الوقت- شهدت الحرب السورية على مدار أعوامها الـ7 الماضية أساليب جديدة في القتال، استخدمت فيها أسلحة متطورة عديدة، لكن أساليب الحرب القديمة كانت حاضرة أيضاً، ولعل حرب الأنفاق واحدة من هذه التكتيكات التي ظهرت بعض ملامحها جليّة بعد سيطرة الجيش السوري على الغوطة الشرقية والكشف عن مدينة أنفاق تحت الأرض.
حرب الخنادق ورغم قدمها، إلا أن جديدها في سوريا هو طريقة استخدامها فيما يعرف بـ”حرب العصابات” من أجل تفادي الرصد والوقاية من الضربات الجوية وبغية التخفي والقدرة على التواصل بعيداً عن أنظار الخصم، فضلاً عن القدرة على الوصول لمناطق تحت سيطرة الطرف الآخر، والوصول لأهداف حيوية كما حدث في مستشفى القصير بداية الحرب السورية.
ورغم أننا لا يمكن أن نقول إن الحرب في سوريا وضعت أوزارها بشكل كامل، لكن على الأقل هناك مناطق واسعة كانت قد خرجت عن سيطرة الدولة السورية منذ سنوات وتم تحريرها منذ فترة قريبة بعد أن تم محاصرتها ودخول الجيش إليها في نهاية المطاف إما حرباً أو سلماً (عن طريق اتفاقات المصالحة)، وإن بقاء ومقاومة الجماعات الإرهابية المسلحة في هذه المناطق قبل تحريرها، ورغم حصارها المطبق، وقدرتها على استلام الأسلحة والإمدادات بمختلف أشكالها وحتى القوات الجديدة، بقي سرّاً، إلا أن الصور لاحقاً أظهرت أن شبكة الأنفاق العملاقة هي ما عززت من قدرة الإرهابيين، فرغم حصارهم من فوق الأرض، كانت الحركة تحت الأرض ميسّرة لهم.
وكواحدة من مخلّفات الحرب في سوريا، والتي لم تحظَ بتغطية إعلامية كبيرة رغم أهميتها، هي قضية بناء الأنفاق ولا سيما في الغوطة الشرقية ومدينة دوما على وجه التحديد، إذ أظهرت الصور القادمة من المدينة السورية شبكة أنفاق عملاقة ربما أضخم من “مترو الأنفاق” في بعض الدول وكأن تحت الأرض مدينة أخرى، مجهزة بوسائل التنقل الخاصة بالسيارات وغرف العمليات والتحصين.
فمن يزور مدينة دوما حالياً ورغم حجم الدمار الهائل فوق الأرض بسبب ما خلّفه “جيش الإسلام” الذي قام بتفخيخ الأبنية والدوائر الحكومية التي كان يستخدمها لمصلحته، إلا أن السر في باطن الأرض، فهناك مدينة كبيرة مصممة بطريقة تجعل الناظر إليها يشعر وكأنه في بلاد العجائب حيث الأنفاق ضخمة مجهزة بتقنيات حديثة من حيث الكهرباء والاتصالات ومرور السيارات، بالإضافة إلى وجود نظام إضاءة كامل، وأماكن لتصنيع الأسلحة والقذائف التي كانت تنهال على العاصمة دمشق ليل نهار، ويبدو واضحاً إتقان بناء هذه الأنفاق من تصميم الهياكل بطريق هندسية متقنة وتحت إشراف أخصائيين كذلك سرعة تنفيذ العمل والبناء في وقت قصير بسبب الحساسيات في هذا المجال.
وبحسب الوثائق التي حصل عليها الجيش السوري مما يسمى هيئة الأشغال والخدمات العسكرية لـ“جيش الإسلام” في مناطق مختلفة من الغوطة الشرقية، فإن عدد الأنفاق في قطاع الريحان وصل إلى 13 نفقاً بطول 15000 متر للنفق الواحد كما وصلت سماكة سقف الخندق إلى55 سم، أما في منطقة الأعطلة فقد وصل عدد الأنفاق إلى 7 أنفاق ولم تتوفر معلومات عن أطوالها وفي حوش الضواهرة وصل عدد الخنادق إلى 8 خنادق بطول 294 متراً للخندق ووصل سقف الخندق إلى 35 سم أما قطاع دوما فيوجد 26 خندقاً بطول 832،66 متراً للخندق الواحد كما وجد 118 نفقاً وفي النشابية وما حولها يوجد 9 أنفاق بطول 724 متراً للنفق الواحد ويوجد 18 نفقاً في أوتابا و222 خندق جر ويوجد 24 خندقاً في حوش نصري وفي الشيفونية يوجد 22 خندقاً، كما يوجد 9 خنادق في تل فرزات ولا تتوافر معلومات عنها، بينما تم العثور على 50 خندقاً في كرم الرصاص و11 خندقاً في منطقة أبو غسان و18 خندقاً في أكساد.
واللافت أيضاً في هذه الأنفاق أنها بينت بجهود السوريين (مدنيين وعسكريين) والمؤيدين للدولة السورية الذين تم أسرهم في بداية سقوط هذه المناطق بيد الجماعات الإرهابية المسلحة، حيث تشير الوثائق الخاصة بـ”جيش الإسلام” أن أكثر من 500 أسير جرى استغلالهم لبناء هذه الأنفاق وقد قضى بعضهم خلال الحفر نتيجة ظروف العمل القاسية.
ولم يقتصر بناء الأنفاق خلال الحرب السورية على مدينة دوما والمناطق التي كانت خاضعة لجيش الإسلام، بل تظهر الصور أيضاً أن فيلق الرحمن الذي كان يسيطر على مناطق واسعة من الغوطة الشرقية بنى أيضاً شبكة الأنفاق الخاصة به بعضها قدر طوله بحوالي 10 كيلومترات وعمقه حوالي 30 متراً.
كذلك في منطقة عفرين شمال سوريا وبعد استيلاء القوات التركية وميلشياتها على المدينة نشرت عدداً من الصور ومقاطع الفيديو التي تظهر اعتماد الأكراد حرب الخنادق والأنفاق تحت الأرض في هذه المناطق.
إذاً وكما هو واضح فإن حفر الأنفاق وحرب الخنادق في الحرب السورية كان ضمن حسابات الحرب المهمة، والتي كانت تؤخذ على محمل الجدّ من قبل الجماعات الإرهابية ومؤيديها، وخصصت هذه الجماعات وقتاً كبيراً أملاً في حمايتها من أي تقدم للجيش السوري إلى المناطق التي احتلوها منذ أعوام، وما ذكرناه في هذا المقال يشكل جزءاً صغيراً من مجمل ما تم إنشاؤه من خنادق وأنفاق تم من خلال جماعات ذات تعليم مدني وقسم كبير منها لا يعرف الهندسة المدنية ولم يسمع مطلقاً عن قسم التشييد وبناء الأنفاق والجسور ولكن ورغم الاختلاف معهم من حيث الهدف من الإنشاء واستراتيجيات الإرهابيين في الهجوم والدفاع من خلال هذه الأنفاق، إلا أن العمل كان لافتاً ومميزاً بكل صدق.