الرئيسية / القرآن الكريم / تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان سورة المائدة

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان سورة المائدة

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة المائدة

34

((إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ )) فإنّ التوبة قبل الوقوع في يد حاكم الشرع تُقبل أما لو وقع ثم تاب فإنه لا تُقبل توبته بالنسبة إلى درء الحد بل يجري عليه الحد ((فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ )) يغفر ذنبهم ((رَّحِيمٌ)) لا يعاقبهم لا في الدنيا ولا في الآخرة .

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة المائدة

35

ثم يتوجه القرآن الحكيم إلى تربية الوجدان إلى جنب تربية الخارجين عن طاعته بالسيف والعقاب ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ )) بإتيان أوامره واجتناب زواجره ((وَابْتَغُواْ ))، أي أطلبوا ((إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ )) السبب الذي يقرّبكم إليه سبحانه من فعل الخيرات والأعمال الصالحة ((وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ )) الخارجين ع طاعته ((لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ))، أي رجاء أن تفلحوا فإنّ الرجاء قائم في الفوز والفلاح ما دمتم تتّقون وتجاهدون .

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة المائدة

36

ولا تكونوا كالذين كفروا الذين لم يتّقوا ولم يجاهدوا ولا طلبوا رضاه سبحانه والوسيلة إليه ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا )) من المال والجاه ((وَمِثْلَهُ مَعَهُ )) بأن كان لهم ضعف ما في الأرض وهذا من باب المثل وإلا فالمراد كلّ شيء فإنّ اللفظ قد يأتي للكثرة لا للتحديد نحو (إن تستغفر لهم سبعين مرة) ((لِيَفْتَدُواْ بِهِ )) بما في الأرض ومثله بمعنى أن يجعلوه فداءاً لهم وبدلا ((مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ )) حتى ينجو كما إعتاد الفداء والخلاص في الدنيا ((مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ )) الفداء ((وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) مؤلم وموجع .

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة المائدة

37

((يُرِيدُونَ ))، أي يريد الذين كفروا ويتمنّوا ((أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا )) حيث أنّ عذابهم دائم لا إنقطاع له ولا مدة ((وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ)) دائم ثابت لا يزول .

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة المائدة

38

وهنا يرجع السياق إلى بيان الحدود التي إفتتحت بقصة إبني آدم ((وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ )) ذَكَرَ سبحانه كلّاً على حدة حتى لا يظن أنّ الحُكم لا يشتمل السارقة وقدّم السارق لأنه الغالب، وفي آية الزنا قدّم الزانية لامتهان بعض النساء للزنا ((فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا )) أربع أصابع من اليد اليمنى واليد تُطلق على مجموع العضو وإلى المرفق وإلى الزند وعلى الأصابع فقط ولم يقل يداهما لما استحسن في العربية من أنه متى إجتمع تثنيتان مضافة أحديهما إلى الأخرى حيء بالأول بلفظ الجمع كقوله سبحانه (فقد صَغَت قلوبكما) ولعلّ الأصل أنّ الجوارح في الإنسان أكثر من واحد فتكون في إنسانيين جمعاً والفاء أتى في الخبر دلالة على الترتّب والمجازات وللقطع شروط مذكورة في الفقه ((جَزَاء بِمَا كَسَبَا )) من السرقة ((نَكَالاً مِّنَ اللّهِ ))، أي عقوبة على ما فعلاه ((وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) يأخذ بعزّته ويحكم بذلك بحكمته .

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة المائدة

39

((فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ )) بأن ندم عن السرقة ((وَأَصْلَحَ )) صار صالحاً ((فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ )) ويغفر ذنبه ((إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) يغفر لمن تاب ويرحم عباده العصاة إذا ندموا وأقلعوا .

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة المائدة

40

إنّ ما ذُكر من عقاب الله وغفرانه مقتضى سلطته المطلقة ((أَلَمْ تَعْلَمْ )) أيها الإنسان ((أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ )) له التصرّف في الجميع كما يشاء ((يُعَذِّبُ مَن يَشَاء )) ممن إستحقّ العقاب ((وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء )) حسب حكمته البالغة ((وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) فلا يعجزه شيء .

