الرئيسية / بحوث اسلامية / البدعة مفهومها وحدودها

البدعة مفهومها وحدودها

ثانياً: إقامة صلاة التراويح جماعة

من المتفق عليه بين الفقهاء وجود نوافل خاصّة بشهر رمضان المبارك في الشريعة المقدّسة، فهي سُنّة مؤكدة، وإنّ أوّل من عمل بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد قال: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه»(3)..

لكن النقاش في جواز إقامتها جماعة، هل هي سُنّة أم بدعة ؟

1 ـ سأل زرارة ومحمد بن مسلم والفضيل أبا جعفر الباقر وأبا عبد الله (الصادق) عليهما السلام عن الصلاة في شهر رمضان نافلة بالليل جماعة، فقالا:

____________

(1) زاد المعاد، لابن القيّم 1: 215.

(2) مجمع الزوائد، للهيثمي 3: 246 نقلاً عن أحمد.

(3) صحيح البخاري 3: 58 باب فضل من قام رمضان رقم 2008. صحيح مسلم 2: 176 باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح.


الصفحة 86


«إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا صلّى العشاء الآخرة انصرف إلى منزله ثم يخرج من آخر الليل إلى المسجد فيقوم فيصلي، فخرج في أوّل ليلة من شهر رمضان ليصلّي كما كان يصلّي، فاصطف الناس خلفهُ فهرب منهم الى بيته وتركهم، ففعلوا ذلك ثلاث ليال فقام صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم الثالث على منبره فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أيُّها الناس إن الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة، وصلاة الضحى بدعة، ألا فلا تجتمعوا ليلاً في شهر رمضان لصلاة الليل ولا تصلّوا صلاة الضحى، فإنّ تلك معصية، ألا فإن كلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار. ثم نزل صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: قليل في سُنّة خير من كثير في بدعة»(1).

2 ـ عن عبيد بن زرارة عن الاِمام الصادق عليه السلام قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزيد في صلاته في شهر رمضان إذا صلّى العتمة صلّى بعدها، يقوم الناس خلفهُ فيدخل ويدعهم، ثم يخرج أيضاً فيجيئون ويقومون خلفه فيدخل ويدعهم مراراً»(2).

3 ـ روى البخاري قال: «حدثني يحيى بن بكير: حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب: أخبرني عروة: أنَّ عائشة أخبرته أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج ليلة في جوف الليل فصلّى في المسجد، وصلّى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم، فصلّى فصلّوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة. فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلّى فصلَّوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم

____________

(1) الفقيه، للصدوق 2: 87 | 1 باب 45 الصلاة في شهر رمضان.

(2) تهذيب الاحكام، للطوسي 3: 61 | 208 باب فضل شهر رمضان والصلاة فيه.


الصفحة 87


قال: أما بعد فإنّه لم يخف عليّ مكانكم ولكني خشيتُ أن تفترض عليكم فتعجزوا عنها، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والاَمر على ذلك»(1).

4 ـ وجاء في كنز العمال: «سُئل عمر عن الصلاة في المسجد فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الفريضة في المسجد، والتطوّع في البيت»(2).

5 ـ وجاء في المغني لابن قدامة: «وقال مالك والشافعي: قيام رمضان لمن قوي في البيت أحب الينا لما روى زيد بن ثابت قال: احتجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجيرة بخصفة أو حصير، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها فتتبع إليه رجال وجاؤوا يُصلّون بصلاته، قال: ثم جاؤوا ليلة فحضروا، وأبطأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهم، فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم، وحصبوا الباب، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مغضباً فقال: «ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنّه سيكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإنَّ خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة»(3).

ومن خلال التأمل في الروايات المتقدمة تراها أجمعت على النهي عن أداء صلاة التراويح جماعة، غاية الاَمر أنَّ بعض الروايات أرجعت النهي إلى أسباب خشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن «تكتب عليهم» أي أنْ تفرض عليهم فتكون جزءاً من التشريع بتلك الكيفية.

