روح العبادة الآداب المعنوية للعبادات
13 يونيو,2019
صوتي ومرئي متنوع, طرائف الحكم
787 زيارة
الدرس الثاني عشر
أفعال الصلاة وآدابها المعنوية
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
-
يبيّن الآداب المعنوية المختلفة للقيام في الصلاة.
-
يشرح الآداب المعنوية المختلفة للركوع في الصلاة.
-
يبيّن الآداب المعنوية المختلفة للسجود في الصلاة.
حقيقة أفعال الصلاة
إنّ هدف الأنبياء العظام وتشريع الشرائع والأحكام ونزول الكتب السماوية وخصوصاً القرآن الشريف، هو نشر التوحيد والمعارف الإلهية وقطع جذور الكفر والشرك. وسرّ التوحيد سارٍ وجارٍ في جميع العبادات القالبية والقلبية أي في ظاهر العبادات وباطنها، بل إنّ أداء العبادات عبارةٌ عن إجراء التوحيد من باطن القلب إلى ظاهر البدن وهذا ما سبقت الإشارة إليه.
وللسالك إلى الله مهمّةٌ لا يجوز له الغفلة عنها مطلقاً في جميع مقامات السلوك، بل هذه المهمّة هي غاية السلوك ولبّ لبابه. وهي أن لا يغفل في جميع الحالات والمقامات عن ذكر الحق ويطلب في جميع المناسك والعبادات معرفة الله وتوحيده.
وفي الصلاة التي هي العبادة الجامعة يتجلّى التوحيد في أفعالها حيث إنه السرّ فيها، فالقيام إشارةٌ إلى التوحيد الأفعالي، بينما الركوع إشارةٌ إلى التوحيد الصفاتي، والسجود إشارةٌ إلى التوحيد الذاتي. وهذه الأفعال الثلاثة هي عمدة أحوال الصلاة، وسائر الأعمال والأفعال مقدّمات ومعدّات له[1].
يقول الإمام الخمينيقدس سره: “اعلم أن عمدة أحوال الصلاة ثلاثة، وسائر الأعمال والأفعال مقدّماتها ومعدّات لها، الأول: القيام. والثاني: الركوع. والثالث: السجود. وأهل المعرفة يرون هذه الثلاثة إشارة إلى التوحيدات الثلاثة، ونحن ذكرنا تلك المقامات في كتاب سر الصلاة على حسب الذوق العرفاني”[2].
ويقول أيضاً: “اعلم أن أهل المعرفة يرون القيام إشارة إلى التوحيد الأفعالي، كما أن الركوع عندهم إشارة إلى التوحيد الصفاتي والسجود إلى التوحيد الذاتي، ويأتي بيانهما في محلّهما”[3].
قوام الصلاة
إن الصلاة التي هي معراج المؤمن وقربان أهل التقوى، متقوّمةٌ بأمرين أوّلهما مقدّمة للآخر:
الأول: ترك رؤية النفس وإرادتها الذي هو باطن التقوى.
الثاني: إرادة الله وطلب الحق وهو حقيقة المعراج والقرب.
ولهذا ورد في الروايات الشريفة: “الصلاة قربان كل تقيّ”[4]، فغاية السلوك هو طلب لقاء الله تعالى والقرب منه وهذه حقيقة كون الصلاة معراجاً.
وهذان الأمران يحصلان في الأفعال الثلاثة للصلاة أي القيام والركوع والسجود بالتدريج:
ففي القيام يتمّ ترك رؤية فاعلية النفس ورؤية فاعلية الحق وقيّومية الحق المطلق. فلا يرى المصلي لنفسه دخالة في الإتيان بالفعل بل يرى الفعل من الله تعالى ولا يرى أن قيامه في الصلاة هو من نفسه وفعلها، بل يراه من الله القيّوم.
وفي الركوع يتمّ ترك رؤية صفات النفس ورؤية مقام أسماء الحق وصفاته، فلا يرى لنفسه أية صفات كمالية بل ينسب جميع الصفات الكمالية لله تعالى، ويحصرها فيه عزّ وجل.
