أنار منير دار الحاج رحمان عام 1968م الواقعة في قضاء الحي التابع لمحافظة واسط، تلك الدار التي شيدها في منطقة السراي والتي كانت تهفو إليها قلوب محبي آل البيت عليهمالسلام فقد كانت عامرة بمجالسهم.
امتازت تلك الأسرة الكريمة بكرمها وتماسكها وعلاقاتها الاجتماعية الطيبة، فلم يرق لأحفاد معاوية ويزيد ذلك، فأصدروا قرارهم الجائر بتسفير الحاج رحمن وأسرته عام 1971م ولما يبلغ منير سن الرابعة من عمره، فقد استيقظوا على طرقات الباب وصيحات زبانية صدام…
فتحوا الباب فإذا الكلاب المسعورة تحيط بهم فناداهم الحاج رحمان: ماذا تريدون منا؟
— تأتون معنا جميعًا
— أمهلونا إلى الصباح!
— بل الآن.
استرجع( ) الحاج رحمان وأمر أسرته للإسراع بالخروج قائلًا:
أسرعوا قبل ان يدخلوا عليكم فلا حياء ولا كرامة عند هؤلاء القوم.
لم يستطيعوا ان يأخذوا شيئا أو يصطحبوا مما لديهم وما هي إلا ساعات حتى وجدوا أنفسهم في منطقة الشلامچة على الحدود الإيرانية.
هكذا وبكل سهولة تسلب الأموال ويعتدى على الكرامات ظلمًا لامثيل له إلا في مدرسة بني أمية.
وصل الحاج رحمن وأسرته إلى مدينة المحمرة الإيرانية ثم نقلوا من هناك إلى مخيم جهرم وبعد الاتفاقية التي وقعت بين صدام ومحمد رضا بهلوي خيّرت الأسر المهجرة بين البقاء أو العودة، واختار الحاج رحمن العودة إلى وطنه وأحبته على رغم العناء والظلم الذي لاقاه على أيدي عصابات البعث المجرمة.
فرح أهالي قضاء الحي بعودة الحاج رحمن الذي عاد يحيي تلك المناسبات الطيبة التي تحيي القلوب وتذهب الصدأ ففي تلك الأجواء الإيمانية نشأ منير فتنور من سلوك أسرته وتعاليم مجالسها العامرة فبانت معالم الإيمان على وجهه وكان والده يتوسم فيه الخير الكثير.
لم تدم تلك السنين طويلًا، حتى عادت عليهم الكرّة، فقد طرقت الباب ظهرًا، وإذا بشرطي يقف على الباب حاملًا أمر التسفير إلى إيران ثانية وذلك بتاريخ 07/04/1980م، ولكن على حدود مهران هذه المرة، وكعادة البعثيين لم يمنحوا تلك الأسر فرصة لجمع ما يستطيعون حمله من الأمتعة بل خمس دقائق وإن زادت اقتحموا الدار ودخلوا من دون حياء وأنى لهم الحياء وهم خريجو مدرسة صدام وحزب البعث.
نقلوا من مدينة مهران إلى مخيم جهرم ثم خرجوا ليسكنوا في مدينة المحمرة ثم إلى مدينة الشوش وبعد اندلاع الحرب انتقلوا للسكن في مدينة يزد.
عمل منير في أحد أكبر معامل السجاد في مدينة يزد فأحبه صاحب المعمل وزملاؤه في العمل وذلك لعلاقاته الطيبة معهم ولإخلاصه وحرصه على بذل أقصى الجهد لأداء ما يوكل إليه.
عرف ومنذ نعومة أظفاره بتدينه وخلقه الرفيع وكانت بصمات تلك الأسرة الكريمة واضحة في ذلك، وكان محبوبًا على مستوى محافظة يزد لانه كان لاعبًا ماهرًا في كرة القدم ويشارك في صلاة الجماعة والمناسبات والشعائر الأخرى.
لم يكن العمل يمنعه من أداء واجبه الجهادي المقدس فقرر الالتحاق بالمجاهدين بتاريخ 22/4/1986م وبعد إنهاء الدورة التدريبية العشرين نُسّب إلى فوج الإمام موسى الكاظم وشارك في العديد من الواجبات الجهادية.
