أدب الدعاء في الإسلام – اية الله الجلالي
14 نوفمبر,2018
صوتي ومرئي متنوع, طرائف الحكم
831 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله و صلى الله على سادتنا محمد و آله الأطهار.
1- حقيقة الدعاء و الأدعية المأثورة
إن الدعاء ـ في حقيقته ـ يمثل المعاني القيمة، التي تتبلور في نفس الداعي، و يستتبع التوجه العميق إلى الذات الإلهية، فالفناء في وجوده الواجب، ثم الرجوع إلى عالم المادة، لأداء مهمة الروح العليا، روح العدالة و الحق و الصدق و بالتالي: الخلاص من كل العبوديات.
و في هذا السفر السريع البطيء، و الطويل القصير، لا حاجة إلى أي شيء، سوى التركيز على نقطة المبدأ، و مركز الانتهاء.
فلا يمكن أن نقيد الدعاء ـ بعد أن كان عملا روحيا ـ بأي قيد، من زمان أو مكان أو لفظ، و لا بأية لغة أو صيغة أو نص.
و قد رسم الإمام الصادق، أبو عبد الله جعفر بن محمد×، لهذه الفكرة خطة واضحة، في الحديث التالي: عن زرارة، قال، قلت لأبي عبد الله×: علمني دعاء؟ فقال: إن أفضل الدعاء ما جرى على لسانك 1.
فإذا كان الداعي لم يطق أن يستوعب أكثر مما يجري على لسانه، فإن ذلك يكفيه، و المهم أن يكون ملتفتا إلى أساس الدعاء و لبه و هو التركيز على نقطة المبدأ و مركز الانتهاء، في سيره الروحي.
و قد أفصح الرسول الكريم| عن هذه الحقيقة لما سأل رجلا: كيف تقول في الصلاة؟
فأجاب الرجل: أتشهد ثم أقول: « اللهم إني أسألك الجنة، و أعوذ بك من النار ».
و أضاف الرجل: أما أني ـ والله ـ لا أحسن دندنتك، و لا دندنة معاذ.
فقال|: حولها ندندن 2.
لكن الإسلام قد حدد للدعاء المختار حدودا، و قرر له شروطا، راعى في ذلك بلوغه إلى الكمال المطلوب، و من ذلك ما يرتبط بألفاظه و لغته.
ففي الوقت الذي أكد على جوانب معناه و أهدافه،لم يهمل جانب أدائه و صيغته.
و الحق، إنا إذا أردنا أن نركز التفاتنا كاملا، فإن كل الحواس ـ و هي ترتبط بواسطة الأعصاب بعضها بالأخرى ـ لابد أن تتجه و تلتفت سواء الحواس الخارجية و جوارحها، أم الحواس الباطنية و قابلياتها، و حاسة النطق ـ و هي المعبرة عن الجميع ـ و آلتها اللسان، لابد أن تتحرك أعصابه، فتكون كلمة الداعي حاسمة، و تكون ألفاظ الدعاء مركزة موجهة.
أليست الألفاظ تعبيرا عن مكامن الضمير، و سرائر الوجدان؟
أليست الكلمات النابعة عن طلبات الروح، اصدق دليل على التركيز في التوجه و الالتفات؟ و من يدري؟!
فلعل العبد الداعي يكون اقرب إلى مولاه الجليل، عند بعض الحالات، و أداء بعض النغمات، و تلاوة بعض الكلمات، و في بعض المقامات و الأوقات؟ دون غيرها؟!
إن النية الواحدة، قد تصاغ بأشكال مختلفة، و تؤدى بأساليب متنوعة، و قد تصحبها أنغام متفاوتة.
فأيا منها نختار؟ لنتوسل به إلى هذا السر الروحي، و نتزود منه على هذا الطريق الصعبة، و نتوصل بسببه إلى النتيجة المنشودة.
ما أروع للداعي، لو عرف، أو تنبه إلى أجمل لفظة في أبدع أسلوب، و الى أليق تعبير في ارق نغمة، و كان دعاؤه نابعا من أعماق الضمير، ليكون ارغب إلى مقام الإنس، و اقرب إلى حظيرة القدس، و آكد في تحقيق رغبات النفس.
أليس هذا هو الأحسن، و الأضمن لحصول الإجابة؟
لكن ليس الإفراط في المحافظة على اللفظ، و التوغل في مراعاة أداء الحروف و ضبط الحركات، هدفا للمتكلم الواعي، و لا غاية للإنسان الهادف، فضلا عن المسلم الذي يقوم بمهمة عظيمة مثل الدعاء.
فان الدعاء ـ قبل أن يبلور في الجمل و الكلمات ـ إنما هو نور مضي ينقدح فيفيض عفى اللسان، و لو كان القلب كدرا لم ينقدح فيه ذلك النور، فأين له أن يظهر على لسان صاحبه، الدعاء؟!
قال الإمام الصادق×: تجد الرجل لا يخطئ بلام و لا واو، خطيبا مصقعا و لقلبه اشد ظلمة من الليل المظلم 3.
و هكذا الانهماك في تطبيق القواعد اللفظية، بما يصرف توجهه عن المعاني و يقطع التفاته عن الهدف.
و هو ما ذكره الرسول| فيما روي عنه، من قوله: من انهمك في طلب النحو سلب الخشوع 4.
نعم، أن إغفال جانب اللفظ و حسن التعبير، و صحح النص و سلامة العبارة عيب، بلا ريب، في الدعاء يحطه عن مرتبة الكمال اللازم في كل جوانب الدعاء من لفظه و معناه، و لابد للداعي العارف، المتمكن من ذلك أن يتصف به، فيكون دعاؤه بمستوى ما يطلب من المقام الرفيع المنشود.
