الرئيسية / من / طرائف الحكم / الشعائر الحسينية إحياؤها وأبعادها19

الشعائر الحسينية إحياؤها وأبعادها19

الإمام الحسين عليه السلام يرثي نفسه

قام سيّد الشهداء عليه السلام نفسه بذكر المصائب التي ستجري عليه أمام الناس، وفي مواضع عديدة:

 

منها لمّا ودّع قبر جدّه صلى الله عليه وآله وسلم, خرج إلى القبر فصلّى ركعتين، فلمّا فرغ من صلاته جعل يقول: “أللهمّ! إنّ هذا قبر نبيّك محمّد، وأنا ابن بنت محمّد، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، أللهمّ! وإنّي أحبّ المعروف وأكره المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام! بحقّ هذا القبر، ومن فيه (إلّا) ما اخترت من أمري هذا ما هو لك رضى”. قال: ثمّ جعل الحسين عليه السلام يبكي، حتّى إذا كان في بياض الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى ساعة، فرأى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قد أقبل في كبكبة من الملائكة عن يمينه وعن شماله ومن بين يديه ومن خلفه حتّى ضمّ الحسين عليه السلام إلى صدره وقبّل بين عينيه وقال صلى الله عليه وآله وسلم: “يا بنيّ، يا حسين! كأنّك عن قريب أراك مقتولاً مذبوحاً بأرض كرب وبلاء من عصابة من أمّتي، وأنت في


ذلك عطشان لا تُسقى وظمآن لا تُروى، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي، ما لهم لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة! فما لهم عند الله من خلاق, حبيبي يا حسين! إنّ أباك وأمّك وأخاك قد قدموا عليّ، وهم إليك مشتاقون، وإنّ لك في الجنّة درجات لن تنالها إلّا بالشهادة”. فجعل الحسين عليه السلام ينظر في منامه إلى جدّه صلى الله عليه وآله وسلم ويسمع كلامه، وهو يقول: “يا جدّاه! لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا أبداً، فخذني إليك واجعلني معك إلى منزلك”. فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “يا حسين! إنّه لا بدّ لك من الرجوع إلى الدنيا حتّى ترزق الشهادة، وما كتب الله لك فيها من الثواب العظيم، فإنّك وأباك وأخاك وعمّك وعمّ أبيك تُحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتّى تدخلوا الجنّة”. فانتبه الحسين عليه السلام من نومه… فقصّ رؤياه على أهل بيته وبني عبد المطّلب, فلم يكن ذلك اليوم في شرق ولا غرب أشدّ غمّاً من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا أكثر منه باكياً وباكية[1].

 

وروى أنّه عليه السلام لمّا عزم على الخروج إلى العراق قام خطيباً فقال: “الحمد لله ما شاء الله ولا قوّة إلّا بالله وصلّى الله على رسوله, خُطَّ الموت على وُلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة, وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه, كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان


الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن منّي أكراشاً جوّفاً، وأجربة سغّباً لا محيص عن يوم خطّ بالقلم رضا الله رضانا أهل البيت نصير على بلائه ويوفّينا أجر الصابرين, لن تشذّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لُحمته وهي مجموعة له في حظيرة القدس تقرّ بهم عينه وينجز بهم وعده. ألا ومن كان باذلاً فينا مهجته وموطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإنّني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى[2].

 

وعن عليّ بن الحسين زين العابدين عليهما السلام أنّه قال: “إنّي والله لجالس مع أبي في تلك الليلة وأنا عليل وهو يعالج سهاماً له وبين يديه جون مولى أبي ذرٍّ الغفاريّ إذ ارتجز الحسين عليه السلام:

يَا دَهْرُ أُفٍّ لَكَ مِنْ خَلِيْلِ        كَمْ لَكَ فِي الْإِشْرَاقِ وَالْأَصِيْلِ

مِنْ صَاحِبٍ وَمَاجِدٍ قَتِيْلِ         وَالْدَّهْرُ لَا يَقْنَعُ بِالْبَدِيْلِ

وَالْأَمْرُ فِي ذَاكَ إِلَى الْجَلِيْل          وَكُلُّ حَيٍّ سَالِكُ السَّبِيْلِ”

