العلم وتهذيب النفس
تقدّم التزكية على التعليم
إنّ مسألة التربية أولى من مسألة التعليم، وفي الآية الكريمة ذُكرت تلاوة آيات القرآن كذلك ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾[1]، بمعنى إيصال تلك التعليمات اللازمة على طريق التربية والتعليم، وبعدها ذكر ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾. ويمكن الاستفادة من هذا الترتيب بأن مسألة تزكية النفس أكثر أهمّية من مسألة تعليم الكتاب والحكمة، وهي مقدّمة لأن يقع الكتاب والحكمة في نفس الإنسان. فلو قام الإنسان بتزكية نفسه وبتربيتها وفق توصيات الأنبياء عليهم السلام التي أهدوها للبشر، فإنّه بعد التزكية سيرتسم في نفس الإنسان الكتاب وكذلك الحكمة بمعانيها الحقيقية، ويصل الإنسان إلى الكمال المطلوب. ولذلك يقول في آية أخرى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾[2]. تُبيّن الآية بأنّ العلم وحده ليس له فائدة. العلم الذي لا تربية فيه ولا تزكية ليس له فائدة، فكما أنّ الحمار لا يستفيد من الكتب التي في خرجه، سواء كانت كتب التوحيد أو الفقه أو كتب معرفة الإنسان، ومهما كانت لن تكون ذات فائدة للحمار، كذلك حال الذين يخزنون شتّى أنواع العلوم والمعارف في باطنهم دون أن يقوموا بتربية نفوسهم وتزكيتها، فهؤلاء علومهم ليست لها أيّة فائدة، بل إنّها في أغلب الأحيان مضرّة. وفي كثير من الأحيان فإنّ ذلك الشخص العالم الذي يعرف كلّ شيء غير أنّه لم يقم بتزكية نفسه وتصفيتها وتربيتها بحسب التربية الإلهية، يكون علمه وسيلة لهلاك البشر. وما أكثر العلماء الذين يجلبون الفساد للبشرية، أولئك أسوأ من الجهّال. وما أكثر أصحاب الاختصاصات الذين جلبوا الهلاك والدمار للبشر، أولئك أسوأ من عامة الناس وضررهم أكبر، وكما يُبيّن القرآن ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ﴾ بل هم أسوأ منه لأنّ علمهم يؤدّي إلى تدمير الآخرين.
فعلى العاملين في مجال إعداد المعلّمين وكلّ من يعمل في هذا المجال أن يعلم أولًا بأنّ هذا العمل هو عمل إلهي. فالله سبحانه وتعالى هو مربّي المعلّمين الذين هم الأنبياء. فإذاً، أوّلاً العمل عمل إلهي، وثانياً إن التربية والتزكية متقدّمة على التعليم.
لو كان في مدارسنا وكلّياتنا وجامعاتنا وجميع المدارس التعليمية سواءً التي تُدرّس العلوم الإسلامية أو غير الإسلامية، (لو كان فيها) التربية والتزكية، لاستطاعت أن تُقدّم الخدمات وتهدي للبشرية السعادة، فكلّ سعادات البشر هي من العلم والإيمان والتزكية: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾[3]، فالإنسان، أصله هذا الحيوان الذي يدعى بالإنسان، وهو في خسران وضرر، إلّا طائفة واحدة، وهم أولئك الذين آمنوا بالله سبحانه وتعالى وبما أمر به، وعملوا الصالحات. وكان من آثار ذلك الإيمان أن ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾، يوصون بالحق وبالصبر، وإلّا إذا خرج من هذا الاستثناء ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فهو ﴿لَفِي خُسْرٍ﴾، في خسران وضرر. اسعوا إلى تربية وتزكية أنفسكم قبل التعليم والتعلّم، اسعوا أن تكون التربية جنباً إلى جنب الدراسة والتعليم، وأن تكون كما هي بحسب الرتبة، متقدّمة على التعليم وتلاوة القرآن وتعلّم الكتاب والحكمة. فوظيفتكم تربية المعلّمين، المعلّمين الملمّين بكافة العلوم التي يحتاجها الإنسان والبشر سواءً في الدنيا أو في الآخرة، بالإضافة إلى ذلك وقبل كلّ ذلك يجب أن يكون في صلب عملكم تزكية النفس. وإذا لم يكن ذلك، فإنّ تربيتكم وتعليمكم إذا لم يجلب الضرر للبشر فإنه لن يجلب النفع لهم بل إنّه مضر.
