لماذا لا يتكلم الله مع البشر جميعا بدلا من إرسال رسل من قبله إليهم؟
لم تكد أقدام بني اسرائيل تعبر البحر حتى طلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهاً بعدما رأوا أهل قرية يعكفون على عبادة أصنام لهم! وما لبثوا بعد فترة إلا وطلبوا من موسى عليه السلام أن يريهم الله جهرة! وقد يقال أن طبيعة البشر المادية تفرض عليهم أن يعاينوا الأشياء من خلال حواسهم كي يطمئنوا إلى وجودها! وقد يقال أنه أليس من الأفضل أن يظهر الله نفسه للناس كي يؤمنوا به بشكل أفضل ويسحب الذرائع التي يحتجون بها على عدم ايمانهم؟ لم لا يسمعهم الله صوته بدلاً من أن يسمع الوحي شخص واحد أو عدة أشخاص؟
إن معرفة كل شيء بحسبه فلكل معرفة طريق وواسطة تتناسب مع الشيء الذي نريد أن نتعرف عليه فالعين التي تعتبر أداة للمبصرات لا يمكن عملياً أن تكون أداة للمسموعات وما نعرفه بالذائقة لا يمكن معرفة طعمه باللمس مثلاً وهكذا.. ثم إن هناك أمور أخرى نتعرف عليها من طريق الحواس الباطنية كالتعرف على الجوع والعطش والنعاس والحب والكره والانزعاج من أمر ما أو السرور فكما هو واضح لا علاقة لها بالحواس الخمس فطريق التعرف على هذه الأشياء يختلف عن غيرها من الأشياء الأخرى ثم إن هناك أموراً يعرفها الانسان بحدسه كحدس الأم بما يجري على ولدها وهناك أمور تعرف من خلال العقل كالاستدلالات العقلية على المؤثر من خلال الأثر مع أننا قد لا نكون رأينا ذلك المؤثر من خلال الحواس فالتعرف على كل شيء بحسبه هذا أولاً.
ثانياً: إن طبيعة وجود بعض الأشياء تفرض لوناً خاصاً من المعرفة الغير حسية كالتعرف على العقل والروح وقوى النفس الغير جسدية كقوة الخيال وغيرها فجميع هذه القوى يتم التعرف عليها من خلال آثارها أو من خلال الاحساس الباطني بالنسبة لكل واحد من الناس ولا علاقة لها بالحواس وطلب التعرف على هذه الأشياء من خلال الحواس يعتبر نوع من السفاهة والجهل بحقيقة تلك الأشياء وبقيمتها الواقعية وبشرافتها وعلوها وتنزهها.
ثالثاً: إن عدم رؤية الأشياء من خلال الحواس لا يعتبر خفاء لهذه الأشياء بل يمكن أن يكون وجودها ظاهراً وحضورها قوياً لوسيلة أخرى من وسائل المعرفة كما هو الحال بالنسبة للجوع الذي يدفع الانسان إلى التحرك والبحث عن الطعام وكما في كافة الاحاسيس الباطنية الغائبة عن الحواس ولكنها ليست خافية أو أن مستوى ظهورها وحضورها ضعيف!
رابعاً: إن وسائل وأدوات المعرفة لا بد أن تكون سليمة كي يتمكن الانسان من التعرف على الأشياء والعقل والاحساس الباطني والحواس الظاهرية كلها تشترك في هذه المسألة بمعنى أنها إن لم تكن سليمة فلن تقوم بدورها ووظيفتها في تأمين المعرفة الصحيحة للانسان فليس من شأن المجنون أن يعطي الحكمة كما أن الأعمى لا يمكنه يصف ضوء النهار.
بعد بيان هذه التوضيحات نعود إلى السؤال المطروح حول عدم إظهار الله تعالى نفسه للبشر أو حول عدم تكليمهم بشكل مباشر بدل الاقتصار على تكليم البعض فإن كان من غير الممكن رؤية الله تعالى لأحد حتى الأنبياء فمما لا شك فيه أن الله كلم أنبياءه وهذا يعني أن امكانية تكليمه للبشر موجودة وحينئذٍ يكون السؤال حول عدم تكليم الله للبشر جميعاً مشروعاً!