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة المائدة

41

وفي سياق بيان الحدود وذِكر مساوئ اليهود يتعرّض القرآن الحكيم إلى قصة زنا وقعت في اليهود وراجعوا الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حكمه فقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) ما ملخصه : أنّ إمرأة شريفة من خيبر زنت وقد كان حكم زنا المحصّن في التوراة الرجم لكنهم راجعوا النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رجاء أن يخفّف بذلك فأفتاهم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالرجم وذَكَرَ أنه حكم التورات أيضاً، لكن جماعة من علمائهم أنكروا ذلك فجعل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) “إبن صوريا” أعلمهم حَكَماً فاعترف هو أنّ الحكم في التوراة هو الرجم وأنهم حرّفوا التوراة فوضعوا مكانه أن يُجلد أربعين جلدة ثم يُسوّد وجهه ويُطاف على الحمار مقلوباً تشهيراً به !، وفي بعض التفاسير أنه كان بني نضير وقريضة معاهدة في باب القتل على خلاف حكم التوراة فقد كان حكم التوراة القتل للقاتل ولكن كانت معاهدة بين القبيلتين أنه إن قتل قريضة من النضير قُتل القاتل وإن قتل نضير من قريضة أثخذت الديّة فأراد بنو قريضة المراجعة إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الحكم ليحكم لهم بحكم التوراة وقال “إبن أُبَي” المنافق الصديق لهم إنّ حكم محمداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بما ترضون -يريد خلاف حُكم التوراة- فارضوا به وإلا فلا تقبلوه .

أقول : ومن المحتمل كون الآية إشارة إلى القصتين وعلى أيّ حال فالله سبحانه يُسلّي الرسول في مخالفة المنافقين واليهود له (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال سبحانه ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ))، أي لا يوجب حُزنك وغمّك ((الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ))، أي يُسرعون للدخول فيه فالقيام على خلافك وعدم قبول حكمك ((مِنَ )) المنافقين ((الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ )) جمه فوه بمعنى الفم، أي إنّ إيمانهم لفظي وبمجرد الشهاديتن لا عن قلب وعقيدة وهو إبن أُبَي كما تقدّم ((وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ )) بل بقيت على كفرها وضلالها ((وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ ))، أي اليهود والمراد بمسارعة اليهود في الكفر تركهم لأحكام التوراة وتمسّكهم بأحكام على خلاف ما أنزل الله فإنه كفر في مرتبة اليهودية وإن كان اليهود كفاراً من أصلهم وبمقتضى بقائهم على اليهودية ((سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ))، أي هؤلاء اليهود -أو مع المنافقين- مبالغون في سماع الكذب وقبول ما تفتريه أحبارهم وشياطينهم ((سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ )) يارسول الله أنهم خاضعون بقول غيرك ممن لم يأتوك لتحكيمك في قصة الزنا أو في قصة القتل -كما تقول- ((يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ )) جمع كلمة، أي كلام الله تعالى ((مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ))، أي من بعد أن وضعه الله سبحانه في مواضعه كما حرّفوا حُكم زنا المحصن الذي هو الرجم إلى الجلد وكما حرّفوا حُكم القتل قصاصاً إلى الديّة ((يَقُولُونَ ))، أي يقول المنافقين واليهود بعضهم لبعض ((إِنْ أُوتِيتُمْ))، أي أعطاكم الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ((هَذَا )) وهو الجَلد في الزنا والديّة في القتل ((فَخُذُوهُ )) واقبلوه ((وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ )) هذا الحكم بل حكمه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بما في التوراة من رجم الزاني وقتل القاتل ((فَاحْذَرُواْ )) عن قبول قوله، ثم توجّه الخطاب إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تسلية له عن نفاق المنافقين وتحريف اليهود قال سبحانه ((وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ ))ن أي إمتحانه فقد أراد الله سبحانه إختبار اليهود والمنافقين في هذه القضية ليتبيّن عنادهم وغيّهم وأنهم لا يرجعون إلى حكم الله ويظهر كذبهم في قولهم أنهم متدينون ((فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا ))، أي لن تستطيع يارسول الله أن تدفع عنه من أمر الله شيئاً بل إرادته نافذة وحُكمه ماضٍ ((أُوْلَئِكَ )) المنافقون واليهود ((الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ )) من الكفر فلم يلطف بهم اللطف الخاص -كما يلطفه على سائر المؤمنين- حتى يتطهّر قلوبهم من أدران الكفر إنّ الله سبحانه بيّن لهم الدلائل ونصب لهم الحُجج لكنهم أبوا من الرضوخ ولذا قطع الله تعالى لطفه عنهم ((لَهُمْ ))، أي للمنافقين واليهود ((فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ)) وفضيحة وذلة أما المنافقون فلظهور نفاقهم عند المؤمنين مما يوجب التنفّر عنهم وأما اليهود فبضرب الذلّة عليهم إلا بحبل من الله وحبل من الناس ((وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) إنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النار واليهود معلوم الحال هناك .

شاهد أيضاً

شرح نهج البلاغة – ابن أبي الحديد – ج ١

شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (586 – 656) الجزء الأول تحقيق محمد أبو الفضل ...