وفي السجود يتم ترك رؤية النفس مطلقاً، وحب الله وطلبه مطلقاً، فلا يرى المصلي لنفسه وجوداً بل يرى الوجود منحصراً به تعالى.
وفي المقاطع اللاحقة مزيد من الشرح والتوضيح حول هذه المقامات الثلاثة التي تتحقق في الأفعال الثلاثة.
سرّ القيام وآدابه
يقول الإمام الخمينيقدس سره: “اعلم أن أهل المعرفة يرون القيام إشارة إلى التوحيد الأفعالي، كما أن الركوع عندهم إشارة إلى التوحيد الصفاتي والسجود إلى التوحيد الذاتي. وأما الكلام بأن القيام إشارة إلى التوحيد الفعلي فهو أن في نفس القيام إشارة إلى هذا وضعاً، وفي القراءة إشارة إليه لفظاً”[5].
ففي القيام إشارةٌ إلى التوحيد الأفعالي وضعاً[6] ولفظاً أيضاً، فوضعية القيام أي قيام المصلّي ببدنه إشارةٌ إلى التوحيد الأفعالي، وكذلك فالقراءة في حال القيام إشارةٌ إليه لفظاً، وذلك لما تتضمّنه القراءة في الصلاة من معاني التوحيد والإقرار به.
ومعنى ذلك أن القيام إشارةٌ إلى قيام العبد بالحق، فلا قيام له من دونه تعالى ولا يمكن للإنسان أن يأتي بحركةٍ أو فعلٍ من نفسه وبنفسه، بل إن جميع أفعال الإنسان قائمةٌ بقيّوميّة الحق: ﴿ وَمَا رَمَيتَ إِذ رَمَيتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ ﴾[7].
فالآية الشريفة تنفي أن تكون الرماية صادرةً من الإنسان، وإنما تنسب الرماية إلى الله تعالى وهذا الأمر تعبيرٌ عن التوحيد الأفعالي وحصر الأفعال به عزّ وجلّ.
والأدب المعنوي للمصلّي في هذا المقام أن يتذكّر بقلبه هذه اللطيفة الإلهية بانحصار الأفعال به تعالى، ويذكّر القلب بحقيقة الفيض المقدّس لله تعالى وأنه هو الذي يفيض على عباده في كل شؤونهم. وعليه أن يوصل إلى باطن القلب حقيقة العلاقة والنسبة بين الحق والخلق، أي نسبة قيّومية الحق وتقوّم الخلق به، بمعنى أن كلّ شيءٍ في هذا الوجود قائمٌ به تعالى.
وأدبٌ آخر يكمن في النظر إلى محلّ السجود وهو التراب والنشأة الأصلية للإنسان، وكذلك في طريقة خضوع الرقبة وتنكيس الرأس أثناء القيام، في إشارةٍ إلى الذلّ والفقر والفناء تحت عزّ الكبرياء وسلطانه: ﴿ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلفُقَرَاءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ
ٱلحَمِيدُ ﴾[8]. فمن آداب القيام أيضاً تذكّر هذه الحقيقة.
ومن الآداب أيضاً أن يرى المصلّي نفسه حاضراً في محضر الحق، وأن ينظر إلى العالم باعتباره محضر الربوبية، ويعتبر نفسه من الحاضرين فيه بين يديّ الله، ويوصل إلى قلبه عظمة الحاضر والمحضر، ويفهّم القلبَ أهمية مناجاة الحق تعالى وخطرها، ويهيّئ قلبه قبل الورود في الصلاة بالتفكّر والتدبّر، ويفهّمه عظمة المطلب، ويلزمه بالخضوع والخشوع والطمأنينة والخشية والخوف والرجاء والذلّ والمسكنة إلى آخر الصلاة. ويشارط القلب أن يراقب هذه الأمور ويحافظ عليها ويتفكّر ويتدبّر في أحوال أعاظم الدين وهداة السبيل كيف كانت حالاتهم في الصلاة وكيف كانوا يتعاملون مع مالك الملوك، ويتّخذ من أحوال أئمة الهدى أسوةً لنفسه.
