الرئيسية / تقاريـــر / أميركا نمر من ورق.. اياد زيعور

أميركا نمر من ورق.. اياد زيعور

أميركا نمر من ورق.. للاستاذ الجامعي اللبناني اياد زيعور نشرت في جريدة الأخبار اللبنانية

فلنقم سوية بهذه التجربة عزيزي القارئ: أبحث حولك أو فتش في ذاكرتك عن آخر مرة اشتريت فيها بضاعة كتب عليها «صنع في أميركا». إذا لم تكن تدخّن سجائر مارلبورو فلا بد أنه قد مر وقت طويل على ذلك. وحتى إذا كنت تستعمل هاتفاً من شركة آبل الأميركية فتأكد أنه صنع في الصين كما معظم الإلكترونيات التي تستعملها أو الثياب التي تلبسها.

ولكن لحظة قبل أن تتعجل بالاستنتاج بأنك أصبحت غير محتاج إلى الصناعة الأميركية عليك أن تفتش جيداً، جرّب في محفظتك مثلاً. نعم إنها تلك الأوراق الخضراء… لقد صُنعت في أميركا بالفعل لأنها عملتها، وهي ربما أهم الأشياء التي لا تزال تحتاج إليها من تلك البلاد.
الصورة التي نملكها عن أميركا بأنها مركز الصناعة والتكنولوجيا في الكوكب هي صورة محلها التاريخ، ولكن ليس التاريخ البعيد. فمع نهاية الحرب العالمية الثانية خرجت مصانع أوروبا واليابان مدمرة بينما كانت المصانع الأميركية في أحسن حالاتها خصوصاً بعد النمو الهائل بسبب العقود العسكرية الضخمة أثناء الحرب. من نهاية الحرب الثانية إلى بداية السبعينيات عاشت أميركا أيامها الذهبية حتى أطلق على تلك المرحلة في الأدبيات الاقتصادية «العصر الذهبي للرأسمالية». لا بد أنه للذين عاشوا في تلك المرحلة حتى في بلادنا، كان البراد عندهم ماركة «أدميرال» والسيارة «جي أم» والتلفاز «جي اي» وأنه باستثناء بعض المنافسة الأوروبية الهزيلة لم تكن إلا المصانع الأميركية تنتج للعالم.
ولم يدم الأمر طويلاً حتى استعادت اليابان عافيتها في بداية السبعينيات لتنتزع الريادة في صناعة السيارات والالكترونيات. وفي منتصف الثمانينيات دخل لاعب أكبر وأخطر بكثير على الساحة الصناعية ما زال إلى اليوم في عز نموه، إنه الصين. في عام 2007 وصل الإنتاج الصناعي الصيني إلى 62% من قيمة نظيره الأميركي وفي عام 2011 تخطاه ليصبح 120% وحتى على المستوى التجاري العام، بلغ حجم التجارة العالمية للصين 4.2 ترليون دولار متخطياً أميركا للمرة الأولى عام 2013.
هذا التحول هو الانتقال الأسرع في التاريخ الاقتصادي المعروف للقوة الصناعية ما بين دولتين. وعدا عن التطور في قيمة المنتجات الصناعية، تطورت التكنولوجيا الصينية في الصناعة حتى أصبحت بعض الصناعات غير ممكنة خارج الصين. فلو أرادت شركة آبل مثلاً العودة إلى أميركا لإنتاج هاتفها فهي لن تقدر على ذلك لأن البنية الصناعية الصينية قد كبرت بشكل يصعب منافسته أو تجاوزه.
هذا الانتقال السريع للقوة الصناعية إلى الصين قد حدث بسرعة أكثر بكثير من قدرة الوعي الفردي أو الجماعي على إدراكه. ففي ذهني وذهنك ما زالت الصين بلداً فقيراً تصنع الأشياء الرخيصة والرديئة، بينما هي في الواقع بلد يتمتع بأفضل بنية تحتية وصناعية على وجه الأرض. وما من مكان تظهر هذه الفجوة بين الوعي والحقيقة أكثر وضوحاً من ما هو موجود في النظام المالي العالمي، وبالخصوص في ما يتعلق بالدولار الأميركي.
الدولار رأس العملات الصعبة بلا منازع. هو المنتج الأميركي الوحيد الذي لم يتراجع الطلب عليه. ولكن لماذا نحتاج إلى الدولار؟ يقول التبرير الاقتصادي الأول إن ما من بلد يمكن أن ينتج كل ما يحتاج إليه، وعليه فإنه سيحتاج إلى عملات الآخرين لشراء الأشياء التي لا ينتجها. وإذا لم يكن لديه ما يكفي من الأشياء ليبيعها لهم بعملته تصبح عملتهم صعبة. وبما أن أميركا كان عندها كل ما يريد باقي العالم شراءه، كان الدولار هو العملة التي سيقبلها أيّاً كان في هذا العالم. وعليه فإنه كان من الطبيعي جداً لسنوات طويلة أن تحتاج إلى الدولار أيام كان إنتاج العالم الصناعي يخرج من أميركا، ولكنه لم يعد مفهوماً الآن ضرورة استمرار هذا الأمر.
أما التبرير الاقتصادي الثاني فيقول إنّ العملة قد ظهرت أصلاً لتسهيل التبادل. فإذا كان عندك بقرة وتريد أن تشتري بيضة من بائع ورغيف خبز من بائع آخر فسيكون من الصعب عليك إتمام المبادلة. بينما لو حولت البقرة إلى كمية من المال المعترف به من الطرفين فسيسهل عليك الحصول على ما تحتاج. وجود عملة موحدة سيسهّل التبادل لأن العملة هي رقم، والرقم يسهل قسمته وجمعه نسبة إلى قسمة وجمع البقرة مثلاً. وعندما تكون التجارة عالمية فيجب أن يكون هناك عملة معترف بها حول العالم ولطالما كان الذهب هو هذه العملة ولكن حتى الذهب هو شيء لا يسهل قسمته وجمعه.