و من هنا ورد التأكيد البليغ على اتصاف الدعاء بالأدب، و يراد به « الأدب العربي » في مراعاة القواعد اللغوية و النحوية و البلاغية، إذا بلغ الداعي مرتبة عالية من العلم و المعرفة، و بلغ من الدين و العقيدة مبلغا يحسن مثل هذا الطلب منه.
قال الإمام أبو جعفر محمد بن علي، الجواد×: ما استوى رجلان في حسب و دين ـ قط ـ إلا كان أفضلهما عند الله آدبهما.
قال الراوي: جعلت فداك، قد علمت فضله عند الناس، في المنادي و المجالس، فما فضله عند الله عز و جل؟! قال×: بقراءة القرآن كما انزل، و دعائه الله عز و جل من حيث لا يلحن، و ذلك ان الدعاء الملحون لا يصعد إلى الله عز و جل 5.
إن الكمال اللازم يجب أن يعم أدب الداعي و معارفه، فيكون كاملا في لغته التي يتقدم بالدعاء بها، بعيدا عن اللحن المزري، فان الله يحب ان يرى عباده يناجونه بأحسن ما يناجي به احد أحدا.
أليس القرآن ـ و هو كلام الله ـ نزل بأبلغ ما يكون الكلام و أعذبه، فليكن ما يخاطب به العبد مولاه ـ كذلك ـ في أوج ما يقدر عليه من الكلام الطيب و الذكر البديع، المنزه عن عيب اللحن، و الوهن.
إن الإسلام ـ في الوقت الذي ينص على الاكتفاء بما يجري على اللسان من الدعاء، إذا لم يعرف الداعي نصا مأثورا، لان ذلك أدنى ما يأتي منه ـ فإنه لا يكتفي ممن يمكنه الوصول إلى المأثور، أن يقتنع بالدعاء الذي يخترعه من عند نفسه.
عن عبد الرحيم القصير، قال: دخلت على أبي عبد الله×، فقلت: جعلت فداك، إني اخترعت دعاء!
قال×: دعني من اختراعك.
إذا نزل بك أمر فافزع إلى رسول الله عليه و آله و صل ركعتين تهديهما إلى رسول الله|… 6.
و علمه دعاء يتلوه.
إن الدعاء المأثور، هو ـ بلا ريب ـ أقوى، و أصدق، و أضبط، فهو أوصل إلى المطلوب، مما يخترعه ذهن الإنسان العادي، و يلوكه لسانه.
2 ـ المحافظة على النص المأثور
فإذا كان الدعاء المأثور بهذه الدرجة من الضرورة، فلابد أن تكون المحافظة عليه شديدة جدا، و لابد أن يواظب الداعي على نصه، كي لا يتجاوزه في حرف أو حركة، و إلا لم يبلغ المنشود المترقب من ذلك الدعاء، وقد عرفنا « أن الدعاء الملحون لا يرفع ».
و قد جاء النهي الصريح عن تجاوز نص الدعاء المأثور، أو تخطيه، و لو بالزيادة فضلا عن النقيصة، أو بتغيير لفظ إلى ما يرادفه، أو بوضع جملة مكان أخرى، و ان كانا يهدفان غرضا واحدا.
و ذلك كله تقيدا بالمأثور، و أداء لما ورد كما ورد.
فعن البراء بن عازب: أن النبي| قال: يا براء، كيف تقول إذا أخذت مضجعك ؟
قال: قلت: الله و رسوله اعلم.
قال|: إذا أويت إلى فراشك طاهرا، فتوسد يمينك ثم قل:« اللهم أسلمت وجهي إليك و فوضت أمري إليك، و ألجأت ظهري إليك، رغبة في وربة إليك، و لا ملجأ و لا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، و بنبيك الذي أرسلت ».
من قالها في ليلته ثم مات، مات على الفطرة.
قال البراء: فقلت ـ استذكرهن ـ: «.. و رسولك الذي أرسلت… ».
فقال بيده في صدري: « لا، و نبيك الذي أرسلت » 7.
و عن إسماعيل بن الفضل، قال: سالت أبا عبد الله× عن قول الله عز و جل ﴿… وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا…﴾ 8.
فقال فريضة على كل مسلم أن يقول قبل الشمس عشر مرات، و قبل غروبها عشر مرات: « لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد، يحيي و يميت، و هو حي لا يموت بيده الخير، و هو على كل شيء قدير ».
قال: فقلت: لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد، يحيي و يميت و يميت و يحيى…
فقال: يا هذا، لا شك في أن الله يحيي و يميت و يميت و يحيي، و لكن قل كما أقول 9.
و عن العلاء بن كامل: قال « سمعت أبا عبد الله× يقول: ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ…﴾ 10 عند المساء: لا الله الا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد، يحيى و يميت و يميت و يحيى، و هو على كل شيء قدير.
قال: قلت:… بيده الخير.
قال: ان بيده الخير، و لكن قل كما أقول… 11.
و عن عبد الله بن سنان، قال: قال الصادق×: ستصيبكم شبهة، فتبقون بلا علم يرى و لا إمام هدى، لا ينجو منها الا من دعا بدعاء الغريق.
قلت: كيف دعاء الغريق؟
قال: تقول: « يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا مقلب القلوب، ثبت قبلي على دينك ».
فقل: يا مقلب القلوب و الأبصار ثبت قلبي على دينك.
فقال: إن الله عز و جل مقلب القلوب و الأبصار، و لكن قل كما أقول: « يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك » 12.