فعن مولانا الإمام زين العابدين عليه السلام أنه قال “فأمّا حقوق الصلاة فأن تعلم أنها وفادةٌ إلى الله وأنك فيها قائمٌ بين يدي الله، فإذا علمت ذلك كنت خليقاً أن تقوم فيها مقام العبد الذليل الراغب الراهب الخائف الراجي المسكين المتضرّع المعظّم، مقام من يقوم بين يديه بالسكينة والوقار وخشوع الأطراف ولين الجناح وحسن المناجاة له في نفسه والطلب إليه في فكاك رقبته التي أحاطت بها خطيئته واستهلكتها ذنوبه، ولا قوة الا بالله”[9].
وعن إمامنا الرضا عليه السلام: “فإذا أردت أن تقوم إلى الصلاة فلا تقم إليها متكاسلاً ولا متناعساً ولا مستعجلاً ولا متلاهياً، ولكن تأتيها على السكون والوقار والتؤدة وعليك الخشوع والخضوع، متواضعاً لله عزّ وجلّ متخاشعاً عليك الخشية وسيماء الخوف، راجياً خائفاً بالطمأنينة على الوجل والحذر. فقف بين يديه كالعبد الآبق المذنب بين يدي مولاه فصفّ قدميك وانصب نفسك ولا تلتفت يميناً وشمالاً وتحسب كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”[10].
آداب الركوع
-
أدب التكبير قبل الركوع:
يقول الإمام الخميني قدس سره: “والظاهر أن هذا التكبير من متعلّقات الركوع ولأجل تهيّؤ المصلّي للدخول إلى منزل الركوع. وأدبه أن ينظر المصلّي إلى مقام عظمة الحق وجلاله وعزّة الربوبية وسلطنتها ويجعل ضعف العبودية وعجزها وفقرها وذلّها نصب عينه. وفي هذا الحال يكبّر الحق تعالى عن التوصيف بمقدار معرفته بعزّ الربوبية وذلّ العبودية.
ويلزم أن يكون توصيف العبد السالك للحق تعالى وتسبيحه وتقديسه لمحض طاعة الأمر ولأن الحق تعالى أذن له في الوصف والعبادة. وإلا فليس له أن يتجاسر على التلفظ بالتوصيف والتعظيم في المحضر الربوبي، وهو عبد ضعيف، وفي الحقيقة لا شيء. وما لديه فهو أيضاً من المعبود العظيم الشأن. وفي حين يقول مثل علي بن الحسين بلسانه الولائي الأحلى الذي هو لسان الله “أفبلساني هذا الكالّ أشكرك؟ فماذا يتأتّى من بعوضة ضئيلة؟”[11].
فهذا التكبير له علاقة مباشرة بالركوع ومهمّته تهيئة المصلّي وتحضيره للدخول إلى مقام الركوع ليتمكّن من القيام بأدبه. وما لم يؤدّي المصلّي أدب التكبير فلن يؤدّي أدب الركوع.
وأدب التكبير هو أن ينظر المصلّي إلى مقام عظمة الحق فيستحضر جلاله تعالى وعزّة الربوبية وسلطنتها، وفي المقابل يديم النظر إلى ضعف العبودية وعجزها وفقرها وذلّها. وعند ذلك يكبّر ويعني بهذا التكبير أن الحق تعالى أكبر من أن يوصف، وذلك لما أدركه من الفرق بين عزّة ربّه وذلّه. وكلّما ازدادت معرفة المصلّي بعزّ الربوبية وما يقابلها من ذلّ العبودية، كلما كان تكبيره للحق عن التوصيف أعظم.
ويُضاف إلى هذا الأدب أدبٌ آخر يتمثّل في تنبّه المصلّي إلى أن توصيفه وتسبيحه وتقديسه للحق تعالى إنما هي امتثالٌ لأمر الله فقط، ولأنه تعالى أذن له في الوصف والعبادة. وإلا فليس من حق العبد أن يتجاسر على التلفّظ بالتوصيف والتعظيم في
المحضر الربوبي لأنه ليس سوى عبد ضعيف، وفي الحقيقة لا شيء. وكلّ ما لديه فهو من المعبود العظيم الشأن.
