الرئيسية / صوتي ومرئي متنوع / أفضل الاَعمال بعد معرفة العقائد

أفضل الاَعمال بعد معرفة العقائد

أن الجاهل بها عن نظر واستدلال خارج عن ربقة الاِيمان مستحق للعذاب الدائم . وهو في غاية الاِشكال .
نعم يمكن أن يقال : إن مقتضى عموم وجوب المعرفة ، مثل قوله تعالى : وما خلقت الجن والاِنس إلا ليعبدون ، أي ليعرفون . وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : وما أعلم بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس ، بناء على أن الاَفضلية من الواجب ، خصوصاً مثل الصلاة ، تستلزم الوجوب .

وكذا عمومات وجوب التفقه في الدين الشامل للمعارف بقرينة استشهاد الاِمام عليه السلام بها ، لوجوب النفر لمعرفة الاِمام بعد موت الاِمام السابق عليه السلام وعمومات طلب العلم هو وجوب معرفة الله جل ذكره ومعرفة النبي صلى الله عليه وآله والاِمام عليه السلام ومعرفة ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم على كل قادر يتمكن من تحصيل العلم ، فيجب الفحص حتى يحصل اليأس ، فإن حصل العلم بشيء من هذه التفاصيل اعتقد وتدين به ، وإلا توقف ولم يتدين بالظن لو حصل له .

ومن هنا قد يقال : إن الاِشتغال بالعلم المتكفل لمعرفة الله ومعرفة أوليائه صلوات الله عليهم أهم من الاِشتغال بعلم المسائل العلمية بل هو المتعين ، لاَن العمل يصح عن تقليد ، فلا يكون الاِشتغال بعلمه إلا كفائياً بخلاف المعرفة .
هذا ، ولكن الاِنصاف ممن جانب الاِعتساف يقتضي الاِذعان بعدم التمكن من ذلك إلا للاَوحدي من الناس ، لاَن المعرفة المذكورة لا تحصل إلا بعد تحصيل قوة استنباط المطالب من الاَخبار وقوة نظرية أخرى لئلا يأخذ بالاَخبار المخالفة للبراهين العقلية ، ومثل هذا الشخص مجتهد في الفروع قطعاً ، فيحرم عليه التقليد . ودعوى جوازه له للضرورة ليس بأولى من دعوى جواز ترك الاِشتغال بالمعرفة التي لا تحصل غالباً بالاَعمال المبتنية على التقليد .
هذا إذا لم يتعين عليه الاِفتاء والمرافعة لاَجل قلة المجتهدين . وأما في مثل زماننا فالاَمر واضح .

( 201 )
فلا تغتر حينئذ بمن قصر استعداده أو همته عن تحصيل مقدمات استنباط المطالب الاِعتقادية الاَصولية والعلمية عن الاَدلة العقلية والنقلية ، فيتركها مبغضاً لها لاَن الناس أعداء ما جهلوا ، ويشتغل بمعرفة صفات الرب جل ذكره وأوصاف حججه صلوات الله عليهم بنظر في الاَخبار لا يعرف به من ألفاظها الفاعل من المفعول ، فضلاً عن معرفة الخاص من العام . وبنظر في المطالب العقلية لا يعرف به البديهيات منها ، ويشتغل في خلال ذلك بالتشنيع على حملة الشريعة العملية واستهزائهم بقصور الفهم وسوء النية ، فيسأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون . هذا كله حال وجوب المعرفة مستقلاً .

وأما اعتبار ذلك في الاِسلام أو الاِيمان فلا دليل عليه ، بل يدل على خلافه الاَخبار الكثيرة المفسرة لمعنى الاِسلام والاِيمان .
ففي رواية محمد بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام المروية في الكافي : إن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمكة عشر سنين ، ولم يمت بمكة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إلَه إلا الله وأن محمداً رسول الله ، إلا أدخله الله الجنة بإقراره وهو إيمان التصديق .

فإن الظاهر أن حقيقة الاِيمان التي يخرج الاِنسان بها عن حد الكفر الموجب للخلود في النار لم تتغير بعد انتشار الشريعة . نعم ظهر في الشريعة أمور صارت ضرورية الثبوت من النبي صلى الله عليه وسلم ، فيعتبر في الاِسلام عدم إنكارها .
لكن هذا لا يوجب التغيير ، فإن المقصود أنه لم يعتبر في الاِيمان أزيد من التوحيد والتصديق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبكونه رسولاً صادقاً فيما يبلغ . وليس المراد معرفة تفاصيل ذلك ، وإلا لم يكن من آمن بمكة من أهل الجنة أو كان حقيقة الاِيمان بعد انتشار الشريعة غيرها في صدر الاِسلام .