إنّ جميع هذه الأضرار التي لحقت بالبشر وكلّ هذا الخسران الذي يواجهه البشر على هذه الكرة الأرضية هو بسبب العلماء الذين لديهم تخصّص لكن ليس لديهم أية تربية.
نحن إذا قمنا بتزكية أنفسنا وفق التربية الإسلامية وكان الله عزّ وجل وليّنا وليس الطاغوت، فإنّ هذه النقائص الموجودة في نقاط مختلفة من بلدنا وفي مختلف أنحاء العالم ستزول وتنعدم. فجميع الاختلافات التي تظهر – ما عدا الاختلاف بين الحق والباطل – هي بسبب أننا لم نُربّ أنفسنا ولم نُزكّها.
إنّ أكبر عدو لنا هو نحن، أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك. فنفس الإنسان هي العدو
الأكبر له، فإذا لم يعمل على تربيتها وتزكيتها فإنّها ستسوقه إلى هلاكه وتدخله في الظلمات التي آخرها الظلام الأكبر الذي هو جهنّم. إنّنا إذا قمنا بتربية أنفسنا، فإنّ جميع مشاكلنا سوف تُحل، إذ إنّ جميع مشاكلنا سببها عدم تزكية أنفسنا وعدم خضوعنا للتربية الإلهية والانضواء تحت لواء الإسلام. وحسب الواقع فإنّ جميع هذه الأزمات التي تُشاهدونها وجميع الموانع التي تواجه شعبنا، سببها عدم وجود تربية في البين، وعدم وجود تزكية، ليس هناك إلا الجهل أو العلم الذي هو أكثر ضرراً من الجهل على الإنسان. لقد ذكر الله عزّ وجلّ ميزان العلم بواسطة الأنبياء، وواقع الأمر هو أنّ “العلم نور”، يقذفه الله في قلوب الناس، فإذا أوجد النورانية فهو العلم وإذا أصبح حجاباً للإنسان فذلك ليس العلم بل هو الحجاب “العلم هو الحجاب الأكبر“.
فأنتم الذين تريدون أن تربّوا أنفسكم أو تربّوا المعلّمين، عليكم أن تجعلوا التربية على رأس كلّ الأمور وفي مقدّمتها، فنفوس الشباب مستعدّة لتقبّل أيّ شيء يُلقى فيها، فهي كمرآة مصقولة لم تنفصل عن فطرتها، وهذه المرآة تعكس كلّ ما يرتسم عليها. فإنّ كان المعلِّم معلِّماً يدعو إلى النور ويدعو إلى الصلاح وإلى الإسلام وإلى الأخلاق الحميدة والقيم الإسلامية والإنسانية، تلك القيم التي يرضاها الله، فإن فعل ذلك، كما كان الأنبياء يخرجون الناس من الظلمات إلى النور، فإنه أيضاً يخرج الشباب من الظلمات إلى النور، وعمله هو عمل الأنبياء عليهم السلام، ولو أن المعلّمين – لا قدّر الله- ساروا على خلاف طريق الحق والصراط المستقيم ولم يقوموا بتربية وتزكية أنفسهم فإنّ آراءهم وأفكارهم المنحرفة سترتسم على مرايا نفوس شبابنا وتحرفهم عن الطريق المستقيم إمّا شرقاً أو غرباً[4].