فإذا فرغ المصلّي من التكبير وأراد أن يرِد مقام الركوع العظيم، فلا بد له من التهيّؤ لذاك المقام. وأدب ذلك أن يرمي وراء ظهره توصيفه وتعظيمه وعبادته، ويرفع كفّيه الخاليتين باتجاه القبلة ويرِد مقام الركوع صفر اليدين وبقلبٍ مملوءٍ بالخوف والرجاء: خوف التقصير من القيام بمقام العبودية، والرجاء الواثق بالحق المقدّس حيث شرّفه وأذن له بالدخول إلى هذه المقامات التي هي لخلّص الأولياء وكمّل الأحبّاء.
-
آداب الانحناء الركوعي:
يقول الإمام الخميني قدس سره: “وليعلم أن الركوع مشتمل على تسبيح الرب جلّ وعلا وتعظيمه وتحميده، فالتسبيح تنزيه عن التوصيف وتقديس عن التعريف“[12].
يشتمل الركوع على تسبيح الرب جلّ وعلا سبحان ربي وتعظيمه العظيم وتحميده وبحمده. والتسبيح تنزيهٌ عن التوصيف وتقديسٌ عن التعريف والمعرفة، ومؤدّاه أن الله تعالى منزّهٌ عن الوصف والأوصاف، وهو أكبر من أن يعرّف بتعريف ومن أن يُعرَف.
والتعظيم يعني أنه لا شبيه له تعالى فهو أعظم من كل شيء ولا يُقارن به شيء. والتحميد يعني حمده على آلائه ومواهبه ونعمه التي أفاضها.
وفي مقام الركوع يدّعي المصلّي السالك أنه ليس في دار الوجود علمٌ ولا قدرةٌ ولا حياةٌ ولا إرادة إلا من الحق تعالى وهذا هو التوحيد الصفاتي الذي يتحقّق في الركوع كما أشرنا سابقاً حيث يقرّ بأن جميع الصفات الكمالية هي للحق تعالى وحده.
يقول الإمام الخميني قدس سره: “وهذا الادّعاء عظيمٌ والمقام دقيقٌ للغاية ولا ينبغي صدور هذه الدعاوى من أمثالنا، فلا بدّ أن نتوجّه بباطن ذاتنا إلى جناب الحق المقدّس بالتضرّع والمسكنة والذلّة ونعتذر عن القصور والتقصير ونرى نقصاننا بعين العيان
وشهود الوجدان، فلعلّه يصدر عن هذا المقام المقدس توجّهٌ وعنايةٌ ويصير حال الاضطرار سبباً للإجابة من الذات المقدسة: ﴿ أَمَّن يُجِيبُ ٱلمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكشِفُ ٱلسُّوءَ ﴾[13] [14].
فأدب الركوع إذاً، أن يتوجّه المصلّي بباطنه بتضرّعٍ ومسكنةٍ وذلّةٍ إلى الله تعالى، ويعتذر عن قصوره وتقصيره عن أن يقوم بحقيقة الركوع، ويقرّ بنقصه وفقره وعجزه، لعلّه بحالة الاضطرار والعجز هذه يحوز على العناية من الله تعالى.
وفي حديثٍ يشير الإمام الصادق عليه السلام إلى فضل الركوع وبعض آدابه: “لا يركع عبدٌ لله ركوعاً على الحقيقة إلا زيّنه الله بنور بهائه وأظلّه في ظلال كبريائه وكساه كسوة أصفيائه، والركوع أولٌ والسجود ثان فمن أتى بمعنى الأول صلح للثاني، وفي الركوع أدبٌ وفي السجود قربٌ، ومن لا يحسن الأدب لا يصلح للقرب، فاركع ركوع خاضعٍ لله بقلبه متذلل وجِلٍ تحت سلطانه خافضٍ له جوارحه خفض خائفٍ حزن على ما يفوته من فائدة الراكعين… واستوف ركوعك باستواء ظهرك وانحط على همتك في القيام بخدمته إلا بعونه، وفرّ بالقلب من وساوس الشيطان وخدائعه ومكائده فإن الله تعالى يرفع عباده بقدر تواضعهم له ويهديهم إلى أصول التواضع والخضوع بقدر اطّلاع عظمته على سرائرهم“[15].