وفي رواية سليم بن قيس عن أمير المؤمنين عليه السلام : إن أدنى ما يكون به العبد مؤمناً
( 202 )
أن يعرفه الله تبارك وتعالى إياه فيقر له بالطاعة ، ويعرفه نبيه فيقر له بالطاعة ، ويعرفه إمامه وحجته في أرضه وشاهده على خلقه فيقر له بالطاعة .
فقلت له : يا أمير المؤمنين ! وإن جهل جميع الاَشياء إلا ما وصفت قال : نعم . وهي صريحة في المدعى .
وفي رواية أبي بصير عن أبي عبدالله عليه السلام قال : جعلت فداك ، أخبرني عن الدين الذي افترضه الله تعالى على العباد ما لا يسعهم جهله ولا يقبل منهم غيره ، ما هو ؟ فقال : أعده علي ، فأعاد عليه ، فقال : شهادة أن لا إلَه إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً ، وصوم شهر رمضان ، ثم سكت قليلاً ، ثم قال : والولاية والولاية ، مرتين ثم قال : هذا الذي فرض الله عز وجل على العباد ، لا يسأل الرب العباد يوم القيامة ، فيقول : ألا زدتني على ما افترضت عليك ، ولكن من زاد زاده الله . إن رسول الله صلى الله عليه وآله سن سنة حسنة ينبغي للناس الاَخذ بها .

ونحوها رواية عيسى بن السري ، قلت لاَبي عبد الله عليه السلام : حدثني عما بنيت عليه دعائم الاِسلام التي إذا أخذت بها زكى عملي . . . .
وفي رواية أبي اليسع قال قلت لاَبي عبد الله عليه السلام أخبرني عن دعائم الاِسلام التي لا يسع أحداً التقصير عن معرفة شيء منها . . . . ( وقد أوردنا الروايتين في بحث معرفة الاِمام )
وفي رواية إسماعيل : قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن الدين الذي لا يسع العباد جهله فقال : الدين واسع ، وإن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهلهم .
فقلت : جعلت فداك أما أحدثك بديني الذي أنا عليه . فقال : بلى . قلت : أشهد أن لا إلَه إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، والاِقرار بما جاء به من عند الله ، وأتولاكم وأبرأ من عدوكم ومن ركب رقابكم وتأمر عليكم وظلمكم حقكم . فقال : ما جهلت شيئاً . فقال : هو والله الذي نحن عليه . فقلت : فهل يسلم أحد لا يعرف هذا الاَمر .

( 203 )
قال : لا إلا المستضعفين . قلت : من هم قال : نساؤكم وأولادكم . قال : أرأيت أم أيمن! فإني أشهد أنها من أهل الجنة ، وما كانت تعرف ما أنتم عليه .
فإن في قوله ( ما جهلت شيئاً ) دلالة واضحة على عدم اعتبار الزائد في أصل الدين . والمستفاد من الاَخبار المصرحة بعدم اعتبار معرفة أزيد مما ذكر فيها في الدين ، وهو الظاهر أيضاً من جماعة من علمائنا الاَخيار كالشهيدين في الاَلفية وشرحها ، والمحقق الثاني في الجعفرية ، وشارحها وغيرهم ، وهو أنه يكفي في معرفة الرب التصديق بكونه موجوداً وواجب الوجود لذاته والتصديق بصفاته الثبوتية الراجعة إلى صفتي العلم والقدرة ونفي الصفات الراجعة إلى الحاجة والحدوث ، وأنه لا يصدر منه القبيح فعلاً أو تركاً .
والمراد بمعرفة هذه الاَمور ركوزها في اعتقاد المكلف ، بحيث إذا سألته عن شيء مما ذكر أجاب بما هو الحق فيه ، وإن لم يعرف التعبير عنه بالعبارات المتعارفة على ألسنة الخواص .