العلوم مقدّمة للتوحيد القلبي
كما أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الشريف لكتاب الكافي حصر العلم في ثلاثة[5]، عبّر صلى الله عليه وآله وسلم عن القسم الأوّل الذي هو علم العقائد بالآية والعلامة المحكمة، والنكتة في هذا أنّ
العلوم العقائدية أيضًا لا بدّ أن تكون آية إلهيّة ويكون المنظور والمقصود منها هو طلب الحقّ والبحث عن المحبوب المطلق، بحيث لو فرض أنّ متكلّمًا أو حكيماً صرف عمره في الشعب المتشتّتة والفنون المتكثّرة لعلم الكلام والحكمة بينما لم يكن العلم غاية إلهية وآلة لطلب الحقّ وحبّه فإنّ هذا العلم سيكون حجاباً بل حجاباً أكبر، ولا يكون علمه إلهياً ولا حكمته إلهيّة بل يكون القلب أكثر اعتناء، بعد البحث الكثير والقيل والقال الطويل، بعالم الطبيعة والكثرة وتكون الروح أشدّ تعلّقاً بأغصان الشجرة الخبيثة.
ولو فُرض أنّ عالماً بحث عن التوحيد والتجريد ولكن لم يكن باعث هذا العلم طلب الحقّ وحبّ الله تبارك وتعالى بل كان الداعي له هو نفس العلم وفنونه البديعة، بل النفس وشؤوناتها فلا يكون علمه آية وعلامة ولا حكمته حكمة إلهيّة بل نفسانية وطبيعية.
فما اشتهر عند العلماء أنّ قسماً من العلوم مطلوب في نفسه – والذي تقابله العلوم العملية[6] – ليس صحيحاً في نظري القاصر، بل لجميع العلوم المعتبرة سمة المقدميّة، غاية الأمر أنّ كلّ واحد مقدّمة لشيء وعلى نحو خاص، فعلم التوحيد والتوحيد العلمي مقدّمة لحصول التوحيد القلبي الذي هو توحيد عملي، ويحصل بالتعمّل والتذكّر والارتياض القلبي.
وما أكثر الأشخاص الذين صرفوا العمر في التوحيد العلمي وصرفوا الوقت بالمطالعة والبحث والتعليم والتعلُّم ولكن لم يهتدوا إلى صبغة التوحيد ولم يصبحوا علماء إلهيّين أو حكماء ربانيين، بل تزلزلت قلوبهم أكثر من غيرهم وهذا لأنّ علومهم لم تكن متّسمة بسمة الآيتية، ولم يكن لهم شغل بالرياضات القلبية، وزعموا أنّ هذا الطريق يطوى بالمدارسة فحسب.
يا أيّها العزيز، إنّ جميع العلوم الشرعية مقدّمة لمعرفة الله تبارك وتعالى ولحصول حقيقة التوحيد في القلب التي هي صبغة الله ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً﴾[7]، غاية الأمر أنّ بعضها مقدّمة قريبة وبعضها مقدّمة بعيدة وبعضها بلا واسطة وبعضها الآخر مع الواسطة. فعلم الفقه مقدّمة للعمل، والأعمال العبادية هي بنفسها مقدّمة لحصول المعارف وتحصيل التوحيد والتجريد، إن أُدّيت بآدابها الشرعية القلبية والقالبية والظاهرية والباطنية. ولا يمكن
مناقضة ذلك بالقول إنّه لم يحصل من عباداتنا طوال أربعين أو خمسين سنة أي معارف وحقائق والسبب أنّه لم يحصل من علومنا كيفية حتى ولا حال. ولم يكن وليس لنا أي ارتباط بالتوحيد والتجريد وهما قرّة عين الأولياء. وتلك الشعبة من علم الفقه والتي تتكفّل بسياسة المدن وتدبير المنزل وتعمير البلاد وتنظيم العباد هي أيضاً مقدّمة لتلك الأعمال[8].