 

قال: “وأمّا أنا فسمعته ورددت عبرتي. وأمّا عمّتي فسمعته

دون النساء فلزمتها الرّقّة والجزع فشقّت ثوبها ولطمت وجهها وخرجت حاسرة تنادي: وا ثكلاه! وا حزناه! ليت الموت أعدمني الحياة، يا حسيناه, يا سيّداه, يا بقيّة أهل بيتاه, استقلت ويئست من الحياة، اليوم مات جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمّي فاطمة الزهراء وأبي عليّ وأخي الحسن, يا بقيّة الماضين وثمال الباقين. فقال لها الحسين: يا أختي, “لو ترك القطا لنام”. قالت: “فإنّما تغتصب نفسك اغتصاباً فذاك أطول لحزني وأشجى لقلبي وخرّت مغشيّاً عليها فلم يزل يناشدها واحتملها حتّى أدخلها الخباء[3].

 

ونقل عن سكينة بنت الحسين عليه السلام أنّها قالت: لمّا قُتل الحسين عليه السلام اعتنقته فأُغمي عليّ فسمعته يقول:

 

شِيعَتِي مَا إِنْ شَرِبْتُم رَيَّ عذب فاذكُروني       أوْ سَمِعْتُمْ بِغَرِيبٍ أوْ شَهيدٍ فَانْدبُونِي

 

فقامت مرعوبة قد قُرِّحت مآقيها وهي تلطم خدّيها[4].

 

مراثي السيّدة زينب الكبرى عليها السلام

قامت السيّدة زينب عليها السلام بعد استشهاد أخيها الإمام الحسين عليه السلام وحتّى نهاية عمرها المبارك بذكر مصائب أخيها ورثائه وكانت تبكي ويبكي من حضر في مجلسها.

يروي حميد بن مسلم أحداث ما جرى بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام فيقول: فوالله لا أنسى زينب بنت عليّ عليهما السلام وهي تندب الحسين بصوت حزين وقلبٍ كئيب: “وا محمّداه، صلّى عليك مليك السماء، هذا حسين مرمّل بالدماء مقطّع الأعضاء وبناتك سبايا، إلى الله المشتكى وإلى محمّد المصطفى وإلى عليّ المرتضى وإلى حمزة سيّد الشهداء. وا محمّداه, هذا حسين بالعراء يسفي عليه الصبا قتيل أولاد البغايا، يا حزناه يا كرباه! اليوم مات جدّي رسول الله يا أصحاب محمّداه، هؤلاء ذرّيّة المصطفى يساقون سوق السبايا”.

 

وورد في بعض الروايات أنّها قالت: “يا محمّداه, بناتك سبايا وذرّيّتك مقتّلة تسفي عليهم ريح الصبا، وهذا حسين مجزوز الرأس من القفا، مسلوب العمامة والرداء، بأبي من عسكره في يوم الاثنين نهبا، بأبي من فسطاطه مقطّع العرى، بأبي من لا هو غائبٌ فيرتجى ولا جريح فيداوى, بأبي من نفسي له الفداء، بأبي المهموم حتّى قضى، بأبي العطشان حتّى مضى، بأبي من شيبته تقطر بالدماء, بأبي من جدّه رسول إله السماء، بأبي من هو سبط نبيّ الهدى…”[5].

 

 قال حميد بن مسلم: فأبكت والله كلّ عدوّ وصديق.