ويكفي في معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم معرفة شخصه بالنسب المعروف المختص به ، والتصديق بنبوته وصدقه ، فلا يعتبر في ذلك الاِعتقاد بعصمته ، أعني كونه معصوماً بالملكة من أول عمره إلى آخره . قال في المقاصد العلية : ويمكن اعتبار ذلك ، لاَن الغرض المقصود من الرسالة لا يتم إلا به ، فينتفي بالفائدة التي باعتبارها وجب إرسال الرسل . وهو ظاهر بعض كتب العقائد المصدرة بأن من جهل ما ذكروه فيها فليس مؤمناً مع ذكرهم ذلك ، والاَول غير بعيد عن الصواب . انتهى .
أقول : والظاهر أن مراده ببعض كتب العقائد هو الباب الحادي عشر للعلامة قدس سره حيث ذكر تلك العبارة ، بل ظاهره دعوى إجماع العلماء عليه .

نعم يمكن أن يقال : إن معرفة ما عدا النبوة واجبة بالاِستقلال على من هو متمكن منه بحسب الاِستعداد وعدم الموانع ، لما ذكرنا من عمومات وجوب التفقه وكون المعرفة أفضل من الصلوات الواجبة ، وأن الجهل بمراتب سفراء الله جل ذكره مع
( 204 )
تيسر العلم بها تقصير في حقهم وتفريط في حبهم ونقص يجب بحكم العقل رفعه ، بل من أعظم النقائص .
وقد أومأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك حيث قال مشيراً إلى بعض العلوم الخارجة من العلوم الشرعية : إن ذلك علم لا يضر جهله . ثم قال : إنما العلوم ثلاثة ، آية محكمة وفريضة عادلة وسنة قائمة ، وما سواهن فهو فضل .
وقد أشار إلى ذلك رئيس المحدثين في ديباجة الكافي ، حيث قسم الناس إلى أهل الصحة والسلامة وأهل المرض والزمانة ، وذكر وضع التكليف عن الفرقة الاَخيرة .

ويكفي في معرفة الاَئمة صلوات الله عليهم ، معرفتهم بنسبهم المعروف والتصديق بأنهم أئمة يهدون بالحق ويجب الاِنقياد إليهم والاَخذ منهم . وفي وجوب الزائد على ما ذكر من عصمتهم الوجهان . وقد ورد في بعض الاَخبار تفسير معرفة حق الاِمام بمعرفة كونه إماماً مفترض الطاعة .
ويكفي في التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم التصديق بما علم مجيؤه به متواتراً من أحوال المبدأ والمعاد ، كالتكليف بالعبادات والسؤال في القبر وعذابه والمعاد الجسماني والحساب والصراط والميزان والجنة والنار إجمالاً ، مع تأمل في اعتبار معرفة ما عدا المعاد الجسماني من تلك الاَمور في الاِيمان المقابل للكفر الموجب للخلود في النار ، للاَخبار المتقدمة المستفيضة والسيرة المستمرة ، فإنا نعلم بالوجدان جهل كثير من الناس بها من أول البعثة إلى يومنا هذا . ويمكن أن يقال : إن المعتبر هو عدم إنكار هذه الاَمور وغيرها من الضروريات ، لا وجوب الاِعتقاد بها ، على ما يظهر من بعض الاَخبار ، من أن الشاك إذا لم يكن جاحداً فليس بكافر . ففي رواية زرارة عن أبي عبدالله عليه السلام : لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا . ونحوها غيرها . ويؤيدها ما عن كتاب الغيبة للشيخ قدس سره بإسناده عن الصادق عليه السلام : إن
( 205 )
جماعة يقال لهم الحقية ، وهم الذين يقسمون بحق علي ولا يعرفون حقه وفضله ، وهم يدخلون الجنة .

وبالجملة ، فالقول بأنه يكفي في الاِيمان الاِعتقاد بوجود الواجب الجامع للكمالات المنزه عن النقائص وبنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبإمامة الاَئمة عليهم السلام والبراءة من أعدائهم ، والاِعتقاد بالمعاد الجسماني الذي لا ينفك غالباً عن الاِعتقادات السابقة غير بعيد ، بالنظر إلى الاَخبار والسيرة المستمرة .
وأما التدين بسائر الضروريات ففي اشتراطه ، أو كفاية عدم إنكارها ، أو عدم اشتراطه أيضاً ، فلا يضر إنكارها إلا مع العلم بكونها من الدين وجوه ، أقواها الاَخير ثم الاَوسط . وما استقربناه في ما يعتبر في الاِيمان وجدته بعد ذلك في كلام محكي عن المحقق الورع الاَردبيلي في شرح الاِرشاد .

18664277_444172985918259_4738673754454498750_n

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...