تدل هذه الأحاديث على أن الأدعية المأثورة توقيفية، وقع التعبد بخصوص ألفاظها الواردة، و ان أدنى تغيير او تبديل في كلماتها، أو أي لحن أو تحريف في حركاتها و حروفها، و ان لم يغير المعنى، يوجب ان لا يكون أداؤه صحيحا، فلا يتوقع منه ما يترقب منه فيما لو كان أداؤه تاما من الآثار الروحية.
و ينبئك بمدى تأثير الألفاظ المختلفة للنتائج المتغايرة، و ان كان الأثر الشرعي المترتب على جميعا واحدا، ما ورد في باب « اليمين » و هو ما رواه الكليني بسنده عن صفوان الجمال، قال: حملت ابا عبد الله× الحملة الثانية إلى الكوفة و ابو جعفر المنصور بها، فلما اشرف على الهاشمية ـ مدينة أبي جعفر ـ اخرج رجله من غرز الرحل ثم نزل، و دعا ببغلة شهباء، و لبس ثياب بيض و كمه بيضاء، فلما دخل قال أبو جعفر: لقد تشبهت بالأنبياء.
فقال ابو عبد الله×: و أنى تبعدني عن أبناء الأنبياء؟
فقال: لقد هممت أن ابعث إلى المدينة من يعقر نخلها و يسبي ذريتها.
فقال: ولم ذلك، يا أمير المؤمنين؟
فقال رفع الي أن مولاك المعلى بن خنيس، يدعو إليك و يجمع لك الأموال.
فقال والله ما كان.
فقال: لست ارضى منك إلا بالطلاق و العتاق و الهدي و المشي.
فقال: ابا لانداد من دون الله تامرني ان احلف؟! انه من لم يرض بالله فليس من الله في شيء.
فقال: أتتفقه علي!
فقال: و أنى تبعدني من الفقه، و أنا ابن رسول الله|؟!
فقال: فإني أجمع و بينك من سعى بك.
قال: فافعل.
فجاء الرجل الذي سعى به، فقال له أبو عبد الله: يا هذا!
فقال: نعم، والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم، لقد فعلت.
فقال له أبو عبد الله×: ويلك، تمجد الله، فيستحيي من تعذيبك و لكن قل: « برئت من حول الله و قوته، و لجأت إلى حولي و قوتي ».
فحلف بها الرجل، فلم يستتمها حتى وقع ميتا.
فقال أبو جعفر: لا اصدق بعدها عليك أبدا ؛ و أحسن جائزته ورده 13.
و قريب منه في قصة يحيى العلوي مع عبد الله بن مصعب الزبيري لما وشى به عند هارون الرشيد العباسي، فحلفه يحيى 14.
3 ـ مشكلة تجويزهم نقل الحديث بالمعنى؟
قد ثبت لدى علماء الحديث تجويز نقل الحديث بالمعنى: قال الشيخ العاملي: قد ذهب جمهور السلف و الخلف، و الطوائف كلها، إلى جواز الرواية بالمعنى، إذا قطع بأداء المعنى بعينه… لما رويناه بطرقنا عن محمد بن يعقوب… عن محمد بن مسلم، قال: قلت لأبي عبد الله×: أسمع الحديث منك، فأزيد وأنقص؟
قال×: إن كنت تريد معانيه، فلا بأس 15.
و روينا بالسند عن داود بن فرقد، قال: قلت لأبي عبد الله×: أني أسمع الكلام منك، فأريد أن أرويه كما سمعت منك، فلا يجيء.
قال: فتتعمد ذلك؟ قلت: لا.
قال: تريد المعاني؟ قلت: نعم.
قال: فلا بأس 16.
و قد روى العامة الترخيص في رواية الحديث بالمعنى، عن الأكثر، و نقلوه عن جماعة من الصحابة منهم الإمام أمير المؤمنين علي×، و ابن عباس، وأنس بن مالك، و واثلة بن الأسقع 17 و نسبه بعضهم إلى الجمهور 18.
و قد استدل الصحابي واثلة، على ذلك، باستدلال ظريف، لما قيل له: حدثنا بحديث سمعته من رسول الله| ليس فيه و هم، و لا تزيد و لا نسيان!
قال: هل قرأ أحد منكم من القرآن شيئا؟!
قال الراوي: فقلنا: نعم، و ما نحن له بحافظين جدا، أنا لنزيد الواو و الألف، و ننقص!
قال: فهذا القرآن مكتوب بين أظهركم، لا تألون حفظا، و أنتم تزعمون أنكم تزيدون و تنقصون، فكيف بأحاديث سمعناها من رسول الله| عسى أن لا نكون سمعناها منه إلا مرة واحدة، حسبكم إذا حدثناكم بالحديث على المعنى 19.
فالحديث و هو يحتوي على الأحكام الشرعية و هو ثاني مصادر التشريع في الإسلام، مع ما لذلك من الخطورة، التي تحتم مزيد المراقبة و الاحتياط فيها إذا أن أدنى تغيير فيه يؤدي إلى تحريف الأحكام و تبديل شريعة الإسلام.
هذا الحديث إذا جاز نقله بالمعنى، فالدعاء، و هو ليس بتلك الأهمية قطعا لا بد أن يجوز فيه ذلك؟!
و إذا لم يجز ذلك في الدعاء، والتزم بنقل نصه المأثور، فليكن ذلك في الحديث، و خاصة أحاديث الأحكام، كذلك، بطريق أولى.
و الحاصل: أن روايات الدعاء هي من الحديث الشريف، فإذا جوزنا رواية الحديث ونقله بالمعنى، شمل روايات الدعاء أيضا.