أسرار السجود وآدابه
في مقام السجود يدّعي المصلّي السالك أنه ليس في دار الوجود من موجود إلا الحق تعالى وهذا هو التوحيد الذاتي الذي يتحقق في السجود كما أشرنا، وسر ذلك يعود الى كون وضعية السجود تنفي ظهور أي شيء وحتى نفس المصلّي، ولا يبقى في المحضر إلا الله تعالى.
وعن السجود يقول الإمام الخمينيقدس سره: “وهو عند أصحاب العرفان وأرباب القلوب ترك النفس وغمض العين عمّا سوى الحق، والتحقق بالمعراج اليونسي الذي حصل
بالغوص في بطن الحوت بالتوجّه إلى أصله بلا رؤية الحجاب، وفي وضع الرأس على التراب إشارة إلى رؤية جمال الجميل في باطن قلب التراب وأصل عالم الطبيعة.
وآدابه القلبية عرفان حقيقة النفس وأصل جذر وجوده ووضع أم الدماغ وهي مركز سلطان النفس وعرش الروح على أدنى عتبة مقام القدس ورؤي عالم التراب عتبة لمالك الملوك.
فسرّ الوضع السجودي غمض العين عن النفس وأدب وضع الرأس على التراب إسقاط أعلى مقامات نفسه من العين ورؤيتها أقل من التراب”[16]. “…ووضع رؤساء الأعضاء الظاهرة التي هي محال الإدراك وظهور التحريك والقدرة وهي الأعضاء السبعة أو الثمانية على أرض الذلّة والمسكنة علامة التسليم التام وتقديم جميع قواه والخروج من الخطيئة الآدمية”[17].
فالسجود هو تعبيرٌ من المصلي عن تركه لرؤية نفسه وعن إغماض عينه عمّا سوى الحق تعالى، فعندما يسجد المصلّي فإنه لا يرى شيئاً حتى نفسه ويكون في وضعٍ ملائمٍ تماماً للتوجّه بكليّته إلى مالك الملوك.
فالسرّ في الوضع السجودي هو إغماض العين عن النفس، ووضع الرأس على التراب هو بحدّ ذاته إسقاطٌ لأعلى مقامات النفس وهو الرأس، ورؤيتها أقلّ من التراب.
والسرّ في وضع الأعضاء الظاهرة أي مواضع السجود – وهي محالّ الإدراك والتحريك والقدرة لدى الإنسان – على الأرض هو إعلان الذلّة والمسكنة والتسليم التام من العبد لمولاه وتقديم جميع قواه لله تعالى.
ولذلك فإن الآداب القلبية للسجود تكمن في معرفة حقيقة النفس وأصل وجود الإنسان وتذكّر نشأته بوضع الرأس على التراب الذي هو أصل الإنسان.
ومن الآداب القلبية للسجود إظهار الفقر والمتربة والمسكنة وإظهار كمال الخضوع والتذلّل والتواضع، وترك الاستكبار والعجب وإرغام الأنف عبر وضع الجبهة وهي مركز سلطان النفس وأشرف ما في الإنسان على أدنى عتبة لمالك الملوك وهي التراب[18].
فإذا قوي تذكّر هذه المعاني في القلب فإنّه ينفعل بها تدريجياً، فتحصل لديه حالةٌ هي حالة الفرار من النفس وترك رؤية النفس، ونتيجة هذه الحال حصول حالة الأنس بالله تعالى وبعبادته وتتحقّق الغاية من الصلاة المعراجية.