الوقوع في الغفلة والغرور جرّاء تحصيل العلم
ولا أدري إلى متى نبقى على هذه الحالة، يجب كَحَدٍّ أدنى أنْ نُهذِّب أنفسنا بحيث لا تكون هذه العلوم الرسميّة مانعةً لنا عن الله وذكر الله، وهذه مسألةٌ مُهمّةٌ أنْ لا يُصبح الاشتغالُ بالعلم سبباً للغفلة عن الله، وأن لا يَتَحَوَّلَ إلى عاملٍ لبعث الغرور فينا فيُبعدنا عن مبدأ الكمال.
هذا الغرور مَوجُودٌ لدى العلماء بمختلف الاختصاصات، سواء العلوم الماديّة والطبيعيّة أم العلوم الشرعيّة أم العلوم العقليّة، فما لم يكن القلبُ مُهَذّباً ظَهَرَ الغُرورُ الذي يَصُدُّ الإنسانَ بصورةٍ كاملةٍ عن الله. عندما يَنْهَمِكُ بالمطالعة يغرق فيها، وعندما يَقُومُ للصلاة يُؤدّيها بدون حضور. كان أحد أصدقائي رحمه الله يقول: لا أتذكّر الآن، اتركني إلى أنْ أقوم للصلاة لكي أتذكّر!!، كأنَّ الإنسان عندما يؤدّي الصلاة فهو ليس في الصلاة أصلاً، لا يتوجّه إلى الله وقلبه ليس مع الصلاة بل في مكانٍ آخر. قد يُفكّرُ أيضاً بكيفية حَلِّ مسألةٍ علميّةٍ، هذا العلم الذي هو مُقَدِّمة للوصول للغاية والمقصود، يَصُدُّ الإنسانَ عن الغاية والمقصود. هذا الأمر يَصدُقُ على العلوم الشرعيّة، علم التفسير وعلم التوحيد، فالقلبُ إذا لم يكن مُسْتَعِدّاً مُهَذَّباً يَتَحَوَّلُ فيه حتى علمُ التوحيد إلى غِلٍّ وَقَيدٍ يَصُدُّ الإنسانَ.
العلوم الشرعيّة جميعها وسائل، المسائل الشرعيّة جميعها وسائل للعمل، والعملُ أيضاً وسيلةٌ، جميعها وسائل الوصول للمقصد والغاية، وسائل لإيقاظ النفس، ولكي تخرج من هذه الحجب الظلمانيّة، هذه الحجب التي تجعلنا في ظلمات، تخرج من هذه الظلمات لتصل إلى الحُجُبِ النورانيّة، كما ورد في وصفها بأن “لله سَبْعِينَ ألْفَ حِجابٍ مِنْ نُورٍ (وظُلْمَةٍ)[9] “،
وحتى تلك النوريّة فهي حُجُبٌ أيضاً، وَنَحْنُ بعد لم نخرج حتى من الحُجُبِ الظلمانيّة، لا زلنا نتقلقل في أطباقها ولا ندري ماذا ستكون العاقبة.
العلمُ لم يُؤثّر في نفوسنا سوى بالتأثير السيّء، هذه العلوم وتلك، الشرعيّة والعقليّة التي سمّاها المساكينُ بـ الذهنيّات، أي التي لا عينيّة لها، هي وسائل للوصول إلى المقصد والغاية، ولكن كُلّاً منها يصدُّنا عن المقصد، فلا يعود علماً بل حجاباً ظلمانيّاً، وهذا هو واقعُ كُلِّ علمٍ يحجز الإنسانَ عن الوصول إلى المقصد، وعن تحقيق ما بُعِثَ الأنبياء من أجله.
فبعثةُ الأنبياء هي من أجل إخراج الناس من هذه الدنيا ومن هذه الظلمات، وإيصالهم إلى مبدأ النور لا الأنوار، بل النور المطلق. الأنبياء جاؤوا من أجل إيصال الناس إلى الفناء في النور المطلق، وأنْ تفنى هذه القطرة في البحر (وبالطبع المثالُ ليس مُنطَبِقَاً)[10].