وأرجعت روايات أُخرى أمر النهي إلى أنَّ إقامتها جماعة «بدعة» بنص

____________

(1) أي على ترك الجماعة في صلاة التراويح، صحيح البخاري 3: 58 باب فضل من قام رمضان، ونحوه 2: 63 باب التهجد بالليل. صحيح مسلم 6: 41.

(2) كنز العمّال، لعلاء الدين الهندي 8: 384 | 23363.

(3) المغني، لموفق الدين بن قدامة 1: 800.


الصفحة 88


قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رواية زرارة ومحمد بن مسلم والفضيل، وأنَّ إقامتها منفردة في البيت أفضل من إقامتها في المسجد، وذهب إلى ذلك أيضاً مالك والشافعي كما في رواية المغني التي تقدّمت.

واتفقت أغلب الروايات على أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توفي والتراويح تقام فرادى وليس جماعة.. فمن الذي فرضها جماعة في المسجد ؟ هذا ما سنتعرف عليه في ما يأتي:

أوّل من أمر بإقامة التراويح جماعة

أجمعت الروايات على أنَّ عمر بن الخطاب كان أول من أمر بإقامة صلاة التراويح جماعة، ومنع الناس من أدائها منفردة.

1 ـ عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير، عن عبدالرحمن بن عبد القاري أنّه قال: «خرجتُ مع عمر بن الخطاب ليلةً في رمضان الى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لوجمعت هؤلاء على قاريء واحد لكان أمثل.

ثم عزم فجمعهم على أُبي بن كعب، ثم خرجتُ معه ليلةً أُخرى، والناس يصلّون بصلاة قارئهم، قال عمر: نِعمَ البدعةُ هذهِ، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون ! يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوّله»(1).

2 ـ عن أُبي بن كعب: «أن عمر بن الخطاب أمره أن يصلّي بالليل في

____________

(1) صحيح البخاري 3: 58. وموطأ مالك: 73.


الصفحة 89


رمضان، فقال: إنَّ الناس يصومون النهار، ولا يحسنون أن يقرأوا، فلو قرأت عليهم بالليل، فقال: يا أمير المؤمنين هذا شيء لم يكن ! فقال: قد علمتُ، ولكنه حسن، فصلّى بهم عشرين ركعة»(1).

3 ـ روى البخاري: «توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والناسُ على ذلك (يعني انهم يصلّون التراويح فرادى) ثم كان الاَمر على ذلك في خلافة أبي بكر، وصدراً من خلافة عمر»(2).

4 ـ قال ابن سعد في ترجمة عمر: «هو أول من سنَّ قيام شهر رمضان بالتراويح وجمع الناس على ذلك، وكتب به إلى البلدان، وذلك في شهر رمضان سنة أربع عشرة»(3).

5 ـ وقال ابن عبدالبر في ترجمة عمر: «وهو الذي نوّر شهر الصوم بصلاة الاشفاع فيه»(4).

6 ـ وقال أبو الوليد محمد بن الشحنة عند ذكر وفاة عمر في حوادث سنة 23 هـ: «هو أول من نهى عن بيع أُمهات الاَولاد.. وأوّل من جمع الناس على إمام يصلّي بهم التراويح»(5).

وأخيراً فإنَّ قول عمر حين رأى الناس يصلّون بصلاة قارىء واحد كما تقدم في رواية عبدالرحمن بن عبد القاري: «نعمت البدعة هذه» دليلٌ

____________

(1) كنز العمّال، لعلاء الدين الهندي 8: 409 | 23471.

(2) صحيح البخاري 3: 58 باب فضل من قام رمضان | 2010.

(3) الطبقات الكبرى، لابن سعد 3: 281.

(4) الاستيعاب 3: 1145 رقم 1878.

(5) روضة المناظر كما في النص والاجتهاد، للسيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي: 250.


الصفحة 90


ليس بعده دليل على أنّها سنّة ابتدعها عمر لم تكن موجودة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا في عهد أبي بكر.

