأمر بني إسرائيل، فأين يذهب بكم؟
أيها الناس ويحكم ما لنا وأبو فلان، أجهلتم أم تجاهلتم، أم حسدتم أم تحاسدتم، والله لتردن كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف، يشهد الشاهد على الناجي بالهلكة، ويشهد الشاهد على الكافر بالنجاة، ألا وإني أظهرت أمري، وسلمت لنبيي، وأتبعت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة علياً أمير المؤمنين، وسيد الوصيين ـ وقائد الغر المحجلين، وإمام الصديقين، والشهداء والصالحين (107).
الداعي المخلص
ومن عجائب الدنيا أن يبايع المسلمون بأمر النبي (صلّى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) في غدير خم (108) عند منصرفهم من حجة الوداع بإمرة المؤمنين، وينزل جبرائيل (عليه السلام) بقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ) (109) ويستأذن حسان بن ثابت النبي (صلّى الله عليه وآله) في تسجيل هذا الحدث العظيم شعراً، فيأذن له، فيقول:
يناديــــهم يـــــوم الـــــغدير نبـيهم بخــــمّ وأسمـــع بالرســــول مناديا
وقال: فمــــن مــــولاكـــــم ونبيّكم فقالوا: ولـــم يبــــدوا هناك التعاميا
إلهــــك مــــولا وأنــــــت ولــــــينا ولـــم تلــــق منا في الولاية عاصيا
فقال لــــه: قـــــم يا علــــــي فإنني رضــــيتك مــن بعدي إماماً وهاديا
فمـــــن كـــــنت مـــولاه فهذا وليّه فكونــــوا لــــه أتـباع صدق مواليا
هنـــاك دعــــا: اللــــــهم وال وليّه وكن للذي عادى علياً معاديا(110)
ويتوفى الرسول (صلّى الله عليه وآله) بعد ذلك بسبعين يوماً، فيبايعون غيره، بل يطلبون منه أيضاً أن يبايع لهم.
وكيفما كان فقد استبدلوا بالخليفة المنصوص عليه من قبل السماء آخر، وتمت البيعة الجديدة، وتناسى المسلمون ذلك اليوم العظيم الذي شهده جل المسلمون. نعم، بقي جماعة من أعاظم الصحابة وكبارهم في مسيرة الإمام (عليه السلام) يشيدون بفضله، ويذكرون مناقبه، ويدعون إلى موالاته، وعلى رأس هؤلاء الصفوة سلمان الفارسي رضوان الله عليه.
نذكر بعض ما ورد عنه في ذلك:
1ـ عن سلمان رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على النصح للمسلمين، والائتمام بعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، والموالاة له (111).
2ـ عن سلمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: يا معشر المهاجرين والأنصار ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: هذا علي أخي ووزيري ووارثي وخليفتي، إمامكم فأحبوه لحبي، وأكرموه لكرامتي، فإن جبرائيل أمرني أن أقول لكم ما قلت (112).
3ـ عن عليم قال: سمعت سلمان يقول: أول هذه الأمة وروداً على نبيها أولها إسلاماً علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وإن خراب هذا البيت على يد رجل من آل فلان (113).
4ـ عن زاذان قال: قال لي سلمان: يا زاذان أحب علياً، فإني رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ضرب فخذه وقال: محبك محبي، ومحبي محب الله، ومبغضك مبغضي، ومبغضي مبغض الله عزّ وجلّ (114).
5ـ قال سليم بن قيس: جلست إلى سلمان وأبي ذر والمقداد، فجاء رجل من أهل الكوفة فجلس إليهم مسترشداً.
فقال له سلمان: عليك بكتاب الله فألزمه، وعلي بن أبي طالب فإنه مع القرآن لا يفارقه، فأنا أشهد أنّا سمعنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: إن علياً يدور مع الحق حيث دار، وأن علياً هو الصديق والفاروق، يفرق بين الحق والباطل (115).
6ـ عن زر بن حبيش قال: مرّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) على بغلة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسلمان في ملأ، فقال سلمان رحمة الله عليه: ألا تقومون تأخذون بحجزته تسألونه، فوالله الذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة لا يخبركم بسرّ نبيكم أحد غيره، وإنه لعالم الأرض وزرها (116) وإليه تسكن، ولو فقدتموه لفقدتم العلم وأنكرتم الناس (117).
7ـ كان سلمان يقول: يا معشر المؤمنين تعاهدوا ما في قلوبكم لعليّ صلوات الله عليه، فإني ما كنت عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قطّ، فطلع عليّ، إلا ضرب النبي (صلّى الله عليه وآله) بين كتفيّ ثم قال: يا سلمان هذا وحزبه هم المفلحون (118).
كيفية وفاته (رض)
لقد آن لهذا الفارس أن يترجل بعد أن حاز قصب السبق في ميدان الإيمان. لقد كان أروع مثل للعبقرية التي تنجبها أمة فكان (سابق فارس) نحو الإيمان ورائدها نحو الإسلام، قضى عمره المديد مجداً في طلب الحق حتى كان له ما أراد، وقد شاء الله له أن يعود من حيث أتى، إلى وطنه وأهله وعشيرته دالاً لهم ومرشداً، وأمير عدل يحكم بينهم بالحق.