و الجواب عن هذه المشكلة، من وجوه: الأول: أن أحاديث المحافظة على الدعاء تخصص ما دل على جواز نقل الحديث بالمعنى، فكل حديث يجوز نقله بالمعنى إلا أحاديث الدعاء.
و هذا بناء على دخول الدعاء في الحديث، بمعناه العام واضح لا غبار عليه، و إلا فهو خارج تخصصا.
الثاني: أن تجويزهم لنقل الحديث بالمعنى، إنما هو فيما لم يتعبد بلفظه من نصوص الحديث، مما أريد به لفظه الخاص من متون الأحاديث، حيث لا يجوز نقله بالمعنى، بل يروى بعين لفظه، كالخطب التي تلقى بمناسبات خاصة، و التي يستعمل فيها أساليب إنشائية بلاغية، و كذلك الكلمات القصار المحتوية على جوامع الحكم، و النصائح و المواعظ المذكورة في جمل قصيرة، مما فيه سجع معين يدل على العناية بخصوص الكلمات و الألفاظ الواردة فيها، و كذلك نصوص الأدعية المأثورة الواردة في ظرف معين من زمان أو مكان أو مناسبة خاصة، و قد أمر الشارع بتلاوتها بعينها، فلا يجوز تخطيها للناقل الذي يريد العلم بما أمر الشارع، و بذلك يمتاز الدعاء عن مطلق الحديث.
الثالث: أن الحديث يتفاوت عن الدعاء بأمر جذري، فإن الحديث إنما يرويه الراوي و ينقله ناسبا معناه إلى المروي عنه، و ناقلا له عنه، لكن الدعاء إنما يتلوه الداعي بقصد إنشاء ما يتلو من المعنى، و قاصدا للمعاني التي في الكلام الخاص، في إطار هذه الألفاظ المعينة، بعنوان أنه يناجي بها ربه، لا أنه يرويها و ينقلها عن منشيئها، و إن كان إنما أخذ نص الدعاء عنه نقلا.
مع أن جواز رواية الحديث بالمعنى ليس على إطلاقه، بل: 1 ـ إن رواية الحديث بلفظه أحسن ـ مهما أمكن ـ من روايته بالمعنى..
قال المحدث العاملي: نعم، لا مرية أن روايته بلفظه أولى على كل حال، ولهذا قدم الفقهاء المروي بلفظه على المروي بمعناه 20.
و قد أكد الأئمة^ على ذلك، فعن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله×: قول الله جل ثناؤه: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ…﴾ 21
قال×: هو الرجل يسمع الحديث فيحدث به كما سمعه، لا يزيد فيه و لا ينقص منه 22.
2 ـ إن على الراوي بالمعنى أن يشعر بذلك.
فقد صرح علماء الحديث بأنه ينبغي للراوي بالمعنى أن ينبه على ذلك، فيقول بعد نقل الحديث: « أو كما قال » و « أو شبه ذلك » و « أو نحو ذلك » ليحترز من الكذب في نسبة نفس اللفظ المنقول إلى المنقول عنه 23.
و قد عمل بذلك جمع من الصحابة و المتقدمين 24.
و من الواضح أن مثل هذا غير مناسب للدعاء.
3 ـ إن رواية الحديث بالمعنى مشروط بشرط أساسي و مهم و هو: أن يكون الراوي بالمعنى عارفا لمعنى الحديث واقفا على أسراره و جميع خصوصياته.
قال العاملي: إنما جوزناه لمن يفهم الألفاظ و يعرف خواصها و مقاصدها ويعلم عدم اختلال المراد منها فيما أداه…
و إذا لم يكن المحدث عالما بحقائق الألفاظ و مجازاتها و منطوقها و مفهومها و مقاصدها، خبيرا بما يحيل إليه معانيها، لم تجز له الرواية بالمعنى بغير خلاف، بل يتعين اللفظ الذي سمعه إذا تحققه، و إلا لم تجز له الرواية 25.
و هذا يعني أن رواية الحديث بالمعنى لا تجوز إلا لمن كان واعيا متحققا مما يسمع، فطنا متنبها لما يتحمل ويؤدي، فيتعين عليه أداء اللفظ إن لم يصب المعنى، و إن أصاب المعنى و كان أهلا لذلك لمعرفته بأسرار اللغة، و خواصها، و مرادفاتها، و مشتركها في مفرداتها، و خصائص تراكيبها، جاز له الرواية بالمعنى.
و أجمع العلماء كلهم على أنه لا يجوز للجاهل بمعنى ما ينقل أن يروي الحديث على المعنى 26.
و مع هذا الشرط فلا يرد على تجويز الرواية بالمعنى ما توهمه بعض المغرضين من أن ذلك يؤدي إلى تجويزه لجميع الرواة في كل الطبقات، و ذلك يقتضي ـ بعد تغيير الألفاظ في جميع الطبقات ـ إلى سقوط الكلام الأول، لأن ذلك لا ينفك عن تفاوت ـ و إن قل ـ و إذا توالت التفاوتات، كان التفاوت الأخير فاحشا 27.
فإن التجويز خاص بالمقتدرين على درك المعاني وأداء جميع خصوصياتها بالدقة المذكورة، و من المعلوم أن ذلك كان خاصا بالطبقة الأولى، حيث كانت اللغة سليمة، و كانت السلائق على طبيعتها غير مشوبة، فلم يصب الحديث من نقلهم بالمعنى و بألفاظ أخرى خلل أصلا، ولم نحتمل في ما نقلوه تفويتا لمعنى مراد أبدا.
