الرئيسية / القرآن الكريم / الميزان في تفسير القرآن سورة البقرة 152

الميزان في تفسير القرآن سورة البقرة 152

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ (152)

بيان

لما امتن الله تعالى على النبي و المسلمين، بإرسال النبي الكريم منهم إليهم نعمة لا تقدر بقدر و منحة على منحة – و هو ذكر منه لهم – إذ لم ينسهم في هدايتهم إلى مستقيم الصراط، و سوقهم إلى أقصى الكمال، و زيادة على ذلك، و هو جعل القبلة، الذي فيه كمال دينهم، و توحيد عبادتهم، و تقويم فضيلتهم الدينية و الاجتماعية فرع على ذلك دعوتهم إلى ذكره و شكره، ليذكرهم بنعمته على ذكرهم إياه بعبوديته و طاعته، و يزيدهم على شكرهم لنعمته و عدم كفرانهم، و قد قال تعالى «و اذكر ربك إذا نسيت و قل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا»: الكهف – 24.

و قال تعالى «لإن شكرتم لأزيدنكم»: إبراهيم – 7، و الآيتان جميعا نازلتان قبل آيات القبلة من سورة البقرة.

ثم إن الذكر ربما قابل الغفلة كقوله تعالى «و لا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا»: الكهف – 28.

و هي انتفاء العلم بالعلم، مع وجود أصل العلم، فالذكر خلافه، و هو العلم بالعلم، و ربما قابل النسيان و هو زوال صورة العلم عن خزانة الذهن، فالذكر خلافه، و منه قوله تعالى «و اذكر ربك إذا نسيت» الآية.

و هو حينئذ كالنسيان معنى ذو آثار و خواص تتفرع عليه، و لذلك ربما أطلق الذكر كالنسيان في موارد تتحقق فيها آثارهما و إن لم تتحقق أنفسهما، فإنك إذا لم تنصر صديقك – و أنت تعلم حاجته إلى نصرك فقد نسيته، و الحال أنك تذكره، و كذلك الذكر.

و الظاهر أن إطلاق الذكر على الذكر اللفظي من هذا القبيل، فإن التكلم عن الشيء من آثار ذكره قلبا، قال تعالى «قل سأتلوا عليكم منه ذكرا»: الكهف – 83.

و نظائره كثيرة، و لو كان الذكر اللفظي أيضا ذكرا حقيقة فهو من مراتب الذكر، لأنه مقصور عليه و منحصر فيه، و بالجملة: الذكر له مراتب كما قال تعالى «ألا بذكر الله تطمئن القلوب»: الرعد – 28، و قال «و اذكر ربك في نفسك تضرعا و خيفة و دون الجهر من القول»: الأعراف – 205، و قال تعالى «فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا: البقرة – 200، فالشدة إنما يتصف به المعنى دون اللفظ، و قال تعالى «و اذكر ربك إذا نسيت و قل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا»: الكهف – 24.

و ذيل هذه الآية تدل على الأمر برجاء ما هو أعلى منزلة مما هو فيه، فيئول المعنى إلى أنك إذا تنزلت من مرتبة من ذكره إلى مرتبة هي دونها، و هو النسيان، فاذكر ربك و ارج بذلك ما هو أقرب طريقا و أعلى منزلة، فينتج أن الذكر القلبي ذو مراتب في نفسه، و بذلك يتبين صحة قول القائل: إن الذكر حضور المعنى عند النفس، فإن الحضور ذو مراتب.

و لو كان لقوله تعالى: فاذكروني – و هو فعل متعلق بياء المتكلم حقيقة من دون تجوز أفاد ذلك، أن للإنسان سنخا آخر من العلم غير هذا العلم المعهود عندنا الذي هو حصول صورة المعلوم و مفهومه عند العالم، إذ كلما فرض من هذا القبيل فهو تحديد و توصيف للمعلوم من العالم، و قد تقدست ساحته سبحانه عن توصيف الواصفين، قال تعالى «سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين»: الصافات – 160، و قال: «و لا يحيطون به علما»: طه – 110، و سيجيء بعض ما يتعلق بالمقام في الكلام على الآيتين إن شاء الله.

بحث روائي

تكاثرت الأخبار في فضل الذكر من طرق العامة و الخاصة، فقد روي: بطرق مختلفة: أن ذكر الله حسن على كل حال.