هل احتجب الله عن خلقه؟
ورد في دعاء ليلة القدر في الصحيفة السجادية للامام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام :”يا باطِنًا في ظُهُورِهِ، ويا ظاهِراً في بطونِه، ويا باطِناً ليس يَخْفى، ويا ظاهِراً ليس يُرى” والمستفاد من ذا النص أن عدم رؤية الله تعالى لا يتنافى مع ظهوره فبطونه لا يمنع من ظهوره كما أن ظهوره في عين بطونه فعدم الرؤية بالحواس لا يعني الخفاء وعدم الظهور بل هو ظاهر رغم أنه لا يرى وقد ورد في دعاء الافتتاح “الَّذي بَعُدَ فَلا يُرى، وَقَرُبَ فَشَهِدَ النَّجْوى”فهو بعيد من جهة عدم رؤيته ولكنه قريب إلى درجة أنه يشهد النجوى الباطنية لكل انسان فيما بينه وبين نفسه فعدم رؤيته لا يضر بقربه بخلاف سائر الأشياء التي إما ان تكون ظاهرة أو باطنة وإما بعيدة أو قريبة وبعد الله تعالى عن امكانية الرؤية هو صفة كمالية وليس نقصا وخفاء وهذا المضمون بينه الإمام الصادق عليه السلام في حوار مع أحد الملحدين حين قال له اأن الله لا يدرك بحاسة فاستنتج الملحد أن الله ليس بشيء لأنه لا يرى ولا يدرك بحاسة من الحواس فاعتبر الامام أن عدم ادراك الحواس له دليل على ربوبيته وليس دليلا على عدم وجوده تعالى وهذا نص الحوار :
فقال(الرجل)، رحمك الله فأوجدني كيف هو وأين هو قال: ويلك إن الذي ذهبت إليه غلط، هو أين الأين وكان ولا أين، وهو كيف الكيف وكان ولا كيف، ولا يعرف بكيفوفية ولا بأينونية ولا يدرك بحاسة ولا يقاس بشئ،. قال الرجل فإذا إنه لا شئ إذ لم يدرك بحاسة من الحواس فقال أبو الحسن عليه السلام: ويلك لما عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته، ونحن إذا عجزت حواسنا عن إدراكه أيقنا أنه ربنا خلاف الأشياء قال الرجل: فأخبرني متى كان؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: أخبرني متى لم يكن فأخبرك متى كان!
أما شرح وبيان هذا الظهور فنوكله إلى الحوار الذي جرى بين الامام الصادق عليه السلام وأحد الملاحدة:
الرجل :ما منعه إن كان الامر كما يقولون أن يظهر لخلقه ويدعوهم إلى عبادته حتى لا يختلف منهم اثنان ولم احتجب عنهم وأرسل إليهم الرسل؟ ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الايمان به؟ فقال لي: ويلك وكيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك: نشوءك ولم تكن وكبرك بعد صغرك وقوتك بعد ضعفك وضعفك بعد قوتك وسقمك بعد صحتك وصحتك بعد سقمك ورضاك بعد غضبك وغضبك بعد رضاك وحزنك بعد فرحك وفرحك بعد حزنك وحبك بعد بغضك وبغضك بعد حبك وعزمك بعد أناتك وأناتك بعد عزمك وشهوتك بعد كراهتك وكراهتك بعد شهوتك ورغبتك بعد رهبتك ورهبتك بعد رغبتك ورجاءك بعد يأس ويأسك بعد رجائك، وخاطرك بما لم يكن في وهمك وعزوب ما أنت معتقده عن ذهنك وما زال يعدد علي قدرته التي هي في نفسي التي لا أدفعها حتى ظننت أنه سيظهر فيما بيني وبينه.
فالاحتجاب من جهة غفلة الانسان عن رؤية الجمال الإلهي في كل مراتب الوجود وهو ما أشرنا اليه في المقدمة الرابعة حول سلامة أدوات المعرفة أو عدم سلامتها فالطريق لمعرفة الموجودات الغيبية ممكن ولكن مع عدم وجود المانع وهو ما أكدته العديد من الروايات الشريفة ففي رواية يخاطب رسول الله بعض أصحابه بقوله: “لولا تمريج في قلوبكم وتكثير في كلامكم لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمع”، ومرة أخرى يخاطبهم: “لو بقيتم على تلك الحالة لصافحتكم الملائكة” وفي نفس الوقت يقول لعلي عليه السلام: “إنك ترى ما أرى وتسمع ما أسمع”، ونجد كذلك أحد أصحابه يحدثه عن ما يرى من عالم الملكوت فيمدحه النبي صلى الله عليه وآله ويصفه بالعبد الذي نور قلبه الله بالايمان وهذا يعني أن الطريق لمعرفة الموجودات الغيبية مفتوح ان لم يكن هناك مانع.