حصول العلم بالتأويل على أثر التزكية
هذه الحقيقة واللطيفة الإلهية – أي العلم بالتأويل – تحصل بالمجاهدات العلمية والرياضات العقلية، مقرونة بالرياضات العملية، وتطهير النفوس، وتنزيه القلوب، وتقديس الأرواح، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾[11]، و ﴿لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾[12]، وإن كان الراسخون في العلم والمطهّرون على نحو الإطلاق هم الأنبياء والأولياء المعصومون[13]، ولذلك كان علم التأويل بجميع مراتبه مختصّاً بهم، ولكن لعلماء الأمّة أيضاً حظّ وافر من ذلك العلم يتناسب مع مرتبتهم في العلم والطهارة ، ولهذا نقل عن ابن عباس – رضي الله عنه – قوله: “أنا من الراسخين في العلم“[14].
حصول الإدراك القلبي على أثر التزكية
إنَّما تُذكر التزكية أوّلًا ويُذكر التعليم بعدها لأنَّ النفوس إذا لم تُزَكَّ فإنَّها لن تتمكّن من الوصول، فأذن الإنسان قد تسمع شيئاً، وعقله قد يُدرك أحياناً ويُقيم البرهان، وقد يضمّ إلى جانبه مسائل عرفانية، لكن ما ينبغي على القلب أنْ يجده أمر صعب، إذ كيف نجد الطموحات التوحيدية والطموحات العرفانية التي بعث بها الأنبياء عليهم السلام كيف نجدها وندخلها قلوبنا، ثم تدخل بعد ذلك في شهودنا. هذه المسألة التي تحتاج إلى رياضات بعد التعليم والتعلّم، تحتاج إلى التزكية، وإلى جانب التزكية يأتي التعلّم والحكمة، وتتبعها المسائل التي تطرأ على النفوس المستعدّة، وهذا يوجد تحوّلًا في النفوس بحيث لو وصلت إلى ذلك المقام لأدركت الأشياء كما هي “اللهمّ أرني الأشياء كما هي“[15]، وهذا ما أراده العظماء والأنبياء[16].
العلم والتهذيب أساسا تحصيل مقام الإنسانية
إنّني أسأل الله تبارك وتعالى توفيقكنّ أيّتها النساء وأيّتها الأخوات الساعيات في العلم وكذلك في العمل وفي تهذيب الأخلاق. فكما أنّ العلم لوحده لا ينفع فإنّ التهذيب الأعمى لوحده لا ينفع هو الآخر، إنّ العلم مع تهذيب النفس هو الذي يوصل الإنسان إلى مقام الإنسانية. وإنّني أسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقكنّ وسائر الأخوات في أرجاء إيران وأن يوفّق الإخوة كذلك للسير بجناحي العلم والعمل مع الأخلاق الإسلامية إلى الأمام وأن يُطبّق الإسلام في إيران كما يريده الله تبارك وتعالى[17].
العلم والعمل جناحا ترقّي الإنسان
العلم وحده لا أثر له، بل ربّما أَضرّ، والعمل بلا علم لا نتيجة له، فالعلم والعمل جناحان يصل بهما الإنسان إلى الإنسانية. العلم بكلّ الشؤون والعمل – النفساني والجسماني والعقلاني – يوصلان الإنسان إلى مراتب الإنسانية. والأمل أنْ تلتفتوا أنتم أيّها السادة إلى هذا المطلب
خلال الدراسة، وتُنزّهوا أنفسكم في المدارس عن تعلّقات الدنيا، فكلّ بلاءات البشر من هذه التعلّقات[18].
تحصيل السعادة على أساس العلم والتهذيب
لقد أكّد الأنبياء كثيراً على التربية وكانوا يسوقون الناس باتجاه تهذيب أنفسهم أكثر ممّا سعوا في تعليمهم، وذلك لأنّ فائدة التربية أكثر، وبالطبع لقد كان العلم موضع اهتمام الأنبياء جميعاً، لكنّهما يجب أن يكونا معاً فالتهذيب والتعليم جناحان، فإذا أراد شعب أن يطير نحو السعادة، عليه أن يطير بكلا الجناحين[19].