و في عدة الداعي، قال: و روي: أن رسول الله قد خرج على أصحابه، فقال: ارتعوا في رياض الجنة، قالوا: يا رسول الله و ما رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر اغدوا و روحوا و اذكروا، و من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإن الله تعالى ينزل العبد حيث أنزل العبد الله من نفسه، و اعلموا: أن خير أعمالكم عند مليككم و أزكاها و أرفعها في درجاتكم، و خير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله تعالى، فإنه تعالى أخبر عن نفسه فقال: أنا جليس من ذكرني، و قال تعالى: فاذكروني أذكركم بنعمتي، اذكروني بالطاعة و العبادة أذكركم بالنعم و الإحسان و الراحة و الرضوان.

و في المحاسن، و دعوات الراوندي، عن الصادق (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى يقول: من شغل بذكري عن مسألتي، أعطيه أفضل ما أعطي من سألني.

و في المعاني، عن الحسين البزاز قال: قال: لي أبو عبد الله (عليه السلام) أ لا أحدثك بأشد ما فرض الله على خلقه؟ قلت: بلى قال، إنصاف الناس من نفسك، و مواساتك لأخيك، و ذكر الله في كل موطن، أما إني لا أقول: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر، و إن كان هذا من ذاك، و لكن ذكر الله في كل موطن، إذا هجمت على طاعته أو معصيته.

أقول: و هذا المعنى مروي بطرق كثيرة عن النبي، و أهل بيته (عليهم السلام)، و في بعضها و هو قول الله: الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون الآية.

و في عدة الداعي، عن النبي، قال: قال سبحانه: إذا علمت أن الغالب على عبدي الاشتغال بي، نقلت شهوته في مسألتي و مناجاتي، فإذا كان عبدي كذلك و أراد أن يسهو حلت بينه و بين أن يسهو، أولئك أوليائي حقا، أولئك الأبطال حقا، أولئك الذين إذا أردت أن أهلك أهل الأرض عقوبة زويتها عنهم من أجل أولئك الأبطال.

و في المحاسن، عن الصادق (عليه السلام) قال: قال الله تعالى: ابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، ابن آدم اذكرني في خلاء أذكرك في خلاء، اذكرني في ملإ أذكرك في ملإ خير من ملإك، و قال: ما من عبد يذكر الله في ملإ من الناس إلا ذكره الله في ملإ من الملائكة.

أقول: و قد روي هذا المعنى بطرق كثيرة في كتب الفريقين.

و في الدر المنثور، أخرج الطبراني و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: قال: رسول الله،: من أعطي أربعا أعطي أربعا، و تفسير ذلك في كتاب الله من أعطي الذكر ذكره الله، لأن الله يقول: اذكروني أذكركم، و من أعطي الدعاء أعطي الإجابة، لأن الله يقول: ادعوني أستجب لكم، و من أعطي الشكر أعطي الزيادة، لأن الله يقول: لئن شكرتم لأزيدنكم، و من أعطي الاستغفار أعطي المغفرة لأن الله يقول: استغفروا ربكم إنه كان غفارا.

و في الدر المنثور، أيضا أخرج سعيد بن منصور و ابن المنذر و البيهقي في شعب الإيمان عن خالد بن أبي عمران، قال: قال: رسول الله:، من أطاع الله فقد ذكر الله، و إن قلت صلاته و صيامه و تلاوته للقرآن، و من عصى الله فقد نسي الله، و إن كثرت صلاته و صيامه و تلاوته للقرآن.

أقول: في الحديث إشارة إلى أن المعصية لا تتحقق من العبد إلا بالغفلة و النسيان فإن الإنسان لو ذكر ما حقيقة معصيته و ما لها من الأثر لم يقدم على معصيته، حتى أن من يعصي الله و لا يبالي إذا ذكر عند ذلك بالله، و لا يعتني بمقام ربه هو طاغ جاهل بمقام ربه و علو كبريائه و كيفية إحاطته، و إلى ذلك تشير أيضا رواية أخرى، رواها الدر المنثور، عن أبي هند الداري، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قال الله: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي و من ذكرني و هو مطيع فحق علي أن أذكره بمغفرتي، و من ذكرني و هو عاص فحق علي أن أذكره بمقت الحديث، و ما اشتمل عليه هذا الحديث من الذكر عند المعصية هو الذي تسميه الآية و سائر الأخبار بالنسيان لعدم ترتب آثار الذكر عليه، و للكلام بقايا سيجيء شطر منها.

شاهد أيضاً

مكيال المكارم في فوائد الدعاء للقائم 14

الصادق جعفر بن محمد، ثم الكاظم موسى بن جعفر، ثم الرضا علي بن موسى، ثم التقي محمد بن ...