القدرة الحسابية وعالمية
القبول الذي يؤمّنه الدولار
والنظام المصرفي العالمي
أصبح ممكناً تعويضه

وليست التقنية الحسابية بالأمر القليل. فبالنسبة إلى المؤرخ نيل فيرغسون، شكّل كتاب «ليبر أبتشي» في بداية القرن الثالث عشر للعالم الإيطالي «فيبوناتشي» بداية النظام العالمي المالي الحالي لأنه برهن كيف يمكن لنظام الأرقام العربي أن يسمح بحساب الفوائد والتحويل بين العملات والمعادن، وهو أمر كان شبه مستحيل من قبل باستعمال الأرقام الرومانية السائدة في إيطاليا آنذاك. وهذا يكون الرقم العربي هو ما سمح بإنشاء أول مصرف حقيقي في العالم وهو مصرف عائلة ميديتشي.
ولكن حتى هذا التبرير الثاني قد أصبح أيضاً من التاريخ. فالقدرة الحسابية وعالمية القبول الذي يأمنه الدولار والنظام المصرفي العالمي أصبح ممكناً تعويضه بفضل تقنيات الحوسبة والتواصل الجديدة. فأنت تستطيع مثلاً أن تشتري بهاتفك المحمول (أصبح من فترة ممكناً الشراء بواسطة الهاتف من دون عملات ورقية أو بطاقات اعتماد) قطعة ترانزيستور من الصين مقابل تفاحة قطفتها في لبنان وبعتها في الكويت، والصيني الذي باعك الترانزيستور ربما سيحصل بالنهاية على بعض قطرات الوقود الكويتي في سيارته.
ومن الأمثلة الأخرى لظهور البدائل الحسابية – التواصلية للعملات هو ظهور وتوسع العملات الرقمية مثل Bitcoin، وهي عملات نظرية تعيش بالكامل في عالم الإنترنت وتنتجها معادلات رياضية على الحواسيب بدلاً من البنوك المركزية للدول. الاحتمالات الحسابية مفتوحة بقدر ما يكون هناك إرادة وإبداع، فالهاتف الذي تحمله في يدك هو حسابياً متفوق على ذاك الكمبيوتر في حاملة الطائرات الأميركية خلال الستينيات والذي كان بحجم غرفة.
العصا الاقتصادية الأميركية هي في الأغلب عصا حسابية تواصلية. فلننظر إلى مثال العقوبات الاقتصادية القاسية والطويلة التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران. لم تعانِ إيران من أي نقص مزعج من حرمانها من البضائع الأميركية (باستثناء في الطيران المدني وهو أمر كان غير ممكن لولا الضعف الأوروبي والتأخر الصيني الذي تعمل على معالجته بسرعة قياسية). الألم الحقيقي الذي أصاب إيران كان في النظام المصرفي، وبالتحديد كان بسبب إخراجها من نظام سويفت SWIFT مما أصاب تجارتها بشلل شبه كامل.
السويفت هو باختصار نظام لتبادل الرسائل بين البنوك. بمعنى آخر هو أمر شبيه بالبريد الإلكتروني مع بعض الإضافات في مجال الأمان والمكننة. وعليه فإن كل المراسلات اللازمة للتجارة بين المصارف العالمية تتم عبر هذا النظام. شكّل السويفت عند إنشائه عام 1974 قفزة تقنية كبيرة في القدرات الحسابية – التواصلية لأنه حل محل التيليكس الورقي (لمن لا يذكر التيليكس فهو نسخة رديئة من الفاكس). ومن الناحية التقنية استعمل السويفت نظام اتصالات شبيه بالانترنت الحالية، وكان ذلك أمراً ثورياً آنذاك لأنه ظهر قبل وقت طويل من ظهور الإنترنت (خارج الأوساط العسكرية الأميركية). ولكن اليوم مع انتشار الإنترنت أصبح السويفت منتج سهل منافسته تقنياً وهو أمر قامت به بالفعل شركة كندية تدعى RIPPLE.COM.