و قد ظهر من خلال ما ذكرنا أن استدلالهم لمنع الرواية بالمعنى، بما روي عن الرسول الله| من قوله: « نضر الله عبدا سمع مقالتي و حفظها و وعاها، و أداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، و رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه » 28.
لا يتم، و ذلك، لأن رواية المعنى مع مراعاة الشرط المذكور، أداء لما قاله النبي| بلا تفاوت، فإن الرسول في أكثر حديثه كان بصدد تعليم الأحكام الشرعية، و السنن والآداب الإسلامية، و لا ريب أن مهمة أصحابه كانت فهم مقاصده، و درك معاني كلامه و إرشاداته، و إبلاغها إلى من وراءهم، سعيا في نشرها، و في مثل هذه الأحاديث لم يكن للألفاظ دور إلا مهمة أداء المعاني وإيصالها، ولم ينظر إلى ألفاظ الحديث كعبارات خاصة لها ميزة تعبيرية من بلاغة وفصاحة، و لا تحتوي على جهات بديعية، خاصة في أجواء التشريع، حيث كان المجتمع بحاجة إلى إصلاحات سريعة و عميقة.
و بذلك أيضا يرد على من جوز نقل الحديث بالمعنى إلا في حديث النبي|، بدعوى: « أنه| أفصح من نطق بالضاد، و في تراكيبه أسرار و دقائق، لا يوقف عليها إلا بها كما هي، لأن لكل تركيب معنى… لو لم يراع ذلك لذهبت مقاصدها » 29.
أقول: أما أحاديث الأحكام و السنن، فقد عرفت أن الغرض المهم فيها هو إيصال المعاني و إبلاغ المقصود، من دون نظر خاص إلى الألفاظ.
مع أن حديثا ما لو كان محتويا على مثل ذلك كان على الناقل له بالمعنى مراعاته مهما أمكن و نقله، و إلا لم يكن ناقلا له.
و أما في غير أحاديث الأحكام و السنن، من الأحاديث التي أخذ فيها بنظر الاعتبار احتواؤها على كلمات خاصة أو روعي فيها مقتضى الحال، و ناسب تأليفا معينا من الكلمات و تركيبا خاصا من الجمل، أو حالا لفظية بعينها، من تقديم أو تأخير، و فصل أو وصل، بحيث لو تجاوزه الرواي كان مخالفا لغرض المتكلم ولم يؤد المعنى المراد له.
أما في هذه، فاشتراط المحافظة على المعنى يقتضي الاحتفاظ بالتراكيب الخاصة، و لا يجوز نقلها بالمعنى، لأداء ذلك إلى تغيير الألفاظ المفوت لما ذكرنا.
و لذلك نجد أن الرواة كانوا يحافظون على ذلك أشد المحافظة من دون شك، فنقلوا الخطب والكتب و الرسائل و جوامع الحكم و الأدعية المأثورة، كما وردت عن المعصومين^ مليئة بالمحسنات البديعية، مفعمة بأسرار البلاغة، و مزدانة بقوة الفصاحة، بما يمكن استشمام روح المعصومين^ فيها. و يمكن استشفاف أثرهم عليها.
و في النهاية هذه الفقرة نقول: إن الدعاء لا يجوز نقله بالمعنى، بل يلزم المحافظة على نصه، ولعل الحكمة في ذلك، مع أن الدعاء عملية روحية أكثر منها لفظية، أنه يراد من نصوصه أن يتفاعل الداعي منع مولاه، و أولياء الله، تفاعلا تاما، لا روحيا فقط، بل يلتزم بالاتباع اللفظي لهم، و يتقيد بالأوامر فيطبقها حرفيا بفكره و بلسانه.
إن الالتزام بنص ورد من الشرع في الدعاء، لا يعني فقط التوجه إلى الله من أقرب الطرق و أليقها، بل يعني ـ أيضا ـ السلوك في أبين المسالك، و أزهرها حجة، و أنقاها و آمنها محجة.
إن المقصود الأساسي من الدعاء، وهو الارتفاع إلى مقام القرب بشكل أكثر اطمئنانا ووثوقا، كما يرفع مستوى الإنسان معنويا بالاقتراب من أقرب البشر إليه، كذلك يوحد صوته مع أصواتهم القدسية المستلهمة من مقامه الكريم، وهم محمد وآله الكرام عليهم الصلاة والسلام.
إن ذلك يحقق جزء من الهدف الأساسي من الدعاء، فلا نشك أن ما ورد من الأدعية المأثورة فيها آثار من مقام قربهم، و نفحات من قدس أنفاسهم، و جذبات من صفاء نفوسهم، يفقدها الداعي لو ابتعد عنها ويبتعد عن مقصوده لو تركها.
4 ـ دعوة إلى ضبط الأدعية و تحقيق كتبها:
و من مجموع ما ذكرنا تتبين صحة ما ذكره المحدث الفقيه صاحب المعالم من أن الاختلاف الذي يقع و يكثر في متون الأخبار الواردة بمجرد الأحكام ربما كان العذر فيه تسويغ الرواية بالمعنى، و عدم انتهاء الاختلاف إلى الحد الذي يحصل به الاضطراب فيه.
و أما ما يتضمن نقل الدعوات و الأذكار المأثورة، فأي عذر للتسامح فيه، و التقصير في ضبطه 30.
نعم، إن الأمانة الروحية تدعونا إلى المحافظة على الدعاء المأثور و ضبطه و حفظه عن التحريف و اللحن، فإن الدعاء من أفضل نعم الله التي ألهمها الإنسان.
و كذلك الأمانة العلمية تلزمنا المحافظة على النصوص الواردة و ضبطها، فالأخبار التي ذكرناها تدل بوضوح على عدم جواز اللحن في الدعاء، كما تدل على لزوم الاحتفاظ بنصه كما ورد.