أشترك في عمليات تحرير مدينة حلبچة وكان له دور فاعل مع فوجه.
يقول عنه الأخ عبد الغفار جبار( ): «كانت والدته تود بقاءه معها، فأرسلتني إلى مرآب السيارات كي أطلب منه الرجوع وقد رجوته العودة إلى البيت، فأعاد تذكرة السفر وفتح حقيبته وأخرج علبة تمر وقام بتوزيعها على الركاب، وقال لي: انصرف فانصرفت وتبين بعد ذلك أنه قد صعد في سيارة أخرى ولم يعد للبيت.
لقد عاد أبوسراج( ) إلى الفوج الثالث الذي نسب إليه بعد عمليات حلبچة وكان سراجًا وهاجًا أضاء الطريق وشع نور إيمانه بين المجاهدين.
يقول المجاهد أبومنتظر الربيعي «كان أبوسراج قليل الكلام كثير العمل يمتاز بهدوئه ومعاملته الحسنة مع أخوته المجاهدين كما امتاز بشجاعته الفائقة، وكان دؤوبًا في عمله على الرغم من كونه لم يبلغ العشرين من عمره وكان يتحمل أصعب المسؤوليات أثناء أداء الواجب المقدس وخاصة أثناء الواجب الجهادي الذي كلفنا فيه داخل العراق.
أما المجاهد أبومحمد الواسطي فقد قال عنه: «كان الشهيد قمة في الأخلاق متدينًا محبًّا لعمل الخير وكان بارعا في لعبة كرة القدم وأحد أبرز لاعبي فريق الشهيد الصدر لكرة القدم في مدينة يزد.
ويقول المجاهد أبومحمد الواسطي: «كان بارعًا بالرماية على سلاح البيكيسي عاشقًا لسلاحه تشهد له ميادين الجهاد بذلك، سألته يومًا “لماذا لاتعد إلى عملك في الشركة؟” فأجابني ضاحكًا “هل جئنا إلى الجمهورية الإسلامية للعمل ياأبامحمد؟! والعراق العراق ياأبامحمد من يحرره إذا نحن لم نحمل السلاح؟! فبهتُّ ولم أجبه لأن ما قاله كان صحيحًا.
أما المجاهد أبومحمد باقر( ) آمر سريته فيقول: «كنا جالسين في الخيمة ويبدو على بعضنا عدم الارتياح فقال أبوسراج: هل تعرفون لِمَ تبدو علينا هذه الحالة؟ قلنا: لماذا؟ قال: لأن أرواحنا غريبة على هذه الدنيا ومكانها ليس هنا.
بتلك الروحية وبذلك الإيمان كان يتمتع أبوسراج فقد كان قدوة لأفراد سريته وفوجه وبقية المجاهدين.
أما المجاهد أحمد الجادري يتحدث عن الشهيد ويقول: «كنت في حظيرة واحدة مع أبيسراج ومجموعة من المجاهدين في تلك الأجواء الملائكية كانت القلوب تتآلف ويبلغ الحب في الله أعلى درجاته، إذ الهم مشترك والهدف واحد وهو وجه الله سبحانه وتعالى. في الأيام الأولى للدورة تعرفت على أبيسراج فصرنا قلبًا واحدًا وزاد الارتباط يومًا بعد آخر ووصل الأمر بنا إننا لم نفترق سواء في الدرس أم التدريب أم الاستراحة أم الصلاة، وأخذت أحيط بالشهيد وعرفت عنه الكثير، عرفته شابًّا يمتلك وضوح الرؤية فهو رغم صغر سنه كان يرى الأشياء كما هي، عرفته عابدًا مع صعوبة تلك الأيام فقد الدورة التدريبية متعبة في شهر تموز وكان على الجميع النهوض في الساعة الثالثة والنصف بعد منتصف الليل ليبدأ التدريب ويستمر حتى الساعة الحادية والنصف صباحًا تتخلله دروس عسكرية وثقافية، ونعاود العمل من الساعة الثانية وخمسة وأربعين دقيقة ظهرًا إلى الليل، وفي الليل كنا نخرج في دوريات ومسيرات عسكرية. ذلك البرنامج المثقل لم يكن يمنع أباسراج من إقامة صلاة الليل في مصلى المعسكر ولا من صلاة الجماعة ولا بقية المستحبات.
