الرئيسية / بحوث اسلامية / البدعة مفهومها وحدودها

البدعة مفهومها وحدودها

أعمال نُسبت إلى البدعة
وليست كذلك

إنّ من مساحات الاختلاف الفقهي بين المسلمين؛ ما يعدّ عند بعضهم مشروعاً، بل مندوباً، فيما يراه الآخر عملاً مبتدعاً ينبغي محاربته.. ولقد أثار هذا النوع من الخلاف جدلاً كبيراً وصراعاً طائفياً متجدداً، لا سيّما مع طائفة من الاَعمال التي تغلغلت في قلوب أصحابها حتى مازجت معتقداتهم، فتجاوزت إطارها الفقهي لتأخذ بُعداً عقيدياً لدى مشرعيها ولدى مخالفيها على حدٍ سواء، بخلاف تلك النماذج التي سبق الحديث عنها، كمتعة الحج، وصلاة التراويح، وصلاة الضُحى.

ومن أمثلة هذا النوع من الاَعمال:

أولاً: الاحتفال بالمولد النبوي والمناسبات الاِسلامية:

لا ريب أنّ الاحتفال بمولد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفق الضوابط والاَصول الشرعية يُعبّر عن الحبّ والولاء والمتابعة للرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم وهو بالتالي تعظيم للرسالة الاِسلامية الغرّاء.

ولقد تقدم القول في أنّ الملاك في نسبة الشيء إلى البدعة: هو كونها إضافة ما ليس من الدين إلى الدين أو إنقاص مما هو فيه، وقد تقدم أيضاً مصاديق ذلك في الاَمثلة المتقدمة.

وإنّ فِعْلَ ما لم يكن في عهد الرسول يصحُّ أن يكون ابتداعاً بالمعنى


الصفحة 101


اللغوي الذي يعني الاِتيان بشيء ليس على مثالٍ سابق، طالما لم يتعارض هذا الشيء مع التشريع.

وذكرنا أيضاً أنَّ عدم وجود الدليل الخاص على أمرٍ ما لا يعني أنّه يدخل ضمن دائرة الابتداع ما دام في الدليل العام مجال لشموله بمفرداته.

والمسلمون يعلمون جميعاً أنَّ هناك أدلة كثيرة أكدت على ضرورة احترام النبي الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتبجيله وتوقيره، حيّاً وميتّاً، وقد ورد الشيء نفسه في حق أهل البيت عليهم السلام.

وإذا كان الاَوّلون يعبّرون عن حبهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته فإنّ للآخرين أن يعبروا عن هذا الحب أيضاً بالطريقة المناسبة بحيث لا تتعارض مع التشريع.

من هنا نجد مدى النكارة في ما قاله محمد بن عبدالسلام الشقيري: «بدعة منكرة ضلالة، لم يرد بها شرعٌ ولا عقل، ولو كان في هذا اليوم خيرٌ كيف يغفل عنه أبو بكر، وعمر وعثمان، وعلي وسائر الصحابة، والتابعون وتابعيهم والاَئمة وأتباعهم»(1).

وحسبه تعصباً وجهلاً أن يقول: «لم يرد بها شرع» وكأنَّ أحداً من الناس قال إنّها ـ أي الاحتفالات بهذا الشكل الخاص المعمول به الآن ـ جزءٌ من الشريعة حتى يأتي هو لينفي كونها منه.

____________

(1) المواسم والمراسم، لجعفر مرتضى العاملي: 53، عن منهاج الفرقة الناجية، عن كتاب السنن والمبتدعات: 138 ـ 139.


الصفحة 102


والغريب أنَّ بعض الذين عدّوا الاحتفال بمولده صلى الله عليه وآله وسلم بدعة، إنّما فعلوا ذلك لاَنّ الاحتفال ترافقه بعض الاَعمال المُبتدعة، من قبيل قول (ابن الحاج): «ومن جملة ما أحدثوه من البدع مع اعتقادهم أنَّ ذلك من أكبر العبادات، وإظهار الشعائر، ما يفعلونه في شهر ربيع الاَول في يوم المولد، وقد احتوى على بدع ومحرّمات جمة»(1).

ومع أننا نستنكر كل عمل محرم يأتي به أحد في هذه الاحتفالات فإنَّ الاقتران بين الاَفعال المحرمة وبين الاحتفال بمولده صلى الله عليه وآله وسلم لا يلغي أصل العمل، ولا يؤدي إلى تحريمه بالضرورة، إذ إنَّ القول بذلك يستلزم بطلان الكثير من أُصول العبادات المسلّمة فيما لو اقترنت بفعل محرم.. مع أنَّ الصحيح أنْ يقال إنَّ الفعل الفلاني محرّم لا يجوز الاتيان به، بل يلزم المعاقبة عليه مع القدرة، لا أن يلغي أصل العمل.

إنّ حبَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصل من أصول الاسلام ليس لاَحدٍ إنكاره، ولهذا فمن حق المسلم المؤمن أن يُعبّر عن حبه للرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم بأي صورة كانت شريطة أنْ لا تتعارض مع الشريعة.