و أعتقد: أن ذلك يؤكد ضرورة التحقيق في كتب الدعاء لتقديم نصوص مضبوطة موثوقة للأدعية، كي تبلغ الامة بتلاوتها ما ينشد منها من الآثار الروحية و المعنوية، و تبلغ المقام المحمود الذي وعده الله للداعين.
مضافا إلى ما فيها من متعة تراثية حيث أن عشرات الكتب قد الفت في الدعاء، منذ عصور الأئمة^ و كذلك ما فيها من متع علمية، لأن الأدعية تحتوي على مضامين عالية في مجالات العقيدة و السلوك و الوجدان.
و مما يحز في القلب ما آلت إليه كتب الأدعية من إهمال و تشويه، على أثر تصدي الجهلة لنقلها و تداولها، و على أثر جشع الطابعين ـ بل الطامعين ـ في إصدار ما هب و دب مما يدر الأرباح عليهم، غافلين ـ أو متغافلين ـ عن أن عملهم هذا اعتداء صارخ على أمر مقدس لدى الأمة، و على أهم وسيلة من وسائل رقيها في مجالات العقائد و الأخلاق و في مقامات السلوك و العرفان.
و هذا أيضا مما يثقل المسؤولية على كاهل المحققين الأفاضل، و المؤسسات الثقافية، كي تقوم بعبء هذا الأمر الهام، و ينقذوا الدعاء و كتبه من براثن هؤلاء، و يرفعوه إلى مقامه العلمي و الروحي اللائق.
فلا عذر في التقصير فيه!
5 ـ مصادر الدعاء المأثور:
إن مصادر الدعاء عند المسلمين هم النبي الأكرم|، الذي هو أفصح من نطق بالضاد، و أليق من اكتسى الأمجاد، من خصه الله بوحيه فبه فاه، و بالبلاغة حلاه، و بمكارم الأخلاق حباه، باعتباره الصادع بالشريعة الغراء، و الواسطة بين الأرض و السماء، و المطلع على أسرار الخليفة، و الواقف على المجاز والحقيقة، أعلم الناس و أعرفهم، و أشجع الناس و أورعهم، من لا يقاس به سواه، و لا يعرف حقيقة مقامه إلا الله، الذي نباه، عليه أفضل الصلاة و أزكى التحية.
و كذلك ابن عمه و ربيبه، و وصيه و حبيبه، خليفته من بعده على أمته، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب× « مشرع الفصاحة و موردها، و منشأ البلاغة و مولدها، و منه ظهر مكنونها، و عنه اخذت قواعدها، و على أمثلته حذا كل قائل وخطيب، و بكلامه استعان كل واعظ بليغ، لأن كلامه عليه مسحة من العلم الإلهي، و فيه عبقة من الكلام النبوي » 31.
و كذلك الأئمة الأخيار من أهل البيت الأطهار^، العلماء الأوتاد، و الزهاد الأمجاد، و الأئمة الأجواد، الذين تحلوا من الفضائل بأحسنها، و من الشمائل بأجملها و امتلأوا بالعظمة فأقرها لهم العدو قبل الصديق، فكانوا أنوارا كاشفة لسواء الطريق، الأئمة المنتجبون بنص القرآن، و كلام النبي|، للقيادة والإمامة، وما روي عنهم يدل على تحقق ما قال فيهم أبوهم أمير المؤمنين× حيث قال: «و إنا لامراء الكلام، و فينا تنشبت عروقه، و علينا تهدلت غصونه»32.
هؤلاء هم مصادر الدعاء المأثور عندنا، و إن ما ورد عنهم من الدعاء لأصدق شاهد، و أقوى دليل على صدق ما قيل.
« فقد أنشأوا » كما يقول واحد من كبار العرفاء « من الدعوات الجليلة و المضامين اللطيفة ما فيه فوق طاقة البشر، من فنون العلم بأسماء الله و صفاته، و ما يقتضيه جماله و جلاله، و حق أدب العبودية مع كل، فيما يناسبه مقامه و أوصافه و أحواله، و كيفية الاستعطاف و الاسترحام، و لطيف الاستدلالات في استيجاب عفوه و كرمه و فضله، و عرض مذلة الاعتراف عند مقدس أبواب رأفته و رحمته.
ولعمري لو كان للإنسان فكرة أو فطنة لكفاه ما صدر في الدعاء من أئمة الحق، عن كل معجز في إثبات الرسالة و الإمامة » 33.
و قد حفظت من أدعية المعصومين^ نماذج كثيرة، رويت بأسانيد صحيحة، سجلت في كتب باسم « الصحيفة » لكل واحد منهم^ صحيفة أو أكثر.
و منها ما روي عن أمير المؤمنين× بعنوان: الصحيفة العلوية الأولى و الثانية، الجامعة لأدعية سيدنا أمير المؤمنين×.
و أما الإمام السجاد، زين العابدين، علي بن الحسين×، فقد اشتهرت أدعيته الكثيرة لأنه× اتخذ الدعاء في ظروف سياسية قاسية وسيلة لتوعية الأمة و تثقيفها، و بث العقائد الحقة حفاظا من أن تمسها الدول الظالمة المستهترة بسوء.
فقد أملى جملة وافرة من أدعيته، فجمعت في كتاب باسم « الصحيفة الكاملة » و هي متداولة، كثيرة الطبعات.
ثم جمع عدة من العلماء سائر أدعيته في صحف أخرى بأسماء « الصحيفة السجادية الثانية و الثالثة و الرابعة و الخامسة و السادسة » و كلها مطبوعة متداولة 34.