وينبغي أن لا يدّعي السالك هذه المعاني إن لم يكن متحققاً بها فعلاً، وإنّما عليه أن يتمسّك بعناية الحق جلّ وعلا ويسأله العفو عن تقصيره بالذلّة والمسكنة، لأن هذا المقام مقامٌ خطيرٌ جداً في نظر أرباب المعرفة.
ويمكن لنا أن نطّلع على آداب السجود في روايةٍ شريفةٍ واردةٍ عن الإمام الصادق عليه السلام:
“ما خسر والله من أتى بحقيقة السجود ولو كان في العمر مرّة واحدة، وما أفلح من خلا بربّه في مثل ذلك الحال تشبيهاً بمخادع نفسه غافلاً لاهياً عمّا أعدّه الله للساجدين من أنس العاجل وراحة الأجل. ولا بعد عن الله أبداً من أحسن تقرّبه في السجود، ولا قرب إليه أبداً من أساء أدبه وضيّع حرمته بتعلّق قلبه بسواه في حال سجوده. فاسجد سجود متواضعٍ لله تعالى ذليلٍ علم أنه خلق من ترابٍ يطؤه الخلق وأنه اتّخذك ركب من نطفةٍ يستقذرها كلّ أحد وكوّن ولم يكن. وقد جعل الله معنى السجود سبب التقرب إليه بالقلب والسرّ والروح فمن قرب منه بعد من غيره، ألا ترى في الظاهر أنه لا يستوي حال السجود إلا بالتواري عن جميع الأشياء والاحتجاب عن كل ما تراه العيون؟ كذلك أمر الباطن فمن كان قلبه متعلّقاً في صلاته بشيءٍ دون الله تعالى فهو قريب من ذلك الشيء بعيدٌ عن حقيقة ما أراد الله منه في صلاته، قال عزّ وجلّ: ﴿ مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُل مِّن قَلبَينِ فِي جَوفِهِۦۚ ﴾[19] وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله تعالى: لا أطّلع على قلب عبدٍ فأعلم فيه حبّ الإخلاص لطاعتي لوجهي وابتغاء مرضاتي إلا
تولّيت تقويمه وسياسته ومن اشتغل بغيري فهو من المستهزئين بنفسه ومكتوبٌ اسمه في ديوان الخاسرين”[20].
وقد جمع عليه السلام في هذا الحديث الشريف بين الأسرار والآداب، والتفكّر فيه يفتح للسالك إلى الله طرقاً من المعرفة ويقرع السمع بحقيقة الأنس والخلوة مع الحق وترك غير الحق.
التمارين
ضع إشارة û أو ü في المكان المناسب:
1 – يتجلّى التوحيد بجميع مراتبه في كل فعل من أفعال الصلاة
2 – إنّ الصلاة متقوّمةٌ بأمرين أوّلهما مقدّمة للآخر: الأول: طلب الوصول إلى الحق تعالى وهو حقيقة المعراج والقرب، والثاني: ترك رؤية النفس وإرادتها الذي هو باطن التقوى
3 – التوحيد الأفعالي هو قيام العبد بالحق، أي لا قيام له من دونه تعالى ولا يمكن للإنسان أن يأتي بحركةٍ أو فعلٍ من نفسه وبنفسه
4 – تتحقّق المعراجية في الصلاة بأن يتم في الركوع ترك رؤية النفس مطلقاً، وحبّ الله وطلبه مطلقاً
5 – من الآداب المعنوية للمصلّي أثناء القيام أن يتذكّر بقلبه انحصار الأفعال به سبحانه تعالى
6 – أدب التكبير قبل الركوع هو أن ينظر المصلّي إلى مقام عظمة الحق فيستحضر جلاله تعالى وعزّة الربوبية وسلطنتها
7 – التوحيد الصفاتي في مقام الركوع هو أن يعتقد المصلّي السالك أنه ليس في دار الوجود علمٌ ولا قدرةٌ ولا حياةٌ ولا إرادة إلا من الحق تعالى
8 – التوحيد الذاتي أن يعتقد المصلّي السالك أنه ليس في دار الوجود من موجود إلا الحقّ تعالى
9 – أدب الركوع أن يتوجّه المصلّي بباطنه بتضرّعٍ ومسكنةٍ وذلّةٍ إلى الله تعالى فيرى نفسه مستقلّاً عن الله تعالى
10 – من الآداب القلبية للسجود إظهار الفقر والمتربة والمسكنة وإظهار كمال الخضوع والتذلّل والتواضع
المفاهيم الرئيسة
-
يتجلّى التوحيد في أفعال الصلاة التي هي العبادة الجامعة حيث إنه السرّ فيها، فالقيام إشارةٌ إلى التوحيد الأفعالي، بينما الركوع إشارةٌ إلى التوحيد الصفاتي، والسجود إشارةٌ إلى التوحيد الذاتي.