العلم والمعنويات يجلبان السعادة
ليست بالحرّية وحدها سعادة الأمة، وليست بالاستقلال وحده سعادة الأمة، وليست بالمادّيات وحدها سعادة الأمة، فهذه جميعها في ظلّ المعنويات تُحقّق السعادة. المعنويات هي الأهمّ. اسعوا إلى كسب المعنويات. العلم وحده لا فائدة فيه. إنّ العلم مع المعنويات يكون علماً، والأدب وحده لا فائدة فيه، وإنّما الأدب مع المعنويات. المعنويات هي التي تضمن السعادة التامة للبشر، فاسعوا لكسب المعنويات. أثناء تحصيل العلم، حصِّلوا المعنويات. لتكن في الجامعات معنويات، لتكن في المدارس معنويات، لتكن في أماكن التعليم معنويات، حتى تصيروا إن شاء الله سعداء[20].
تقوية توأما العلم والأخلاق
المهمّ هو أن يكون جناحا العلم والعمل معاً، فالعلم بدون عمل غير مفيد بل هو مضرٌّ، ولعلّ أكثر المصائب التي حلّت بالبشر ناشئة عن العلم، وكلّ هذا الخراب الذي حلّ بالدنيا إنّما نتج عن عدم اقتران العلم بالتهذيب، إن لديهم علماً ولكنّهم غير مهذّبين، فلو أردتم خدمة الإسلام وخدمة وطنكم وحفظ استقلالكم وأن لا ترتهنوا لأية جهة، عليكم أن تقوّوا أواصر العلم وكذلك تجتهدوا في تهذيب الأخلاق وتحسين العمل أيضاً[21].
الانتصار على أساس التحصيل والتهذيب
إذا كنتم تمتلكون في المراكز التي أنتم فيها هدفاً صحيحاً وغاية صحيحة وتعملون لأجل بلوغ تلك الغاية ولأجل الوصول إلى ما يُريده الله تبارك وتعالى وهو تهذيب النفس وعبادة الله وإبعاد كلّ أنواع الشرك والإلحاد عن أنفسكم وعن مراكزكم، إذا كنتم كذلك فستنتصرون. فجميع أنواع الفساد والمشاكل التي تواجه أي بلد، هي بسبب أنّ مراكز التعليم والتعلّم فيه ليست مراكز للتهذيب. لا يوجد فرق بين المدارس التعليمية القديمة والحديثة. إذا لم يكن تهذيب والتزام وما لم يعرف الإنسان طريقه وصراطه المستقيم وإذا لم يكن هدفه وغايته نفس الغاية الإسلامية للتعليم فهذا نفسه باعث على الانحراف وهذا الذي يأخذنا نحن والدول الإسلامية إمّا يميناً وإمّا شمالاً[22].
تجلّي نورانية العلم في القلب المهذّب
هذّبوا أنفسكم، تهذّبوا بآداب الله، بسنن الله، فإن لم يكن ذلك لن يكون للعلم أثر فيكم.
إنّكم إن لم تكونوا مهذّبين لن تحصلوا على ذلك النور الذي “يقذفه الله في قلب من يشاء“[23]. ذلك العلم الذي يستتبع النورانية، ذلك العلم الذي هو نور، والله يهبه تبارك وتعالى، لا يشمل كلّ القلوب، إذ لا يليق به كلّ قلب. فما لم يُهذّب ذلك القلب، وما لم يُفرّغ من الأخلاق القبيحة ومن الأعمال السيئة، وما لم يتوجّه إلى الله ويسلم إلى الله سبحانه وتعالى بالكامل، فإنه جلّ وعلا لن يقذف ذلك النور فيه، فهذا الأمر لا يتمّ عبثاً، ولا يحصل بالحرص على المعرفة بدقائق العلوم، فالغزالي كان عالماً جيداً جدّاً بدقائق العلوم، وكذا كان أبو حنيفة والكثير غيرهم، هناك الكثير ممّن يحيطون بدقائق العلوم بنحو أفضل من الجميع، لكن الباري تبارك وتعالى لم يتلطّف عليهم بذلك النور. فهذا يحتاج إلى التهذيب. وهذا يسلتزم بذل الجهد والرياضة. وأنتم أيها السادة ما دمتم قد دخلتم في هؤلاء القوم فعليكم بالتريّض وبذل الجهد، وعليكم بالمراقبة[24].