و أما سائر مصادر الدعاء المأثور: فقد بذل علماء الإسلام جهودا وفيرة في جمع ما يتعلق بالدعاء من آيات الكتاب، و أحاديث العترة الأطياب، و ما ورد عنهم من الدعاء المأثور في كتب قيمة، منذ عصور الأئمة^ و حتى يومنا هذا، تحت عنوان « كتاب الدعاء » أو بأسماء خاصة.
كما ضمن مؤلفو الجوامع الكبيرة، أبوابا و كتبا خاصة بالدعاء و جمعوا فيها ما يرتبط بالدعاء من الأحاديث و النصوص.
فهذا كتاب « الكافي » لأبي جعفر، محمد بن يعقوب، الكليني، الرازي ( ت 329 ) و هو من اصول الحديث عند الشيعة الإمامية ـ جعل السادس من كتبه باسم « كتاب الدعاء » و أورد فيه 55 بابا، تحتوي على 408 أحاديث 35.
و أما الكتب الخاصة بالأدعية فكثيرة جدا، و قد ذكرها شيخنا الطهراني في موسوعته « الذريعة » 36 بعنوان الدعاء، و الدعوات، عدا الكتب المعنونة بأسماء خاصة على حروف المعجم.
و قد تخصص بعض العلماء في موضوع الدعاء، فأولوه عناية فائقة، و بذلوا أوسع جهودهم في مجاله.
منهم السيد العالم الزاهد علي بن موسى بن جعفر بن طاووس الحلي ( ت 664 ) حيث جمع الأدعية و نظمها في كتبه مستفيدا من خزانة كتبه الزاخرة بعيون التراث المجيد، و خاصة ما الف في الدعاء، و قد بلغت كتب الأدعية التي كانت عنده في أواخر حياته أكثر من ( سبعين ) مجلدا من كتب الدعاء 37.
و من أهم كتب ابن طاووس المطبوعة: الإقبال، و مهج الدعوات، و فلاح السائل، و جمال الأسبوع.
و منهم العالم الفاضل الأديب البارع، العلامة تقي الدين، إبراهيم بن علي، العاملي، الكفعمي الذي تدل مؤلفاته على تضلعه في العلوم الأدبية عامة، و البلاغية خاصة، و قد أبدع فيما ألفه من كتب خاصة بالدعاء من حيث النظم و التحقيق و التثبت، و الاعتماد على مصادر موثوقة.
و من مؤلفاته: البلد الأمين، و المصباح.
و أخيرا: لو أتيح لمصادر الدعاء من يجمع أسماءها و ينظم لها فهرسا، و كشافا جامعا، لبلغت المئات، و لدلت على اهتمام بليغ من قبل العلماء، و خاصة القدماء، بأمر الدعاء و التأليف فيه.
6 ـ الدعاء و الأدب العربي
يقول الدكتور حسين علي محفوظ: « الدعاء » جانب مهم من الآداب العربية، نسيه تاريخ الأدب، و تجاهله الادباء، و أغفله النقاد و كادوا يطمسون الإشارة إلى بلاغته، على الرغم من أنه: نثر فني رائع، و اسلوب ناصع من أجناس المنثور، و نمط بديع من أفانين التعبير، و طريقة بارعة من أنواع البيان، ومسلك معجب من فنون الكلام.
و الحق أن ذلك النهج العبقري المعجز، من بدائع بلاغات النبي| و أهل البيت^ التي لم يرق إليها غير طيرهم، ولم تسم إليها سوى أقلامهم.
فالدعاء أدب جميل، و حديث مبارك، و لغة غنية و دين قيم، و بلاغة عبقرية المجاز، إلهية المسحة، نبوية العبقة، تفتر عن إيمان جم الفضائل، و زهد دثر المحاسن، و تواضع أبيض المحجة، و عمل أغر الطريقة، و تقاة عظيمة القدر 38.
حقا إن الدعاء يمثل واحدا من أرفع أساليب الأداء العربي في بلاغته الناصعة، و تعبيره العذب، و هو من أوقع الكلام في الكشف عن مكامن الضمير، و مرادات النفس و متطلبات الروح، مع تطوره و إبداعه في استخدام أساليب الاستدعاء و الرجاء و العتاب و الاعتذار، و في أطوار المرونة و العنف، و العجلة و الصبر، و اليسر و العسر، و الاضطرار و الرخاء.
و أيضا: الكلمة الناطقة عن التنازلات و التعهدات و الالتزامات في صيغ متكاملة الأطراف، جامعة الاسس، رصينة البنود، فصيحة المفردات، بليغة التراكيب.
و هذا أمر يتكفل الإفصاح عنه و البرهنة عليه، نصوص الدعاء المأثور بشهادة المنقطعين إلى الأدب و نقده و تحليله اللفظي و المعنوي.
و من المؤسف أن أدب الدعاء طواه إغفال الادباء، بل تعدى إغفالهم لجانب بديعه وغريبه ونحوه واسلوبه أيضا، بالرغم من صرف جهود واسعة في الأضعف منه والأخس من مجون الشعراء، ولغط الأعراب في زوايا البوادي أو النوادي.
إلا أن بعض فطاحل النحو و فحول اللغة، قد تنبهوا إلى هذا الأمر الخطير، كابن مالك النحوي، و المحقق الشيخ نجم الأئمة الرضي شارح « الكافية » و ابن منظور الأنصاري صاحب « لسان العرب » و ابن فارس صاحب « المقاييس » فقد احتجوا في مؤلفاتهم بحديث النبي و أهل البيت^.
