دروس منهجية في علوم القرآن
15 يناير,2018
القرآن الكريم, صوتي ومرئي متنوع
1,012 زيارة
الدرس الرابع
5- تنوع أساليب القرآن الكريم وبلوغه القمة في كل منها حيث نجد قمة البلاغة في السور ذوات الآيات القصار كما نجدها في ذوات الآيات الطوال، كذلك تشترك كل الآيات – بمضامينها المتنوعة – في الإبداع، سواء منها آيات الوعد والوعيد أم القصص أم التشريع أم مكارم الأخلاق أم العقائد وغيرها، بينما المعهود في الأدباء والبلغاء..
أولاً: أن يكون لإبداعهم مذاق واحد. فلكل شخص أسلوبه المتميز به، حتى ان النقّاد والباحثين يعتمدون على هذه النقطة في نسبة القصائد والنتاجات الأدبية لأصحابها الحقيقيين.
وثانياً: ان كلاّ منهم يحلّق في مساحة خاصّة، فقد قالوا في شعر امرىء القيس: “يحسن عند الطرب وذكر النساء وصفة الخيل”، وشعر النابغة “عند الخوف” وشعر الأعشى “عند الطلب ووصف الخمر”، وشعر زهير “عند الرغبة والرجاء”(1)، فكل شاعر يحسن كلامه في مجال فإنّه يضعف في غير ذلك، أمّا القرآن فإنّه بلغ الذروة بأساليبه المختلفة وفي مساحات شتّى. وهذا مما ينفي كونه إبداعاً بشرياً.
6- عدم الاضطراب في المحتوى، وتظهر أهمية هذه النقطة مع ملاحظة ما يلي..
أ: تشعب المواضيع والعلوم التي يتعرّض لها، حيث يشتمل على منظومة من العقائد والحِكَم ومكارم الأخلاق والقوانين، ويتضمّن القصص التاريخية وبعض الظواهر الكونية.. وغير ذلك.
ب: نزول كثير من الآيات أو أكثرها من دون تهيئة مسبقة، أو تبعاً لحدث طارئ أو سفر أو حرب أو نحو ذلك مما لا يسمح بالتمعّن ومراجعة النص السابق تجنّباً للوقوع في التناقض.
ج: تكرر الحديث عن نفس المواضيع التي سبق التعرض لها في فترات زمنية متباعدة مما يجعله معرضاً للاضطراب والتناقض – لو كان نتاجاً بشرياً – وعدم الاقتصار في الحديث عن الموضوع مرة واحدة.
د: صدوره من غير متعلم، إذ لم يعرف عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) اهتمامه بالدراسة والتعلم، فكيف يمكنه إبداع القرآن وما تضمّنه من علوم وتعاليم وغيرها، فهو يتحدّث عن السماء والأرض والتوحيد والأخلاق والتشريع والتاريخ وغير ذلك، والى هذا تشير الآية الكريمة: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾(2).
بعد ملاحظة هذه النقاط الأربع يتضح الوجه في كون عدم الاختلاف والاضطراب في القرآن دليلاً على ارتباطه بالله تعالى ومن أدلة إعجازه، كما أشارت إليه الآية الكريمة: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾(3).
والبعض ممن لم ينتبه لهذه الخصوصيات الأربع لم يتفهم وجه كونه دليلاً على الإعجاز، قال محمد عبدالعظيم الزرقاني: “ويلاحظ كذلك ان الاشتمال على الحِكَم البالغة، وعدم الاختلاف والتناقض بين معانيه لا يصلح واحد منها أن يكون وجهاً من وجوه الإعجاز، لأنّهما لا يخرجان عن حدود الطاقة بل كثيراً ما نجد كلام الناس مشتملاً على حِكَم وسليماً من التناقض والاختلاف”(4).
وما أدري كيف يفهم الزرقاني معنى هذه الآية الصريحة في جعل عدم الاختلاف في القرآن دليلاً على أنّه من الله تعالى لا من البشر، ويبدو أنّه أخذ عدم الاختلاف مجرداً عن الخصوصيات التي ذكرناها فلذلك لم يستوضح دلالته على الإعجاز.
ومن كلام للإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: “وذكر أنّ الكتاب يصدق بعضه بعضاً، وأنّه لا اختلاف فيه فقال سبحانه: ﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً﴾ “(5).
7 – إخباره بالمغيبات، ويتضح وجه دلالة هذا الشاهد على الإعجاز من خلال ملاحظة ما يلي:
أ: إنّ المتميّزين بالإخبار عن بعض الأمور الغيبية والعلوم الغريبة من الكهان ونحوهم كانوا بعدد الأصابع ومعروفين على مستوى الجزيرة العربية يراجعهم العرب ويحكّمونهم أحياناً في أمورهم، ولم يعرف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) انّه كان يرتاد أماكنهم ويختلط بهم، ولو كان قد استقى علومه الغيبية من أحد هؤلاء لفضحه هو ومن يختص بذلك الشخص.