عرفت أباسراج إنسانًا ينفتح على جميع الشباب بأريحيته الخاصة ودعابته ووجهه الباسم وحسن رفقته وتواضعه. لقد كان على علاقة وطيدة بأكثر أفراد الدورة، وكان يقوم بأعمال تعود بالنفع إلى المعسكر والمجاهدين ليست من مهامه. ومن حسن الحظ أن نجتمع مرة أخرى في فوج الإمام موسى الكاظم ونكون في سرية واحدة هي سرية القدس لنلتحق بالهور في نفس اليوم فاستقر أبوسراج في بحيرة أم النعاج أما أنا ففي سبل المچري( ) ثم اجتمعنا في بحيرة أم النعاج في نقطة واحدة .
ويصف المجاهد أحمد الجادري فوج الإمام موسى الكاظم فيقول: لقد كان فوج الإمام موسى الكاظم بحق مدرسة تربية وإعداد، فآمر الفوج الشهيد أبوطارق البصري( ) هو المعلم الذي كنا نتعلم من هديه وسلوكه، وكان له من الحنكة والقدرة القيادية مما جعل من المجاهدين كأسرة واحدة .
ثم يذكر المجاهد أبوأحمد الجادري خواطر عن الشهيد فيقول: «في تلك المدرسة وبين القصب وفي الجو الملتهب بحرارة الشمس والقذائف، التقينا في حظيرة واحدة، وكانت الخفارة أربع ساعات وقد تزيد، وكان كل اثنين يتواجدان في نقطة الحراسة معًا، أحدهما ينام والآخر يراقب، فعندما تنتهي ساعتان يوقظ الأول صاحبه الثاني لينام. كنت في أغلب الأحيان مع أبيسراج في خفارة واحدة وفي أغلب الخفارات كنا نبقى طوال الساعات الأربع ساهرين، وكان أبوسراج يلهج بذكر الله، وفي آخر ليلة من ليالي الحراسة التي يعقبها الانسحاب ثم الإجازة كان برنامجنا الصلاة ركعتين لكل واحد من الأهل والأصدقاء لاعتقادنا بقداسة ذلك المكان، وكنا نأتي بتلك الأعمال على التناوب ومن جلوس… وهكذا بقينا حتى قررت العودة إلى دراستي بعد عمليات حاج عمران ليبقى أبوسراج مرابطًا هناك ومصممًا على البقاء رغم أنه جاء متطوعًا لفترة محددة وعليه ان يعود إلى العمل في معمل السجاد في يزد إلا أنه أبى الرجوع وانشدّ قلبه لتلك البقاع فلم يعد يأنس بالمدن.
كانت أيام تواجده في مرتفعات كلهقندي التي كان ينطلق منها بواجبات جهادية داخل العراق من أحلى أيام حياته وأعزها لديه وقد سجل فيها أروع المواقف الجهادية.
كان على موعد مع الشهادة فعندما حاول العدو محاصرة مجموعة من المجاهدين على شاخ شميران( )، هب أبوسراج ومجاميع من مختلف الأفواج لإنقاذ أخوتهم وتدمير القوة التي حاولت السيطرة على تلك المرتفعات فكانت ملحمة حسينية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فبعد أن لقن الأعداء دروسًا قاسية وأمطرهم بسلاحه البيكيسي وجعلهم أشلاء متناثرة على تلك المرتفعات، أصيب برصاصات في رأسه الشريف ورجله فسقط شهيدًا مضمخًا بدمه الطاهر على تلك الربى بتاريخ 15/04/1988م ورجعت روحه المطمئنة إلى ربها راضية مرضية لتكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر ويلتحق برفاق الدرب الذين كانوا معه في الدورة العشرين ممن سبقوه للشهادة أمثال السيد أبيأحمد الحسيني وأبيجواد اليوسفي( ).
شيع تشييعًا مهيبًا مع كوكبة من الشهداء ودفن في مقبرة الشهداء بمدينة قم المقدسة( ).
سلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيًّا