الرواية العاشرة: مفقود الأثر
الرواية العاشرة: مفقود الأثر – رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله في منزل الشهيد جوني بت اوشانا في تاريخ 01/01/1987م.
الشهيد جوني بُت أوشانا
مكان الاستشهاد: هور الهويزه، خوزستان
تاريخ الاستشهاد: 14/03/1985م
192
158
الرواية العاشرة: مفقود الأثر
توقظني أمّي من نومي بصوتها المتهدّج من دون أن تلتفت. إنّها تحكي على الهاتف. أُنصتُ بهدوء لأعرف ما الخبر. يتّضح من كلامها أنّها تُخابر أختها، الخالة سوري. فوالدتي تتكلّم براحةٍ مع الخالة سوري فقط، وتبثّ لها شجونها. تحكي الآن معها عن منام شاهدته ليلة الأمس. لقد رأت في منامها أنّ جوني قد عاد.
جوني هو أخي الأكبر. أنا نيلسون، وأخي الآخر اسمه جونسون. كلانا أصغر من جوني. ولدينا أخ آخر اسمه تشارلي هو أكبر من جوني. كُنّا أربعة إخوةٍ أنا أصغرهم. والآن قد مضت سنةٌ على غياب جوني عنّا وبقينا ثلاثة إخوة.
في العادة، لا تُخبر والدتي مناماتها لأحد. لكنّها مؤخّراً صارت تحكي أحياناً لخالتي سوري عن هذه المنامات، فخالتي قد فقدت زوجها منذ عدّة أشهر على أثر تصادم سيّارة، ومنذ تلك الحادثة ووالدتي تتّصل بها يوميّاً من دون استثناء. ومن الطبيعي والحال هذه، أن لا تُمسك أمّي عن الكلام وتُخبر الخالة بمناماتها.
لقد استشهد جوني السنة الماضية في الجبهة في مكان اسمه هور الهويزة، ولم يكن قد بقي على إتمامه خدمته العسكريّة إلاّ شهران. لكنّهم لم يحضروا لنا جثمانه، قالوا إنّه استشهد ولم يجدوا له جثماناً. صار مفقود الأثر.
منذ السنة الماضية حين وصلنا ذلك الخبر، وأمّي تنتظر دائماً وعينها على الباب. لكن طوال هذه السنة لم يصلنا أيّ خبر عن عودة أخي جوني. والآن قد رأت أمّي في منامها أنّ جوني قد عاد. لم تكن حتى الآن قد شاهدت مناماً كهذا. كانت تراه في المنام، لكن لم تره قد عاد من قبل. ولهذا فقد استبشرت خيراً واستشعرت أنّ خبراً ما سيأتينا حتماً.
قلبي فارغ ولا قدرة لي على الهدوء أو الاستقرار. أعيش تخبّطاً في داخلي. والدتي الّتي لم تعلم أنّني عرفتُ بمنامها اللّيلة الماضية، تتعجّب من سلوكي. وكذلك يتعجّب والدي وإخوتي. اليوم هو يوم الجمعة والجميع في المنزل. عند الساعة الحادية عشرة قبل الظهر،
193
159
الرواية العاشرة: مفقود الأثر
يدقّ جرس المنزل. أركضُ باتجاه باب الباحة. أفتح الباب لأرى أنّه ما من خبر عن جوني، فخلف الباب تقف الخالة سوري.
عند الساعة الثانية عشرة، يأتي شخصان آخران ويدقّان جرس المنزل، لكن لا علاقة لأيٍّ منهما بجوني. الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً يدقّ جرس المنزل مرّة أخرى. يقول جونسون: “افتح الباب، هيّا، طِر وافتح الباب”، ويضحك عليّ! ترمقه والدتي بنظرة عبوس حتّى يدعني وشأني. أقول: “بل افتح الباب بنفسك! أصلاً ما شأني أنا!” وأذهب مغتاظاً إلى إحدى الغرف. أسمع صوت الجرس مرّة أخرى، ومن خلف نافذة الغرفة أنظر إلى الخارج لأستطلع ما يجري. لقد وقف جونسون مع شخص لا يُمكنني أن أراه من النافذة، وراحا يتحدّثان. يطول حديثهما دقائق عدّة. أُفكّر أنّه أحد أصدقائه، لكنّني لست متأكّداً. لعلّ الّذي يتحدّث معه هو شخصٌ له علاقة ما بجوني. وأنا في خضمّ أفكاري يغلق جونسون الباب. يحمل في يده مغلّف رسالة. يرفع يده عالياً ويُنادي بشكل متقطّع وهو في باحة المنزل: ما..ما…ماما…. جا…جا… جوني…جوني!
تأخذ والدتي المغلّف، تضعه على قلبها وتبكي. لقد تمّ تفسير منامها ليلة البارحة. لقد أحضر أحد رفقاء جوني الآشوريّين في الجبهة هذه الرسالة إلينا. كان جوني قبل يوم من شهادته قد أعطاه هذا المغلّف وقال له: هذه وصيّتي؛ أوصلها إلى عائلتي. ولكنّ رفيقه كان قد جُرح ولم يستطع أن يوصل لنا الرسالة إلا اليوم.
أجواء المنزل عابقة بعطر أخي جوني ورائحته. وكأنّه قد رجع بالفعل!
نجتمع كلّنا داخل الغرفة. الوالد، الوالدة، الخالة سوري، تشارلي، جونسون وأنا.
تقول الخالة: “لا أحد فيكم حالته طبيعية، دعوني أنا أقرأ الرسالة”.
تُعطي والدتي الرسالة للخالة. تفتح خالتي المغلّف من زاويته بهدوء وتخرج منه عدّة أوراق.
ألصق نفسي بالخالة حتى أرى المكتوب فيها.
تتنحنح الخالة وتبدأ بقراءة الرسالة:
“بسم الله،
عائلتي الأعزّ من روحي،
194
160
الرواية العاشرة: مفقود الأثر
سلام،
أرجو أن تكونوا عندما تصل إلى أيديكم هذه الأوراق في خيرٍ وعافية، تنعمون إلى جوار بعضكم البعض بتلك الحياة الرغيدة والسعيدة الّتي لطالما كانت متحقّقة في رأيي، وأن تكونوا مشمولين بعناية الله الواحد وعناية السيّد المسيح وحضرة السيّدة مريم الّذين هم وحدهم حماة المسيحيّين وبالخصوص عائلتنا.
أكتب لكم هذه السطور في لحظات ما قبل الانطلاق باتّجاه العدوّ المعتدي لأجل استعادة حقّنا وتراب أرضنا وبلدنا. وأعتذر عن سوء خطّي فأنا جالسٌ داخل حفرة صغيرة مع رفيق آخر قد لذنا بها من قصف الطائرات الحربيّة العراقيّة. أحببتُ أن أكتب إليكم كلمات عدّة حتّى لا أذهب إلى ديار المعبود وفي قلبي كلام لم أقله”.
يعلو صوت بكاء والدتي، وتبدأ بالنحيب. تتوقّف الخالة لحظات عدّة عن قراءة الرسالة ريثما تهدأ أمّي. أغلق عيني وأفكّر في حالة أخي جوني عند كتابة الرسالة: شخصان في داخل حفرة صغيرة، تُحلّق فوقهما المقاتلات العراقيّة. أفتح عينيّ مجدّداً على صوت الخالة وأتأمّل في خطّ جوني.
“أبي العزيز والغالي”.
195
161
الرواية العاشرة: مفقود الأثر
أنظر إلى أبي وقد اغرورقت عيناه بالدموع.
“أبي العزيز والغالي، الّذي سعى دائماً وأبداً أن يؤمّن لنا الحياة الكريمة الرغيدة، أشكرك على كلّ ما بذلت وأطلب العذر منك على كلّ طلب أو إلحاح كان قد صدر منّي في بعض الأوقات. كلّ ما صدر منّي كان عن جهالة وقلّة بصيرة وإلاّ لم يكن مقصودي أبداً، وليته خرس لساني عن أذيّتك والإساءة إليك. أتمنّى لك وأنا في مكاني هذا التوفيق في أعمالك وشغلك لأجل عيش أفضل ورفاهية للمنزل والأسرة التي ترعاها”.
يمدّ الوالد يده ليحمل صورة صغيرة كانت موضوعة على الرفّ، ويتأمّل فيها خلف ستار من الدموع. يتأمّل في صورة لجوني وله ولجونسون.
“وأمّا الوالدة العزيزة، لا أعرف ماذا أكتب لك، صدّقي أنّني كنتُ دائماً وأبداً أسعى أن أُظهر تقديري لأتعابك وجهودك، ليس أنت فقط بل والدي أيضاً، ولكن لم أُفلح. لم تدعني هذه الحرب اللعينة. والدتي الحبيبة في هذه اللّحظات قلبي في غاية الشوق إليك”.
صوت بكاء أمّي لا ينقطع. خالتي نفسها عندما وصلت إلى هذه الجملة، خنقتها العبرة ولم تستطع أن تستمرّ بالقراءة. تسكت قليلاً، تمسح دموعها بكمّها ثم تُكمل القراءة من جديد:
“والدتي الحبيبة، في هذه اللّحظة قلبي في غاية الشوق إليك، ففيما أنا جالس على
196
162
الرواية العاشرة: مفقود الأثر
هذا التراب تمرّ أمام ناظري صورتك تأتين فوق رأسي لتُدفئيني وقد حرّمت النوم على نفسك من أجلي.
ليتك في هذه اللحظات كُنتِ هنا، حتى أُمسك بيدَيْك الطاهرتَيْن والحنونتَيْن وأنثر عليهما القبلات. اسعي أكثر من قبل أن تظهري المحبّة لوالدي، وأن لا تغفلي عنه لحظة واحدة، ففي لحظات الهرم والكبر، سيكون والدي العطوف والرؤوف هو صاحبك ورفيقك الوحيد”.
تتوقّف الخالة سوري للحظات عن قراءة الرسالة وتنظر إلى تشارلي. يختنق تشارلي بغصّته ويُطأطئ رأسه، من الواضح أنّ قلبه يحترق شوقاً إلى أخيه الأصغر.
“أخي المحترم تشارلي.
“أخي، لم تأتِ اللّحظة الّتي نجلس فيها إلى جوار بعضنا ونحتفل بنهاية خدمتك. أتمنّى أن تفرح أنت عوضاً عنّي، وكن مطمئناً أنّ فرحك هو فرحي وسعادتك هي سعادتي. حبيبي تشارلي، لي عندك حاجة. وكلامي هذا موجّه إلى جميع أفراد عائلتي.
“أتمنّى عليك أن تُعطّر كل زاوية في منزلنا بعطر السعادة والفرح. قم الآن وقبّل وجه أمّي. وعِدني أن تكون بارّاً بها على الدوام. في هذه اللّحظات التي أخطّ فيها هذه السطور، أخالك في حضن والدتي. هذه كانت أمنية أخ أصغر منك. أرجو لك السعادة والتوفيق”.
تشارلي الّذي كان قد جلس إلى جوار أمّي، بدل أن يُقبّل وجهها، يأخذ يدها ويُقبّلها، والوالدة كذلك تأخذه في حضنها وتُقبّل رأسه ووجهه.
“أخي العزيز جونسون. وددت أن أقول لك شيئاً وهو أن تحرص أكثر من قبل على سماع كلام أبينا وأمّنا. من الأفضل في جميع أعمالك، أن يكون معك من هو أكبر منك، تستنصحه وتُحدّثه بشأن أيّ عمل تنوي القيام به. وكن على يقين بأنّه لا يوجد أفضل من الأب والأم والأخ ناصحاً للإنسان. أستودعك الله وأتمنّى أن تتمكّن من إتمام وإتقان كلّ عمل تبدأ به في حياتك. إنّ التجوال في الشوارع لا يفيد الإنسان بشيء أبداً”.
أُفكّرُ في أنّ جوني، في حالته تلك راح يُفكّر بي أيضاً؛ وأرى الخالة قد استدارت ونظرت إليّ.
“أخي الأصغر والعزيز والجميل نيلسون”.
197
163
الرواية العاشرة: مفقود الأثر
أرغب بالصراخ والوثوب عالياً. آخ… ذكره الله بكل الخير. لطالما كان يُناديني كما ناداني في الرسالة بصوتٍ محبّ. “أخي الأصغر والعزيز والجميل نيلسون”.
“أيّها المشغول دوماً! أنت أيضاً اهتمّ بدراستك. لا تدع الوالدة والوالد يُذكّرانك دوماً بما ينبغي أن تقوم به. لقد صرت شابّاً ويُمكنك أن تُدرك ما الّذي يجب عليك فعله. لا سمح الله، لا تُؤذِ أو تُسبّب الإزعاج لأبيك وأمّك وإخوتك. أينما ذهبت أطلع العائلة على مكان توجّهك”.
أُردّد في قلبي كلام أخي جملة جملة وأعده بأنّني سأعمل بكلّ ما أراد.
“إخوتي الأعزّاء، هل تعلمون بماذا أُفكّر؟ لقد كُنتُ أتمنّى كثيراً أن أرى زوجاتكنّ؛ خاصّةً زوجة تشارلي، لكنّ الفرصة لم تسنح. فإذا كان ممكناً اذكروني ولو مرّة عند زواجكم وكونوا مطمئنين أنّني أُفكّر بكم دائماً”.
“الخالة العزيزة سوري،
عندما تصل الخالة سوري إلى ذكر اسمها تضع الرسالة على صدرها وتقول: “فدتك نفسي يا خالتي، أن ذكرتني”.
“خالتي العزيزة سوري،
“لقد فقدتِ عزيزاً آخر من أعزّائك، لكن لا تيأسي، هكذا هي الحياة. تطلّعي إلى الأمام وكوني في استبشار لحياة أفضل. كلّ من غادرك، يُفكّر بك بالتأكيد.
أوصي عائلتي أن يهتمّوا بخالتنا العزيزة هذه، في جميع حاجاتها وشؤونها وأن يكونوا لها يد العون والسند.
أطلب العذر من جميع معارفنا، من جميع الأقرباء والعائلة، أعمّ من الأخوال وزوجات الأخوال وأولاد الأخوال، والأعمام طبعًا، وأولاد الأعمام، على أنّني كُنتُ قد أثقلت عليهم أكثر من الحدّ المطلوب، كذلك الأمر من عمّاتي العزيزات. إذا كُنتُ قد قمت بعملٍ ما آذاهم جرّاء جهلي فأطلب العفو منكم. جدّي وجدّتي، أستودعكما الله العزيز، أوصلوا سلامي أيضاً إلى جميع الأصدقاء خاصّة أبريم، ويوسف وعائلتَيْهما”.
تضع الخالة إصبعها تحت الكلمات وهي تقرأ الرسالة حتى لا تضيع بين السطور. وأنا أتبع إصبعها بعيني، لقد وصلنا إلى آخر الرسالة، بقي فقط سطران.
198
164
الرواية العاشرة: مفقود الأثر
“وأنا على يقين أنّ روحي من هذه اللّحظة وما بعدها ستكون في سعادة وقرينة النعمة، وذلك بدعائكم أنتم. فقط أرجو منكم أن لا تحزنوا وتتأسّفوا وتبكوا كثيراً؛ لأنّه لا قدرة لي على الوفاء بقيمة محبّتكم”.
ابنكم مع خالص تقديري
12/03/1985
أشعر مع هذه الرسالة أنّ حبّي لأخي جوني قد تضاعف مئات المرّات. أقف لأجلب صورته الموضوعة على الرف وأمطرها بالقبلات، وأهمس في أذنه: أُحبّك كثيراً يا أخي جوني!
* * *
إنّه فصل الشتاء والجو باردٌ بارد. النوم تحت “الكرسي”1 في هذا الصقيع الشتوي لذيذ جدًّا. تشارلي الّذي نام في الطرف المقابل تماماً من “الكرسي” يوقظني بركلات من قدمه على قدمي، ويُخرّب حلاوة نومي قائلاً:
1- “كرسي” أو المنضدة هي وسيلة تدفئة تقليديّة، يستخدمها أهالي القرى الباردة في إيران وأفغانستان في الشتاء. وهي عبارة عن طاولة خشبية بمساحة متر مربع أو أكثر وارتفاع ثلاثة أشبار أو أكثر، تُغطّى بلحاف كبير من مقاس 4×4 او 7×7 متر حتى لا يخرج الدفء الحاصل من الموقد الموضوع تحت الطاولة ولا يضيع هدراً. ثمذ يوضع على اللحاف شرشف مزين يوضع عليه الشاي وباقي مستلزمات السهرة العائلية. ويجلس أفراد الأسرة حول الكرسي من الأطراف الأربعة فيمدّدون أرجلهم ويتغطّون بأطراف اللحاف الكبير. وفي أيام الشتاء القارس ينام أفراد الأسرة حوله أيضاً. (المعرب).
199
165
الرواية العاشرة: مفقود الأثر
– نيلسون، طرقٌ على الباب، قم وافتح.
أفتح عينيّ الزائغتَيْن وأقوم من تحت “الكرسيّ”. إنّها الساعة التاسعة والنصف صباحاً، والوالدة ليست في المنزل. لعلّها قد ذهبت لشراء الخبز للفطور. أقوم من مكاني وأفتح الباب. يُسلّم عليّ رجلٌ شابٌّ وممتلئ، أتثاءب وأردّ السلام.
– معذرةً أيّها الصغير، وكأنّي أيقظتك من نومك. هل هذا منزل الشهيد جوني بت أوشانا؟
لشدّة النعاس، أهزّ رأسي إيجاباً من دون أن أتكلّم. يخطر في بالي للحظةٍ أنه قد يكون أتانا بخبر عن جثمان أخي جوني ويطير النعاس من عينيّ.
أقول بانفعال: نعم، ههنا. أنا أخوه. هل من خبر؟ هل وجدتموه؟
– كلا وللأسف. لقد أردنا اللّيلة أن نأتي للقائكم في المنزل وأردتُ أن أتأكّد إن كان الوالد والوالدة موجودَيْن أم لا.
تزول حماستي وأقول:
– والدي ليس في المنزل، إنّه في سفر. أمّا والدتي وأخي الأكبر فموجودان.
– إذاً سوف نثقل عليكم اللّيلة لمدّة نصف ساعة.
يقول هذا ويُسلّم ويذهب.
حينما رنّ جرس المنزل كان الجوّ في الغرفة دافئاً. تجول والدتي بنظرها على الغرفة لتتأكّد أنّ كلّ شيء مرتّب وفي محلّه. ثم تقول لي: نيلسون حبيبي، اذهب وافتح الباب ماما.
الرجل نفسه الّذي أتى صباحاً ومعه عدّة أشخاص آخرين، جاؤوا محمّلين بالورد والحلوى. يدخلون إلى المنزل ويُسلّمون على والدتي وتشارلي ويعتذرون عن مزاحمتهم ليلة عيد الميلاد. ووالدتي كما هي عادتها تستقبل ضيوفها بحميميّة ودفء وتشكرهم على تحمّلهم عناء المجيء إلى منزلنا.
يجلس الضيوف وينظرون إلى باب المنزل وجدرانه. تمرّ دقائق عدّة. وفيما كانت والدتي تُحضر الشاي، يقول أحدهم: المعذرة إنّنا صامتون قليلاً، ففي النهاية ضيفكم الأساسي ليس نحن. الضيف الأساسي يصل بعد دقيقة أو دقيقتَيْن. تقول والدتي بكلّ بساطة: “لا مشكلة، أيضاً مجيئه يُشرّفنا، ننتظر مجيئه.
200
166
الرواية العاشرة: مفقود الأثر
في هذه اللحظة، يرنّ جرس المنزل. أقف لأذهب وأفتح الباب فيُمسك ذلك السيّد بيدي ويقول: لديّ كلام معك اجلس، صديقي يفتح الباب.
أجلس لأسمع كلامه. يقول: ضيفكم الأساسي الليلة هو السيّد رئيس الجمهورية السيّد الخامنئي.
حينما تسمع أمّي اسم السيّد الخامنئي تقف بارتباك وتذهب باتجاه الباب ونركض نحن خلفها. تلتقي والدتي بـالسيّد الخامنئي أسفل الدرج. تُسلّم عليه وتُقبّل يده من فوق عباءته، وأنا وتشارلي أيضاً، نُسلّم عليه عند مدخل المنزل ونتمنّى عليه الدخول. نجلس أنا وتشارلي والوالدة و”السيّد” على طاولة السفرة، ويبدأ هو بالتحيّة وتلطيف الأجواء. يسأل والدتي فيما بعد عن سبب تقبيلها ليده، فتُجيبه: سيّد، نحن في الكنيسة نُقبّل يد القسّ وأنتم أيضاً بالنسبة إليّ مثل القس، ولهذا السبب طلبت إجازتكم بتقبيل يدكم.
ينظر “السيّد” إلى الصور على الرفوف في الغرفة ويُشير إلى إحداها، ويسأل: هل هذه صورة الشهيد؟
أقوم مسرعاً وأجلب صورة جوني الموضوعة على الرف وأضعها في يد “السيّد”. يتأمّل الصورة وتبدأ والدتي بالتعريف بجوني:
– عندما أقول إنّ جوني كان الأفضل يقولون إنّ هذا كلام الأم، ولكنّي أقول للجميع، هذا لا علاقة له بكوني والدته، كان جوني من بين كلّ أفراد العائلة فريداً بلحاظ إيمانه وأخلاقه
201
167
الرواية العاشرة: مفقود الأثر
ودرسه، كان معروفاً بذلك، لم يكن يترك كنيسته. كان ملتزماً بالعبادة بالكنيسة كلّ أسبوع.
مكان الوالد وجونسون خالٍ في المنزل. الوالد سائق شاحنة وقد أخذ ليلة البارحة حمولة إلى كرمان. وفي أسرع تقدير يصل إلى المنزل بعد الغد صباحاً. جونسون أيضاً، قد سافر قبل شهرَيْن إلى ألمانيا لأجل الدراسة. ليس هنا الآن ليُمتّع ناظرَيْه برؤية السيّد الخامنئي عن قرب.
بعد تطييب خاطر والدتي والتحدّث عن مقام الشهداء العالي عند الله، يتحدّث “السيّد” معي ومع تشارلي. يسألنا ما إذا كُنّا مشغولَيْن بالدراسة أو العمل. وتغمر السعادة أمّي من وجود “السيّد” في منزلنا.
يقف تشارلي ويذهب ليحضر الشاي. كانت أمّي قد أعدّت لأجل أيّام العيد بعض الحلوى وقد وضعت طبقَيْن من هذه الحلوى على الطاولة. عندما تُقدّم أمّي الحلوى إلى “السيّد”، يأخذ بغاية اللّطف قطعة ويُقدّمها لنا، ثم يأخذ قطعة لنفسه ويأكلها. حلاوة هذه الحلوى تسند القلب.