ومضت سنين أحسبها تنوف على ربع قرن، كان سلمان خلالها ينفض عن نفسه غبار هذه الدنيا الزائفة مزمعاً الرحيل نحو العالم الخالد.. عالم الآخرة، لينعم هناك برضوان الله ورحمته في جنته الخالدة مع الأنبياء والشهداء والصديقين.
قال الأصبغ بن نباتة: كنت مع سلمان الفارسي رحمه الله عليه وهو أمير المدائن، فأتيته يوماً وقد مرض مرضه الذي مات فيه.. فلم أزل أعوده في مرضه حتى اشتد به الأمر، فالتفت إليّ وقال:
يا أصبغ، عهدي برسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: يا سلمان، سيكلمك ميت إذا دنت وفاتك (119).
وبينما هو في مرضه إذ دخل عليه سعد بن أبي وقاص يعوده، فبكى سلمان، فقال له سعد: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ توفي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو عنك راض، وترد عليه الحوض.
فقال سلمان: أما إني لا أبكي جزعاً من الموت، ولا حرصاً على الدنيا، ولكن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عهد إلينا فقال: ليكن بلغة أحدكم مثل زاد الراكب، وحولي هذه الأساود، (وإنما حوله إجانة، وجفنة، ومطهرة) (120).
واشتد به المرض، فمر على المقابر ـ وكأنه أراد أن يعلم أمره ـ فقال: السلام عليكم يا أهل القبور من المؤمنين والمسلمين، يا أهل الدار هل علمتم أن اليوم جمعة.
وحين عاد إلى مقره استلقى على فراشه، فغفا ونام، فأتاه آتٍ فقال: وعليكم السلام يا أبا عبد الله، تكلمت فسمعنا، وسلمت فرددنا، وقلت: هل تعلمون أن اليوم جمعة، وقد علمنا ما تقول الطير في يوم الجمعة: قدوسٌ قدوس.. ربنا الرحمن الملك.. (121).
وأفاق سلمان من غفوته، ثم التفت إلى من حوله قائلاً لهم: أسندوني، فلما أسندوه رمق السماء بطرفه وقال:
(يا من بيده ملكوت كل شيء واليه ترجعون، وهو يجير ولا يجار عليه بك آمنت، ولنبيك اتبعت، وبكتابك صدقت، وقد أتاني ما وعدتني، يا من لا يخلف الميعاد أقبضني إلى رحمتك، وأنزلني دار كرامتك، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) (122) والتفت إلى من حوله قائلاً:
قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) (إذا حضرك أو أخذك الموت، حضر أقوام يجدون الريح ولا يأكلون الطعام) ـ يعني الملائكة ـ.
ثم أخرج صرةً من مسك، فقال: هبة أعطانيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله).. ثم بلّها ونضحها حوله، ثم قال لامرأته: قومي أجيفي الباب (123).
قالت زوجته: ففعلت، وجلست هنيئة، فسمعت هسهسةً، فصعدت، فإذا هو قد مات وكأنما هو نائم (124).
تجهيزه ودفنه
قالوا: وإن الذي قام بتجهيزه هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وكيفية ذلك هو ما رواه الأصبغ بن نباتة، قال:
(فبينما نحن كذلك ـ منشغلين بموت سلمان ـ إذ أتى رجل على بغلة شهباء متلثماً، فسلم علينا، فرددنا السلام عليه.
فقال: يا اصبغ جدوا في أمر سلمان، وأردنا أن نأخذ في أمره، فأخذ معه حنوطاً وكفناً فقال: هلموا، فإن عندي ما ينوب عنه. فأتيناه بماء ومغسل، فلم يزل يغسّله بيده حتى فرغ، وكفّنه وصلينا عليه ودفنّاه ولحّده علي (عليه السلام) بيده، فلما فرغ من دفنه وهمّ بالانصراف تعلقت بثوب، وقلت له: يا أمير المؤمنين، كيف كان مجيئك؟ ومن أعلمك بموت سلمان؟
قال: فالتفت (عليه السلام) إليّ وقال: آخذ عليك ـ يا أصبغ ـ عهد الله وميثاقه أنك لا تحدث به أحداً ما دمت حياً في دار الدنيا.
فقلت: يا أمير المؤمنين، أموت قبلك؟
فقال: لا يا أصبغ، بل يطول عمرك!
قلت: يا أمير المؤمنين، خذ علي عهداً وميثاقاً، فإني لك سامع مطيع، أني لا أحدث به حتى يقضي الله من أمرك ما يقضي، وهو على كل شيء قدير.
فقال لي: يا أصبغ، بهذا عهدني رسول الله، فإني قد صليت هذه الساعة بالكوفة، وقد خرجت أريد منزلي، فلما وصلت إلى منزلي اضطجعت، فأتاني آتٍ في منامي وقال: يا علي إن سلمان قد قضى نحبه!