ولا شك أنَّ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف يمثل صورة من صور التكريم والتعظيم والاحترام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتدارس فيه الناس سيرته العطرة ويستخلصون الدروس العظيمة والنافعة.

وإلى جانب أهمية وضرورة حبّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد وفاته وتجسيد ذلك الحب في السلوك والعمل من خلال الالتزام بالتعاليم الاِسلامية، فقد أكّد الرسول الاَكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم على حب أهل بيته عليهم السلام

____________

(1) المدخل، لابن الحاج 2: 2.


الصفحة 103


وعدّ حبهم حبّاً له هو صلى الله عليه وآله وسلم.

فقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «أُذكركم الله في أهل بيتي» وكررها ثلاث مرات(1).

وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «وأحبوني بحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي»(2).

واستقصاء أحاديثه صلى الله عليه وآله وسلم في دفع الاُمّة إلى الالتزام بحب أهل بيته عليهم السلام وتوقيرهم وتعظيمهم خارج عن طاقة هذا البحث.

إنّ المحصّل مما تقدم يوضح لنا أنّ التعبير عن الحب والتعظيم للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام ليس أمراً ممنوعاً، بل هو مرغوب فيه.

وقد أيد ذلك بعض علماء السُنّة وعدّوا الاحتفال بيوم مولده صلى الله عليه وآله وسلم عملاً حسناً أو «بدعة حسنة» بمعناها اللغوي، نظير ما قاله ابن حجر «عمل المولد بدعة، لم تُنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنَّها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدّها، فمن تحرّى في عملها المحاسن، وتجنَّب ضدها كان بدعةً حسنةً، وإلاّ فلا»(3).

وقول أبي شامة: «ومن أحسن ما ابتُدع في زماننا ما يُفعل كل عامٍ في اليوم الموافق ليوم مولده صلى الله عليه وآله وسلم، من الصدقات، والمعروف، وإظهار

____________

(1) صحيح مسلم بشرح النووي 15: 180 من كتاب (فضائل الصحابة) باب فضائل علي بن أبي طالب 4: 1873.

(2) سنن الترمذي: 622 | 3789 تحقيق أحمد محمد شاكر.

(3) المواسم والمراسم، لجعفر مرتضى العاملي: 62 عن رسالة المقصد المطبوعة مع (النعمة الكبرى على العالم) و (التوسل بالنبي وجهلة الوهابيين: 114).


الصفحة 104


الزينة، والسرور، فإنَّ ذلك مع ما فيه من الاحسان للفقراء مشعر بمحبته صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيمه في قلب فاعل ذلك، وشكر الله على ما منَّ به من إيجاد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أرسلهُ رحمة للعالمين»(1).

وقول السيوطي: «عندي أنّ أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس، وقراءة ما تيسّر من القرآن ورواية الاَخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما وقع في مولده من الآيات، ثم يمدّ لهم سماط فيأكلون وينصرفون من غير زيادة على ذلك، هو من البدع الحسنة التي يُثاب عليها صاحبها، لما فيه من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف..»(2).

وقال ابن تيميّة: «قال المروزي: سألتُ أبا عبدالله عن القوم يبيتون، فيقرأ قاريء، ويدعون حتى يصبحوا ؟ قال: أرجو أن لا يكون به بأس.. وقال أبو السري الحربي: قال أبو عبدالله: وأي شيء أحسن من أن يجتمع الناس يصلّون ويذكرون ما أنعم الله عليهم كما قالت الاَنصار» ؟ وأضاف «وهذا إشارة إلى ما رواه أحمد: حدثنا اسماعيل، أنبأنا أيوب عن محمد ابن سيرين قال: نبئت أنّ الاَنصار قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة قالوا: لو نظرنا يوماً فاجتمعنا فيه، فذكرنا هذا الاَمر الذي أنعم الله به علينا، فقالوا: يوم السبت، ثم قالوا: لا نجامع اليهود في يومهم، قالوا: فيوم الاَحد، قالوا: لا نجامع النصارى في يومهم، قالوا: فيوم العروبة، وكانوا يسمّون الجمعة بيوم العروبة، فاجتمعوا في بيت أبي أُمامة أسعد بن

____________

(1) المصدر السابق: 63 عن السيرة الحلبية 1: 83 ـ 84.

(2) كي لا نمضي بعيداً عن احتياجات العصر، لسعيد حوّى. السيرة بلغة الحب والشعر: 42.


الصفحة 105


زرارة، فذبحت لهم شاة فكفتهم»(1).

إنّ أتباع أهل البيت عليهم السلام وعامة المسلمين يحتفلون بمولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبمواليد الاَئمة الطاهرين من ذريته وبالمناسبات والذكريات الاسلامية العظيمة، ولا يتجاوزون في احتفالاتهم قراءة القرآن وسيرة الرسول وأهل بيته الطاهرين والدروس العظيمة والعبر من الذكريات الاسلامية.