قال البغدادي: الصواب جواز الاحتجاج بالحديث النبوي في ضبط ألفاظه، و يلحق به ما روي عن الصحابة و أهل البيت^، كما صنع الشارح المحقق الرضي 39.
هذا في مطلق الحديث، و أما خصوص ما احتوى على الدعاء منه، فاهتمام الشارع و المتشرعة بأمر ضبطها و المحافظة عليها، يدفع كل الشبه المثارة حولها فلا نزاع في الاحتجاج بها في المباحث اللغوية كافة.
و الحق أن « الدعاء » الشريف، خزينة غنية بالمعارف العقلية، والأخلاق الفاضلة، و كنز لغوي حافل بالمفردات الفصيحة، و التراكيب البليغة، خالية عن أدنى شوب أو لكنة.
فأين أولياء اللغة من هذه الحقيقة السافرة؟
و أين هم من هذا الكنز العظيم؟
و أين هم من هذا المورد العذب؟
و الله ولي التوفيق، و آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين 40.
المصادر
1. وسائل الشيعة: 4 / 1171.
2. الأسماء المبهمة ـ للخطيب البغدادي ـ: 116 رقم 63 و انظر كنز العمال: 2 / 88.
3. الكافي ـ الأصول ـ: 2 / 422.
4. بحار الأنوار: 1 / 7 ـ 218.
5. عدة الداعي: 18، وسائل الشيعة: 4 / 1107، و انظر: كنز العمال: 2 / 293.
6. الكافي، كتاب الصلاة، باب صلاة الحوائج: 3 / 476 ح 1.
7. أورده البخاري في صحيحه في مواضع: كتاب الوضوء: 1 / 308، و كتاب الدعوات 11 / 93 و 97 و 98، و كتاب التوحيد: 13 / 388، و مسلم في صحيحه، كتاب الذكر و الدعاء: 4 / 2081، و أبو داود في السنن، أبواب النوم: 4 / 425 ؛ و أبن ماجة في السنن، كتاب الدعاء: 2 / 1275، و الترمذي في السنن، أبواب الدعوات: 2 / 245، و أحمد في المسند: 4 / 285 و 290 و 292 و 296 و 299 و 300 و 301 و 302 من طبعة الحلبي.
و الطبراني في المعجم الصغير: 3، و الخطيب في الكفاية: 270 طبعة مصر.
8. القران الكريم: سورة طه ( 20 )، الآية: 130، الصفحة: 321.
9. الخصال ـ للصدوق ـ: 452 ح 58 من أبواب العشرة، و الوسائل، الصلاة أبواب الذكر باب 49، 7 / 226.
10. القران الكريم: سورة الأعراف ( 7 )، الآية: 205، الصفحة: 176.
11. الكافي ـ الأصول ـ: 2 / 383 ح 17، الوسائل: 7 / 227 ح 6.
12. إكمال الدين ـ للصدوق ـ ( المطبوع باسم « كمال الدين » خطأ ) 1 / 352 باب 33، ح 49 و عنه بحار الانوار: 52 / 149 ح 73.
13. الكافي، كتاب الزي و التجمل، باب لباس البيض: 6 / 5 ـ 466 ح 3.
14. الحدائق الوردية ـ للمحلي ـ: 1 / 192.
15. وصول الأخيار إلى أصول الأخبار: 152 عن الكافي: 1 / 51.
16. المصدر، نفس الموضع.َ
17. قواعد التحديث ـ للقاسمي ـ: 207.
18. توجيه النظر ـ لطاهر الجزائري ـ: 76.
19. تدريب الراوي ـ للسيوطي ـ: 312.
20. وصول الأخيار: 152.
21. القران الكريم: سورة الزمر ( 39 )، الآية: 18، الصفحة: 460.
22. وصول الأخيار: 153: عن الكافي 1 / 51.
23. لاحظ: وصول الأخيار: 155.
24. السنة قبل التدوين ـ لمحمد عجاج الخطيب ـ: 130.
25. وصول الأخيار: 151 ـ 152.
26. السنة قبل التدوين: 134.
27. أضواء على السنة ـ لمحمود أبي رية ـ: 179، و لاحظ تعقيبنا عليه في كتابنا « تدوين الحديث ».
28. وصول الأخيار: 151، و السنة قبل التدوين: 134.
29. وصول الأخيار: 156.
30. منتقى الجمان: 3 / 258.
31. نهج البلاغة، مقدمة الشريف الرضي: 34.
32. نهج البلاغة، الخطبة ( 233 ): 354.
33. المراقبات، للملكي: 105.
34. انظر: دائرة المعارف الإسلامية الشيعية، للسيد حسن الأمين 12 / 50 بعنوان « الدعاء »، و ص 80 بعنوان « الصحيفة السجادية ».
35. انظر: الكافي: 2 / 466 ـ 577 طبعة دار الكتب.
36. الذريعة: 8 / 182 ـ 196 و 199 ـ 206، بعنوان الدعاء و الدعوات، و انظر: دائرة المعارف الإسلامية الشيعية ج 12 مجلد 3 ص 50.
37. كشف المحجة لثمرة المهجة: المقدمة، بقلم الشيخ الطهراني، و انظر صفحة 131 من أصل الكتاب.
38. الصحيفة السجادية، مقال نشر في مجلة « البلاغ » الكاظمية، السنة الاولى، العدد 6.
39. خزانة الأدب، للبغدادي: 1 / 4 ـ 7، الطبعة الاولى.
40. فصل من كتاب « الدعاء في الاسلام: ما هو؟ و كيف؟ و لماذا؟ » للعلامة السيد محمد رضا الحسيني.
2018-11-14