خصوصاً انّهم كانوا بعيدين عن مكّة بحيث يُقصَدون بعناء، فليس من المعقول أن يرتاد على أحدهم شخص من أسرة معروفة متميّزة في مكة ويلازمه فترة طويلة من دون أن يعرف بذلك أحد حتى أقاربه وأهله، خاصةً أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان في كفالة عمه شيخ الأباطح أبي طالب الذي سببت دعوته له ولبني هاشم إحراجاً عظيماً، خسروا بسببها زعامتهم في قريش وعُزِلوا عن المجتمع المكّي وحوربوا على جميع الأصعدة، فلو كانوا قد اكتشفوا دجلاً منه من خلال ارتباطه بالكُهّان ونحوهم لنبذوه ولم يتحملوا المحنة العصيبة بسببه.
وقد تنبّه الكاتب الإنجليزي (هـ. ج. ويلز) لذلك حيث قال: “إنّ من أرفع الأدلة على صدق محمد كون أهله وأقرب الناس إليه يؤمنون به، فقد كانوا مطلعين على أسراره، ولو شكوا في صدقه لما آمنوا به”.
ب: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يحتجّ بتحقق إخباراته الغيبية لاثبات صدق دعواه الرسالة الالهية، فلم تجرّ إليه نفعاً ولم تدعم سلطانه حين تحققها، بل ان بعضها تحقق بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلّم)، مما يكشف يقيناً ان الإخبار بها لم يكن لمطامع دنيوية – كما يفعل الكهنة والمرتبطون بعالم الجن ونحوهم – مثل إخباره بغلبة الروم في المستقبل – في بضع سنين – واقتران ذلك بغلبة المسلمين ونصرهم، الأمر الذي لم يكن يخطر في بال أحد آنذاك، قال سبحانه وتعالى: ﴿ألم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(6)، فترى لسان الآية لسان الواثق المتيقّن الذي لا يقبل أي شك أو ترديد.
وبالفعل تحققت كل هذه النبوءات – غَلَبت الروم، في أقل من عشر سنوات، مقرونة بفرح المؤمنين بنصر الله في بدر الكبرى – ولم يُعَرف ان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) استثمر ذلك في مخاصمة المشركين وتقوية حجّته.
ومن آيات الغيب هذه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا﴾(7)، حيث روى جمع من المؤرخين والمفسرين – من الفريقين – نزول هذه الآية المكية في بني أمية(8)، حيث رآهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ينزون على منبره فاغتمّ لذلك فنزلت الآية الكريمة في مكة، فصدّقها الزمن بعد حين.
أترى مثل هذه الإخبارات الغيبية تتناسب مع إخبارات الكهنة ومن شابههم؟!
وهناك العديد من إخبارات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) – غير القرآنية – كانت من هذا القبيل حيث لم يستثمرها وإنّما شهد الزمن بصدقها فيما بعد، كإخباره بأنّ عماراً تقتله الفئة الباغية وانّ آخر شرابه ضياح من لبن، وكان هذا الحديث من الحقائق الثابتة تاريخياً حيث بلغ حداً من الانتشار بين المسلمين بحيث أحرج معاوية عند مقتل عمّار واضطرب جيش أهل الشام وكاد الأمر ينقلب عليه لولا حيلة صاحبه عمرو بن العاص حينما خدع رعاة أهل الشام بقوله: “إنما قتل عمّاراً من جاء به” محمّلاً الإمام علياً (عليه السلام) مسؤولية مقتله(9).
عوداً على الموضوع نقول: بملاحظة هاتين النقطتين يتضح كيف تكون تلك الإخبارات الغيبية شاهدة على إعجاز القرآن وارتباطه بالله تعالى.
1– التفسير الكبير: 2 116.
2– سورة العنكبوت: 48.
3– سورة النساء: 82.
4– مناهل العرفان، ج: 2 443.
5– نهج البلاغة،الخطبة: 18/61 تحقيق صبحي الصالح.
6– سورة الروم: 1 – 6.
7– سورة الإسراء: 60.
8– حكاه في الدر المنثور عن ابن جرير عن سهل بن سعد، وأيضاً عن ابن أبي حاتم عن ابن عمر، وأيضاً عن ابن ابي حاتم عن يعلى بن مرة، وأيضاً عن ابن مردويه عن الحسين بن علي، وأيضاً عن البيهقي في الدلائل وابن عساكر عن سعيد بن المسيب، وعن آخرين. ان المقصود من الشجرة الملعونة هم بنو أمية.
9– يراجع تأريخ الامم والملوك للطبري:3/27 و 29، وغيره.
2018-01-15