وإذا نظرنا من الناحية الاقتصادية والقانونية فإن أميركا يجب أن لا تتمتع بأيّ نفوذ استثنائي على السويفت، ولكن على الأغلب فإن هذا النفوذ يأتي من البلطجة على الشركاء الضعفاء مثل الأوروبيين. فرغم أن السويفت هو مملوك من قبل شركة بلجيكية فإن الهيمنة الأميركية عليه شاملة، لدرجة أنه في عام 2012 قامت الولايات المتحدة بمصادرة حوالة مالية بين ضابط شرطة دنماركي وشركة ألمانية لتسديد ثمن شحنة من السيجار الكوبي. ومع أن الحوالة تمت بين دولتين في الاتحاد الأوروبي لتجارة شرعية بالكامل حسب قوانين هاتين الدولتين، فإن المصادرة تمت بعنوان سخيف هو مخالفة قانون أميركي للعقوبات على كوبا. ورغم تدخل وزير الخارجية الدنماركي فإن ضابط الشرطة لم يستطع أبداً استعادة أمواله. وليست هذه الحالة إلا مثالاً على الطريقة المتعجرفة التي تعامل فيها أميركا الأوروبيين، مثل إجبارها لمصارف سويسرا على كسر قوانين السرية المصرفية أو فرض عقوبات ضخمة على شركاتها (9 مليارات دولار على مصرف باريبا لتعاونه مع إيران) لقيامها بأمور شرعية على حسب قوانين بلادها.
إضافة إلى ذلك تقوم الولايات المتحدة بالتنصت على كل المراسلات الداخلية لهذا النظام وتحصل على كل المعلومات الشخصية للمتعاملين بعنوان مكافحة الإرهاب في مخالفة واضحة لكل القوانين الأوروبية. والغريب هو العجز السياسي المستمر لأوروبا عن وقف هذا التحدي للحقوق المدنية الأوروبية وفشل كل مساعي البرلمان الأوروبي في معالجة هذه المشكلة.
ومما يثبت أن هذه الهيمنة الأميركية هي سياسية وليست تقنية أو اقتصادية هو التردد الكبير الذي أصاب الغرب حين حاول استعمال هذا السلاح في وجه روسيا أو في وجه الصين، لأن كليهما قد حضّر البديل من نظام السويفت (نظام CIPS الصيني وSPFS الروسي) وهو ما تخشاه أميركا بشدة.
تمثل اليوم أميركا وضع متنمر قوي قد استنفد شبابه ولكنه مع ذلك ما زال يستعمل سمعته ليرهب خصومه. أميركا القوة الصناعية انتهت وأصبح اقتصادها اقتصاد خدمات بمعظمه (حالياً 80% خدمات و20% زراعة وصناعة). ورغم انتهاء الأسباب الموضوعية للهيمنة الاقتصادية الأميركية بسبب انتشار تكنولوجيا الاتصالات وانتقال القوة الصناعية إلى آسيا، فإن هذه الهيمنة مستمرة ربما لأن أحداً من اللاعبين الكبار لم يأخذ قراراً بتغيير الستاتيكو. العملة الخضراء والنظام المصرفي العالمي، أداتا أميركا الغليظتان. هما هكذا ما دام أحداً لم يقدم على تجاوزهما. يحتاج الأمر إلى قليل من الإبداع والكثير من الإرادة لتمزيق هذا النمر الورقي.
ولحماية هذا السلاح الهشّ تستعمل أميركا أدوات التلاعب بالعقول وصناعة الوهم من خلال ماكيناتها الإعلامية والثقافية لإقناع الآخرين بأنهم لا يستطيعون أن يستغنوا عن عملتها أو عن مصارفها. هذا التنمر والاستعلاء هو ديدن المستعمر الدائم. في فيلم الحريق (Burn) لمارلون براندو (1969)، يتوجه الأخير «لصديقه» خوسيه الثائر الكاريبي الأسمر الذي قاد ثورة ناجحة لطرد المستعمر البريطاني ناصحاً إياه بأن يسلم اقتصاد بلاده للتجار الإنكليز قائلاً:
«خوسيه… هل تعرف سعر السكر في بورصة لندن؟ كيف ستبيع محصول بلادك؟ من سيدير قطاعاتك؟ الحضارة هي أمر معقد وهي ليست لك بل للرجل الأبيض».
بالفعل الحضارة أمر معقد… لمن لا يجيد ألاعيبها.
* أستاذ جامعي

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...