منذ بداية هذه الزيارة شغل بالي صبي صغير كان قد جلس بجانبي مقابل “السيّد” تماماً. كان عمره تقريباً عشر سنوات. وكما هو شكل تلاميذ هذه الأيام، كان قد قصّر شعر رأسه بالماكينة، فأدّى ذلك إلى أن تبرز جاذبية وجهه أكثر. وعندما ألتفتُ من يكون هذا السيّد تزداد حماستي! إنّه ابن “السيّد” الخامنئي! لو أنّ شخصاً في الشارع أشار إليه وقال لي هذا الصبي هو ابن رئيس جمهورية إيران لما كان بالإمكان أن أُصدّقه. وهل من الممكن ذلك؟ بهذا اللّباس وهذا المظهر البسيط جدًّا؟ أصلاً لا يُمكن أن يُصدّق أن يكون ابن وزير
202
168
الرواية العاشرة: مفقود الأثر
أو حتى ابن محام، فكيف بابن رئيس الجمهورية! باتت الآن كلّ حواسي متوجّهةٌ إليه، وأرمقه بعيني. يا ليتني كنتُ أستطيع أن أُمسك بيده وآخذه إلى الزقاق. أجول به في جميع المحال التي يرتادها الأطفال وأقول انظروا! هذا ابن السيّد الخامنئي. نعم، ابن رئيس الجمهورية، لقد جاؤوا إلى منزلنا، والآن والده “السيّد” نفسه موجود داخل بيتنا الصغير.
تمّر الدقائق بسرعة وأنا غارق في هذا التفكير، ويهمّ الضيوف الأعزّاء بالمغادرة. ينقبض قلبي من انتهاء هذه الزيارة العذبة.
قبل أن يودّعنا السيّد الخامنئي، يسأل إن كُنّا بحاجة لأيّ شيء، أيّ خدمة أو حاجة أو طلب.
تقول والدتي وتشارلي إنّ أمورنا حسنة، و”طلبنا الوحيد هو من الله فقط؛ أن يحفظكم سالمين”. يأخذ “السيّد” من أحد مرافقيه رقم هاتف مكتبه ويُعطيه لوالدتي ويقول: “في أيّ وقت إن احتجتم إلى أيّ شيء لا تتردّدوا”.
ثم يُقدّم هديّة لوالدتي ويستجيزها بالانصراف.
تغرق أمّي في خجلها:
– ما هذا الكلام يا سيّد. نحن رهن إشارتكم أنتم، دمتم في حفظ الله ورعايته. لقد مننتم علينا كثيراً أن شرّفتمونا في منزلنا. رفعتم رؤوسنا وأدخلتم السعادة على قلوبنا.
يردّ عليها “السيّد” أنّه لم يفعل شيئاً، فقط قد قام بواجبه. ومن دون أيّ ضجيج أو جلبة يركب السيّارة ويذهب. بعد عدّة دقائق على ذهاب “السيّد” يتدافع الجيران إلى داخل المنزل. لا أعلم من أين عرفوا، ولكنّ جميع أهل المحلّة باتوا يعرفون أنّ رئيس الجمهورية قد زارنا في منزلنا.
203
169
الرواية العاشرة: مفقود الأثر
يسألون ويستفسرون، كلّ منهم مشغول بمعرفة أمرٍ ما؛ على أيّ كرسي جلس “السيّد”؟ وماذا قال؟ وما الذي أكله في منزلكم؟ وماذا قُلنا نحن؟ وماذا طلبنا؟ وماذا جرى؟
كُنتُ أُريد أن أروي قصّة ما جرى في المدرسة صباح الغد أمام كلّ الطلّاب، ولكنّ زملاء عدّة مثل بقيّة أهل المحلّة قد أتوا إلى منزلنا، وسألوني أيضاً عن مجريات هذه الزيارة. وكانوا بعد جوابي عن كلّ سؤالٍ يقولون: هنيئاً لك يا نيلسون! ليتنا كُنّا مكانك.
قصّة مجيء ابن “السيّد” لم آتِ على ذكرها أبداً، وأدعها للغد لأُخبر الجميع عنها في المدرسة.
السيّد نيلسون بت أوشانا، أخو الشهيد 10-2014 م