فركبت وأخذت معي ما يصلح للموتى، فجعلت أسير، فقرّب الله لي البعيد، فجئت كما تراني، وبهذا أخبرني رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
قال الأصبغ: ثم إنه دفنه وواراه، فلم أرَ صعد إلى السماء، أم في الأرض نزل، فأتى الكوفة والمنادي ينادي لصلاة المغرب) (125).
55- إرشاد القلوب، ج1، ص62.
56- بحار الأنوار، ج82، ص145.
57- تهذيب تاريخ دمشق الكبير، ج6، ص204.
58- أصول الكافي، ج2، ص440.
59- معاني الأخبار، ص235.
60- الفصول المختارة من العيون والمحاسن، ص288.
61- تهذيب تاريخ دمشق الكبير، ج6، ص204.
62- حلية الأولياء، ج1، ص187.
63- الطبقات الكبرى، ج4، ص86.
64- رجال الكشي، ص12.
65- رجال السيد بحر العلوم، ج3، ص20.
66- صفة الصفوة، ج1، ص546.
67- صفة الصفوة، ج1، ص544.
68- صفة الصفوة، ج1، ص546.
69- تهذيب تاريخ دمشق الكبير، ج6، ص209.
70- تهذيب تاريخ دمشق الكبير، ج6، ص209.
71- سورة العصر، الآية 3.
72- الطبقات الكبرى، ج4، ص91.
73- تهذيب تاريخ دمشق الكبير، ج6، ص210.
74- تهذيب تاريخ دمشق الكبير، ج6، ص210.
75- صفة الصفوة، ج1، ص548.
76- مروج الذهب، ج2، ص315.
77- حلية الأولياء، ج1، ص204.
78- صفة الصفوة، ج1، ص547.
79- حلية الأولياء، ج1، ص189.
80- البذلة ـ من الثياب ـ: ما يلبس في المهنة والعمل، والمراد: وصف رثة ثيابها.
81- صحيح البخاري، ج4، ص105، كتاب الأدب.
82- أمالي الشيخ الطوسي، ص170.
83- أسد الغابة، ج2، ص268.
84- صفة الصفوة، ج1، ص544.
85- حلية الأولياء، ج1، ص205.
86- حلية الأولياء، ج1، ص207.
87- الطبقات الكبرى، ج4، ص89.
88- حلية الأولياء، ج1، ص20، والمراد بالظهر الدابة التي يركبها المسافر، ومعنى الكلام: إن الله سبحانه يعين عباده الذين لا يجدون ما يركبون، فيسهل عليهم قطع الطرقات واجتيازها.
89- لواقح الأنوار في طبقات الأخيار، ج1، ص24.
90- صفة الصفوة، ج1، ص547.
91- حلية الأولياء، ج1، ص202.
92- حلية الأولياء، ج1، ص203.
93- تهذيب تاريخ دمشق الكبير، ج6، ص200.
94- صفة الصفوة، ج1، ص550.
95- يسترضي.
96- صفة الصفوة، ج1، ص551.
97- جوخى: بلد بالعراق، ولم يكن عند الفرس كورة تعدلها، وكانت كثيرة الخراج.
98- صفة الصفوة، ج1، ص551.
99- تهذيب تاريخ دمشق الكبير، ج6، ص208.
100- في الإصابة، ج1، ص318 في حديثه عن حذيفة بن اليمان قال: قال العجلي استعمله عمر على المدائن. وفي المستدرك، ج3، ص380، في حديثه عن فضائل حذيفة قال: وزعم بعضهم أنه كان بالمدائن الخ.. لكن المحق أن الذي تولى إمارة المدائن هو سلمان وبقي بها إلى أن توفي.
101- رجال بحر العلوم، ج3، ص16.
102- راجع الكامل، ج3، ص287.
103- نهج البلاغة، ج3، ص128.
104- الخصال، ص463.
105- عال: افتقر.
106- طاش السهم: مال عن الهدف.
107- الاحتجاج، ص112.
108- اسم موضع بين مكة والمدينة، يتفرّق منه الحجاج إلى بلدانهم.
109- سورة المائدة، الآية 3.
110- الغدير، ج2، ص34، عن ثمانية وثلاثين مصدراً.
111- أمالي الشيخ الطوسي، ص155.
112- أمالي الشيخ الطوسي، ص227.
113- أمالي الشيخ الطوسي، ص319.
114- أمالي الشيخ الطوسي، ص363.
115- الاحتجاج، ص157.
116- زرها: قوامها.
117- أمالي الشيخ المفيد، ص139.
118- تفسير الحبري، ص232.
119- راجع البحار، ج22، ص374، والقصة طويلة ومفصلة اقتضبنا منها ما يناسب الموضوع.
120- نفس المصدر، ص381، خبر معروف.
121- سلمان الفارسي، ص138-139.
122- البحار، ج22، ص379.
123- نفس المصدر، ص283، ومعجم رجال الحديث، ج8، ص195.
124- سلمان الفارسي، ص139.
125- البحار، ج22، ص380.