طلب العلم لله
انتبهوا أعزّائي لتدخلوا في جند الله، فالدرس وحده لا يُدخل الإنسان في جند الله. العلم وحده – العلوم القانونية خاصّة – لا يوصل الإنسان إلى مراتب الإنسانية. يجب أن يكون، لكن يجب أن يقترن به التوجّه إلى الغيب. ادرسوا لله. لقد بدأتم من الصفر، وآمل أن تمضوا إلى اللامتناهي، امضوا إلى حيث لا ترون غير الله، وترون كلّ شيء منه، وكل أحد مظهراً له[25].
[1] سورة الجمعة، الآية 2.
[2] م.ن، الآية 5.
[3] سورة العصر، الآية 2.
[4] صحيفة الإمام، ج 13، ص 505 – 508.
[5] إشارة إلى الحديث النبوي الشريف: “إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنّة قائمة، وما خلاهنّ فهو فضل”، الشيخ الكليني، الكافي،ج1،ص32، كتاب العلم، باب صفة العلم،ح1.
[6] نقل مثيل هذا الرأي عن الشيخ الرئيس أبو علي سينا في منطق الشفاء حيث يقول: “والفلسفة النظرية إنّما الغاية فيها تكميل النفس بأن تعلم فقط”، الشفاء،ج1،ص12،قسم المنطق، المقالة الأولى، الفصل 2.
[7] سورة البقرة، الآية 138.
[8] الإمام الخميني، شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 8 – 10.
[9] قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة”، مرصاد العباد،ص171، العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج55، ص45، تحقيق السيد ابراهيم الميانجي، محمد باقر اليهودي، نشر مؤسسة الوفاء – بيروت، ط2، 1983م، في تجديد المصافحة، ح25.
[10] الإمام الخميني، تفسير سورة الحمد، ص 139 – 140.
[11] سورة آل عمران، الآية 7.
[12] سورة الواقعة، الآية 79.
[13] الشيخ الكليني، الكافي،ج1،ص213 “كتاب الحجة”، “باب أن الراسخين في العلم هم الأئمة عليهم السلام”، البحراني، تفسير البرهان، ج1، ص370.
[14] الإمام الخميني، شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 61.
[15] في عوالي اللئالي، للإحسائي، ج4،ص132، ذكر الحديث: “اللهم أرنا الحقائق كما هي”. وفي التعليق عليه نقل عن التفسير الكبير للفخر الرازي،ج6،ص24 ومرصاد العباد،ص309،كالتالي: “أرنا الأشياء كما هي”.
[16] صحيفة الإمام، ج 19، ص 225.
[17] م.ن، ج 18، ص 405.
[18] صحيفة الإمام، ج 8، ص 267 – 268.
[19] م.ن، ج 16، ص 501.
[20] م.ن، ج 7، ص 534.
[21] م.ن، ج 19، ص 325.
[22] صحيفة الإمام، ج 14، ص 3 – 4.
[23] إشارة إلى حديث عنوان البصري عن الإمام الصادق عليه السلام: “ليس العلم بالتعلّم، إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه”. العلامة المجلسي، بحار الأنوار،ج1،ص225, كتاب العلم، باب آداب طلب العلم، …، ح17.
[24] صحيفة الإمام، ج 2، ص 38 – 39.
[25] صحيفة الإمام، ج 8، ص 269.