-
الآداب المعنوية للمصلّي في القيام: أن يتذكّر بقلبه انحصار الأفعال به تعالى، وأن يوصل إلى باطن القلب حقيقة العلاقة والنسبة بين الحق والخلق.
-
أدب التكبير قبل الركوع هو أن ينظر المصلّي إلى مقام عظمة الحق فيستحضر جلاله تعالى وعزّة الربوبية وسلطنتها، وفي المقابل يديم النظر إلى ضعف العبودية وعجزها وفقرها وذلّها. وأن يتنبّه المصلّي إلى أن توصيفه وتسبيحه وتقديسه للحق تعالى إنما هي امتثالٌ لأمر الله فقط، وإلا فليس من حق العبد أن يتجاسر على التلفّظ بالتوصيف..
-
في مقام الركوع يدّعي المصلّي السالك أنه ليس في دار الوجود علمٌ ولا قدرةٌ ولا حياةٌ ولا إرادة إلا من الحق تعالى وهذا هو التوحيد الصفاتي الذي يتحقّق في الركوع.
-
في مقام السجود يدّعي المصلّي السالك أنّه ليس في دار الوجود من موجود إلا الحق تعالى وهذا هو التوحيد الذاتي الذي يتحقّق في السجود كما أشرنا، وسر ذلك يعود إلى كون وضعية السجود تنفي ظهور أي شيء وحتى نفس المصلّي، ولا يبقى في المحضر إلا الله تعالى.
-
من الآداب القلبية للسجود إظهار الفقر والمتربة والمسكنة وإظهار كمال الخضوع والتذلّل والتواضع، وترك الاستكبار والعجب وإرغام الأنف عبر وضع الجبهة وهي مركز سلطان النفس وأشرف ما في الإنسان على أدنى عتبة لمالك الملوك وهي التراب.
للمطالعة
بفي بيان سرِّ رفع اليدين
… إنّ رفع اليدين لدى التكبير في الصلاة، يُعدّ من زينة الصلاة، كما أنّ صلاة جبرائيل عليه السلام، وملائكة السماوات السبع، تكون على هذا الغرار، كما ورد عن الأصبغ بن نباتة عن علي بن أبي طالب عليه السلام، قالَ: “لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنحَر ﴾[21] قالَ: “يا جِبْرائِيلُ ما هذِهِ النُّحَيْرَة الَّتِي أَمَرَ بِها رَبِّي”؟ قالَ: “يا مُحَمَّدُ إنَّها لَيْسَتْ بِنُحَيْرَةَ، وَلكِنّه يَأمُرُكَ إذا تَحَرَّمَت للْصَّلاةِ أَنْ تَرْفَعَ يَدَيْكَ إِذا كَبَّرْتَ وإذا رَكَعْتَ وإِذا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنْ الرُّكوعِ وإِذا سَجَدْتَ فَإِنَّها صَلاتُنا وَصَلاةُ الْمَلائِكَةِ فِي السَّماواتِ السَّبْعِ وأَنَّ لِكُلِّ شيءٍ زِينَة وإِنَّ زِينَةَ الصَّلاةِ رَفْعَ الأَيْدِي عِنْدَ كُلِّ تَكْبِيرَة”[22].