وغريب جداً أن يعتبر أحد من الناس الاجتماع لتلاوة حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو إنشاء القصائد في مدحة بدعة بمعناها الاصطلاحي، وأمامهم عشرات الاَمثلة من إنشاد الشعراء بحضرة الرسول شعراً في مدحه فما منعهم عن ذلك، فما المانع أن ينشد الشعر في يوم مولده مدحاً له وإشادة برسالته العظيمة ؟

فهذا كعب بن زهير يُنشد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو بحضرته:

مهلاً هداك الذي أعطاك نا * فلة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل
إنَّ الرسول لنور يستضاء به * مهنّد من سيوف الله مسلول(2)

أو قول حسان بن ثابت في رثاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:

يدلُّ على الرحمن من يقتدي به * ويُنقذ من هول الخزايا ويُرشد
إمام لهم يهديهم الحقَّ جاهداً * معلّم صدقٍ إن يطيعوه يُسْعدوا(3)

ولا نريد هنا الاستقصاء.. لكن هنا لا بدَّ من التنبيه إلى أنَّ هذين

____________

(1) اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية: 304.

(2) السيرة النبوية، لابن هشام 4: 154 ـ 155.

(3) المصدر السابق 4: 318.


الصفحة 106


الشاعرين وغيرهم من الشعراء أنشدوا شعرهم في اجتماع من الناس ولم ينشدوه بينهم وبين أنفسهم.. لكن أحداً لم يقل لهم إنّ إنشادكم في اجتماع الناس بدعة !

ثانياً: شدّ الرحال لزيارة قبر النبي والاَئمة والصالحين:

اتفق علماء المسلمين على جواز زيارة القبور عامةً وقبور الاَنبياء والاَولياء والصالحين خاصّة، إلاّ ما نُسب إلى ابن سيرين والنخعي والشعبي، على أنّ النسبة غير ثابتة.

وقد زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبر أُمّه فبكى وأبكى من حوله وقال: «… استأذنته في أن أزور قبرها فأُذِن لي فزوروا القبور فإنّها تُذكِّر الموت»(1).

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «من زار قبري وجبت له شفاعتي»(2).

وقال صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: «من حجَّ فزار قبري بعد وفاتي، كان كمن زارني في حياتي»(3). وقد وردت عنه صلى الله عليه وآله وسلم عشرات الاَحاديث في هذا المضمار من طرق الفريقين.

ويشكك ابن تيمية في مندوبية زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويذهب في «منهاج السُنّة» وغيره إلى أن ماورد في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضعيف بل موضوع.

إلاّ أن المقدسي يذكر أنَّ ابن تيمية كان معتقداً بزيارة النبي الاَكرم،

____________

(1) صحيح مسلم 3: 65 باب استئذان النبي ربّه في زيارة قبر أُمّه.

(2) الغدير، للاميني 5: 93 عن أكثر من أربعين راوياً من أئمة المذاهب الاَربعة.

(3) المصدر السابق 5: 98 ـ 100 عن خمسة وعشرين محدّثاً.


الصفحة 107


ونقل عنه قوله: إذا أشرف على مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الحج أو بعده فليقل ماتقدم، فاذا دخل استحب له أن يغتسل، نصّ عليه الامام أحمد، فإذا دخل المسجد بدأ برجله اليمنى، وقال: بسم الله والصلاة على رسول الله، اللهم أغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، ثم يأتي الروضة بين القبر والمنبر فيصلى بها ويدعو بما شاء، ثم يأتي قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيستقبل جدار القبر ولا يمسّه ولا يقبله، ويجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه ليكون قائماً وجاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقف متباعداً كما يقف لو ظهر في حياته بخشوع وسكون منكّس الرأس غاضّ الطرف مستحضراً بقلبه جلالة موقفه، ثم يقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين وقائد الغر المحجلين…»(1).

ومع هذا الكلام فان ابن تيمية يعتبر «شدّ الرحال» لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمراً حراماً، معتمداً في ذلك فهماً خاطئاً لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «لا تشدُّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الاقصى»(2)وفي لفظٍ آخر: «إنما يُسافر الى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيليا»(3).

وسوف نتناول مناقشة هذا الاَمر من جانبين:

____________

(1) الصارم المنكي في الرد على السبكي، للمقدسي: 7، ط1، القاهرة، المطبعة الخيرية.

(2) صحيح مسلم 4: 126 كتاب الحج باب لا تشدُّ الرحال. سنن أبي داود 1: 469 كتاب الحج. سنن النسائي 2: 37 ـ 38 المطبوع مع شرح السيوطي.

(3) صحيح مسلم 4: 126 كتاب الحج باب لا تشدُّ الرحال. سنن أبي داود 1: 469 كتاب الحج. سنن النسائي 2: 37 ـ 38 المطبوع مع شرح السيوطي.


الصفحة 108


الجانب الاَول: إيراد أقوال وأحاديث تؤكد استحباب السفر لزيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم.

والجانب الثاني: دراسة وتحليل الحديث الذي اعتبره ابن تيمية دالاً على حرمة السفر إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

شاهد أيضاً

اليمن – رمز الشرف والتضامن العربي مع غزة فتحي الذاري

  ان الحشد المليوني للشعب اليمني بكافة قواه الفاعلة والاصطفاف الرشيد بقيادة السيد القائد عبدالملك ...