موقف المسلمين من بدعة الجماعة في التراويح

لا نريد هنا أن نستقصي مواقف الصحابة الاُول وغيرهم من أمر عمر بإقامة التراويح جماعة، بل نحاول أن نتعرض بإيجاز لهذه المواقف لتساعد القاريء على تكوين صورة واضحة عن طبيعة الموقف تجاهها في العصور الاولى:

1 ـ عن أبي أُمامة الباهلي رضي الله عنه أنّه قال: «أحدثتم قيام شهر رمضان، ولم يُكتب عليكم، إنما كُتب عليكم الصيام»(1).

وفي ذلك دلالة واضحة وصريحة على الاعتراض على الجماعة في صلاة التراويح.

2 ـ عن نافع مولى عبدالله بن عمر: «أنّ ابن عمر كان لا يصلّي خلف الامام في شهر رمضان»(2).

3 ـ وقد نهى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في خلافته الناس عن أداء صلاة التراويح جماعة لاَنها بدعة، فقد روي أنّه: «لما اجتمع الناس على أمير المؤمنين عليه السلام بالكوفة سألوه أن ينصب لهم إماماً يصلّي بهم نافلة شهر رمضان، فزجرهم، وعرّفهم أنَّ ذلك خلاف السُنّة، فتركوه واجتمعوا، وقدَّموا بعضهم، فبعث إليهم الحسن عليه السلام، فدخل عليهم

____________

(1) الاعتصام، للشاطبي 1: 291.

(2) نصب الراية، للزيلعي 2: 154.


الصفحة 91


المسجد ومعهُ الدّرة، فلما رأوه تبادروا الاَبواب وصاحوا: واعمراه»(1).

وفي رواية أخرى عن الاِمام الصادق عليه السلام أنه قال: «لما قدم أمير المؤمنين عليه السلام الكوفة أمر الحسن بن علي أن ينادي في الناس: لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة، فنادى في الناس الحسن بن علي بما أمره به أمير المؤمنين، فلّما سمع الناس مقالة الحسن بن علي عليه السلام صاحوا: واعمراه، واعمراه ! فلّما رجع الحسن إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال له: ماهذا الصوت ؟ ـ قال ـ: يا أمير المؤمنين، الناسُ يصيحون: واعمراه، واعمراه ـ فقال أمير المؤمنين عليه السلام ـ: قل لهم: صلّوا»(2).

فهل في قوله عليه السلام: «قُلْ لهم صلّوا» إقرار على الجماعة في التراويح، أم أن هناك أسباباً أُخرى؟ هذا ما يكشف عنه النص الآتي المروي عنه عليه السلام: «قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متعمدين لخلافه، ناقضين لعهده مغيرين لسنته، ولو حملتُ الناس على تركها… إذاً لتفرقوا عني والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة، وأعلمتهم أنَّ اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي: يا أهل الاسلام غُيّرت سنة عمر ! ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعاً، ولقد خفتُ أن يثوروا في ناحيةً جانب عسكري..»(3).

وحسب القاريء اللبيب أن يرى أنّ أمير المؤمنين علياً عليه السلام يصف الاجتماع في شهر رمضان على غير الفريضة بأنّه «بدعة».

____________

(1) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 12: 283.

(2) التهذيب، للطوسي 3: 70 | 227.

(3) الكافي، للكليني 8: 51 ـ 52.


الصفحة 92


ويرى القاريء الكريم في قول أمير المؤمنين علي عليه السلام ما يكفي لوصف الحال حين نهاهم عن «البدعة» حتى أنّه عليه السلام خاف ان يثوروا في جانب عسكره، فالى أي مدى كانت هذه البدعة قد استشرت في النفوس واتسعت في الممارسة حتى عدّ الجهلاء النهي عنها منعاً للسُنّة ؟

شاهد أيضاً

الثورة الإسلامية والغزو الثقافي

النمط من إدراك المصالح والمفاسد البشرية والأخلاق الاجتماعية على العالم أجمع، وعلى الجميع أن يذعنوا ...