ونقل عن الإمام الرضا عليه السلام كما في كتابي علل الشرائع وعيون الأخبار قال: “إِنَّما تُرْفَعُ اليَدانِ بِالتَّكْبِيرِ لأَنَّ رَفْعَ الْيَدَينِ ضَرْبٌ مِنْ الابْتِهالِ وَالْتَبَتُّلَ وَالتَّضَرُّع فَأَحَبَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يكُونَ الْعَبْدُ فِي وَقْتِ ذِكْرِه لَهُ مُتَبَتِّلاً مُتَضَرِّعَاً وَلأَنَّ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ إِحْضارُ النِّيَةِ وَإقْبالُ الْقَلْبِ”[23]. وهذا الكلام يتطابق مع ما يقول بعض أهل المعرفة في فلسفة رفع اليدين لدى التكبير من إلقاء غير الله وراء ظهره، واقتلاع أشواك طريق الوصول إلى الحبيب، وجعل نفسه منقطعةً عن الغير وخالصةً مخلصةً له ـ من دون أدنى توجّه إلى الغير والغيرية الذي يُعدّ في مذهب العشّاق والمحبّين شركاً بالله سبحانه ـ ثم يبدأ معراجه الحقيقي الروحاني، والسفر إلى الله. وهذا السفر والمعراج لا يمكن أن يتحقّق من دون رفض الغير والغيرية وترك الذات والأنانية. كما أن مع التكبيرات السبعة الافتتاحية نخرق الحجب السبعة الملكية والملكوتية نهائياً. ففي كلّ تكبيرةٍ من التكبيرات السبعة من صلاة الأولياء خرقٌ لحجاب، ورفضٌ لعوالم ذلك الحجاب وللقاطنين فيه[24].
[1] للمزيد من الاطلاع راجع كتاب سرّ الصلاة حيث يشرح الإمام الخميني قدس سره العلاقة بين الأفعال الثلاثة وكل من التوحيد الأفعالي والصفاتي والذاتي في فصول: في أسرار القيام،في بعض أسرار الركوع، في سر السجود.
[2] الإمام الخميني، الآداب المعنوية للصلاة، الباب الخامس في نبذة من آداب الركوع وأسراره، الفصل الثاني، في آداب الانحناء الركوعي.
[3] الإمام الخميني، الآداب المعنوية للصلاة، الباب الثاني في القيام، الفصل الأول، في السر الاجمالي للقيام.
[4] الشيخ الكليني، الكافي، ج3، ص265.
[5] الإمام الخميني، الآداب المعنوية للصلاة، الباب الثاني، الفصل الأول، في السر الاجمالي للقيام.
[6] وضعاً: أي وضع وطريقة استقامة بدن المصلي ووقوفه أثناء قيام الصلاة.
[7] سورة الانفال، الآية 17.
[8] سورة فاطر، الآية 15.
[9] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج81، ص248.
[10] الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج 4، ص87.
[11] الإمام الخميني، الآداب المعنوية للصلاة، الباب الخامس، في نبذة من آداب الركوع وأسراره، الفصل الأول.
[12] الإمام الخميني، الآداب المعنوية للصلاة، الباب الخامس، في نبذة من آداب الركوع وأسراره، الفصل الثالث.
[13] سورة النمل، الآية 62.
[14] الإمام الخميني، الآداب المعنوية للصلاة، الفصل الثاني.
[15] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 82، ص 108.
[16] الإمام الخميني، الآداب المعنوية للصلاة، الباب السادس في الإشارة الإجمالية إلى أسرار السجود وآدابه،الفصل الأول.
[17] م.ن، الباب السادس في الإشارة الإجمالية إلى أسرار السجود،الفصل الثالث.
[18] راجع الإمام الخميني، الآداب المعنوية للصلاة، الباب السادس في الإشارة الإجمالية إلى أسرار السجود،الفصل الثالث.
[19] سورة الأحزاب، الآية 4.
[20] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 82، ص 136.
[21] سورة الكوثر، الآية 2.
[22] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 4، ص 46.
[24] الإمام الخميني، الأربعون حديثاً، الحديث التاسِع والعشرون: وصيّة النبي لعليّ بخصال، فصل: في بيان سر رفع اليدين.
2019-06-13