مراثي الإمام صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف في عزاء جدّه الإمام الحسين عليه السلام

 

تقدّم معنا في الفصل الأوّل بعضٌ من المراثي وذكر المصائب التي جاءت عن الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف في زيارة الناحية في عزاء جدّه الإمام الحسين، وسوف نشير في هذا الفصل إلى بعض المقاطع الأخرى من هذه الزيارة المفجعة حيث يتابع سلام الله عليه سرده لأحداث عاشوراء فيقول:

 

وأسرع فرسك شارداً إلى خيامك محمحماً باكياً فلمّا رأين النساء جوادك مخزيّاً ونظرن سرجك عليه ملويّاً برزن من الخدور، .. على الخدود، لاطمات الوجوه سافرات وبالعويل داعيات وبعد العزّ مذلّلات وإلى مصرعك مبادرات. والشمر جالس على صدرك مولع سيفه على نحرك قابض على شيبتك بيده، ذابحٌ لك بمهنّده، قد سكنت حواسك وخفيت أنفاسك، ورفع على القنا رأسك، وسبي أهلك كالعبيد وصُفِّدوا في الحديد فوق أقتاب المطيّات، تلفح وجوههم حرّ الهاجرات يساقون في البراري والفلوات أيديهم مغلولة إلى الأعناق، يطاف بهم في الأسواق، فالويل للعصاة الفسّاق، لقد قتلوا بقتلك الإسلام…”[6].

إنّ أهل البيت عليهم السلام ومضافاً إلى أنّهم أنفسهم يذكرون مصاب سيّد الشهداء عليه السلام وما جرى عليه, واصطلاحاً يقيمون المجالس عليه, فإنّهم أيضاً عندما يرون ويسمعون أحداً ما يقيم المجالس ويتلو المراثي ويذكِّر الناس بمصائب الإمام الحسين عليه السلامفإنّهم يُسرُّون بذلك ويفرحون ويحمدون الله تبارك وتعالى على ذلك ويدعون لمن يقيم العزاء ويشارك فيه.

 

ينقل ابن قولويه أنّ الإمام الصادق عليه السلام ذكر مصائب جدّه الإمام الحسين عليه السلام لعبد الله بن حمّاد البصريّ, وممّا قاله له: “..فإنّه غريب بأرض غربة، يبكيه من زاره، ويحزن له من لم يزره، ويحترق له من لم يشهده، ويرحمه من نظر إلى قبر ابنه عند رجله في أرض فلاة، لا حميم قربه ولا قريب، ثمّ منع الحقّ وتوازر عليه أهل الردّة حتّى قتلوه وضيّعوه وعرّضوه للسباع, ومنعوه شرب ماء الفرات الذي يشربه الكلاب، وضيّعوا حقّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووصيّته به وبأهل بيته، فأمسى مجفوّاً في حضرته، صريعاً بين قرابته وشيعته بين أطباق التراب، قد أوحش قربه في الوحدة والبعد عن جدّه والمنزل الذي لا يأتيه إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان وعرف حقّنا…”.

قال عبد الله بن حمّاد: ثمّ قال الإمام الصادق عليه السلام: “بلغني أنّ قوماً يأتونه من نواحي الكوفة وناساً من غيرهم ونساءٌ يندبنه وذلك في النصف من شعبان، فمن بين قارئ يقرأ، وقاصٍّ يقصّ ونادبٍ يندب وقائل يقول المراثي”.

 

فقال له عبد الله: فداك نفسي، قد شاهدت بعضاً من ذلك.

 

فقال عليه السلام: “الحمد لله الذي جعل في الناس من يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا، وجعل عدوّنا من يطعن عليهم من قرابتنا وغيرهم يهدرونهم (يهذون بهم) ويقبّحون ما يصنعون”[7].

 

[1] موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام، ص 350.

[2] اللهوف على قتلى الطفوف، ص 38.

[3] مقاتل الطالبيّين، ص 75.

[4] مصباح الكفعميّ، ص 741.

[5] بحار الأنوار، ج45، ص58 و59.

[6] الدعاء والزيارة، زيارة الناحية المقدّسة. 

[7] كامل الزيارات، باب 108، رقم1, وسائل الشيعة، ج14، ص599, بحار الأنوار، ج101، ص73, مستدرك الوسائل، ج10، ص251.

 

شبكة المعارف الإسلامية

 

https://t.me/wilayahinfo

 

[email protected]

شاهد أيضاً

اليوم النوعي للمقاومة الإسلامية.. إما يذعن العدو الآن أو الآتي اعظم

عبد الحسين شبيب حتى تاريخه؛ يمكن القول إن الرابع والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 ...