أسرار الصلاة – الجليل الشيخ الجوادي الآملي 16
25 أبريل,2020
صوتي ومرئي متنوع, طرائف الحكم
965 زيارة
والمصلَّي إذا نجا من جانبي الغضب والضلال ومشى على الصراط السويّ وأخلص عبادته للَّه تعالى يأتيه اليقين ، أي : عين اليقين ، فيشاهد ما فهمه بالبرهان ، ويجد ما وعده القرآن بقوله تعالى * ( « وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ » ) * « 1 » ، إذ المراد من الآية : هو بيان الفائدة ، لا الغاية ؛ لأنّ معناها : أنّ من بركات العبادة وفوائدها هو : حصول اليقين ، لا أنّ المراد منها هو تحديد العبادة وتعيين حدّها به ، بحيث إذا حصل اليقين ما زالت الحاجة إلى العبادة ، بأن تكون العبادة بمنزلة النعلين ، حتّى إذا بلغ السالك إلى الوادي المقدّس – اليقين – يلزم خلعهما ، بل العبادة بمنزلة المقدّمتين للنتيجة ، والمرقاة للصعود إلى الدرجة الراقية ، بحيث يلزم حفظ المقدّمتين للنتيجة حدوثا وبقاء وكذا صون السلَّم للصعود ، حتّى إذا زالت المقدمتان زالت النتيجة ، وإذا سقط السلَّم هبط الصاعد كهبوط الشيطان المرجوم بقوله تعالى :
* ( « فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها » ) * « 2 » .
ثمّ إنّ المصلَّي المناجي ربّه قد يكون نجواه بلا وسيط من حجاب أو رسول ، وقد يكون من وراء حجاب ، وقد يكون بوساطة رسول ، كما أنّ اللَّه تعالى المتكلَّم لعبده لا يكلَّمه إلَّا بأحد الأنحاء الثلاثة حسبما أفاده في سورة الشورى ، حيث قال تعالى :
* ( « وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَه ُ ا للهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِه ِ ما يَشاءُ إِنَّه ُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ » ) * « 1 » .
والسبب في التثليث المذكور هو ضعف الممكن عن التكلَّم ، أو الاستماع بلا وسيط دائما ، بل إنّما هو للأوحديّ من الإنسان حيّنا ، وحيث إنّ تكلَّم العبد مع مولاه فرع تكليم اللَّه إيّاه وكان ذلك على ثلاثة أنحاء كان تكلَّم العبد أيضا كذلك ، ولا بدّ هنا من التنبّه لأمرين :
أحدهما : أنّ اللَّه الحائل بين المرء وقلبه أقرب إلى المصلَّي المناجي من نفسه إليه فضلا عن غيره ، فلا وسيط ولا حاجب من ناحيته تعالى ، إنّما الوساطة والحجاب من جانب المستمع الواعي دائما .
وثانيهما : أنّ الحجاب المنتفي في القسم الأوّل من الأنحاء الثلاثة إنّما هو بالقياس إلى النحوين الآخرين المذكور أحدهما في القسم الثاني ، وهو ما يكون من وراء حجاب ، والآخر في القسم الثالث ، وهو ما يكون بإرسال الرسول . وأمّا بالقياس إلى نفسه فهو أيضا حجاب لا محالة ؛ لأنّ الممكن المحدود يكون أصل وجوده وحدّه وتقيّده وتعيّنه حجابا عن شهود الوجود البحت ، المطلق المنزّه عن الحدّ المقدّس عن القيد ، فلا حجاب بينه وبين اللَّه سبحانه إلَّا نفسه كما أشار إليه بعض النصوص .
ومن هنا يمكن أن يقال بأنّ التكليم منحصر في وراء الحجاب ، وكذا النجوى منحصر فيه ، ولقد أفاد صاحب الفتوحات حصر المناجاة في وراء الحجاب « 2 » ، وإن كان الحقّ هو : كون الحصر من جانبي التكليم والنجوى ، وكون منشإ الحجاب فيهما هو قصور الممكن وضعفه ، حتّى في مرتبة الفناء الذي لا يشاهد فيه الفاني نفسه ؛ لأنّ ذاته المحدودة وإن لم تكن مشهودة حينذاك ولكنّها ليست معدومة ، وإلَّا لما كان الفناء كمالا ، بل موجودة ، فإذا كانت موجودة فلها حكمها الخاصّ من
الحجاب ، فتدبّر .
فعند اتّضاح أنحاء النجوى وأنّ الأصل الحاكم في أنحائه هو كونه من وراء الحجاب وأنّ نفي الحجاب نسبيّ لا نفسيّ يتبيّن معنى الخطاب في قوله * ( « إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ » ) * ، ومعنى الدعاء الشفهيّ في قوله * ( « اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ » ) * ، كما أنّه يتبيّن سرّ تقديم التوجّه بالأولياء في افتتاح الصلاة ، وقبل دخولها « 1 » ، إذ الخطاب والدعاء لأكثر الناس بل لكثيرهم ليس إلَّا من وراء الحجاب وإن كان ذلك الحجاب من قبلهم لا من اللَّه سبحانه . وأمّا الأوحديّ من الَّذين استخلصهم اللَّه لنفسه نجيّا فهو وإن لم يكن هناك حجاب مركوم ومركَّب ولكن لا محيص هنالك عن الحجاب البسيط ، وهو نفس ذاك المناجي وذاته .
هذا نبذ ممّا يرجع إلى أصل النداء والنجوى وأنحائه ، وإلى ما تحويه سورة الحمد ، مع أنّ أصل الحمد من تعليم اللَّه سبحانه ، إذ لو حبس عرفان حمده عن عباده على ما أبلاهم من مننه المتتابعة وأسبغ عليهم من نعمة المتظاهرة لتصرّفوا في مننه فلم يحمدوه ، وتوسّعوا في رزقه فلم يشكروه ، ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الإنسانيّة إلى حدّ البهيميّة ، فكانوا كما وصف في محكم كتابه * ( « إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا » ) * « 2 » ، على ما أفاده مولانا السجاد – عليه السلام – في صحيفته « 3 » ، فعليه يكون الحمد فصلا مقوّما أخيرا للإنسان فهو ناطق حامد .
وأمّا ما يرجع إلى السورة فحيث إنّ المصلَّي له الخيرة في قراءة أيّة سورة شاء من القرآن – عدا العزائم الأربع – فلا مجال للبحث عن سرّ سورة خاصّة يعيّنها إلَّا بما يرجع إلى أصل الخطاب ، وإلى أصل القرآن ، وقد مرّ منها ما يناسب هذا المختصر ، ولكن لمّا قرأ رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – في المعراج سورة التوحيد – حسبما أمره اللَّه تعالى بأن قال : « اقرأ يا محمّد نسبة ربّك قل هو اللَّه أحد » « 4 » – فبالحري أن يشار إلى
شطر من سرّها .
وليعلم : أنّه قد ورد في شأن سورة التوحيد ، وكذا الآيات الستّ من أوّل سورة الحديد ما لا ينبغي الذهول عنه ، وهو ما رواه الكلينيّ – رحمه اللَّه – بإسناده عن عاصم ابن حميد قال : سئل عليّ بن الحسين – عليهما السّلام – عن التوحيد ؟ فقال : « إنّ اللَّه – عزّ وجلّ – علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون ، فأنزل اللَّه تعالى * ( « قُلْ هُوَ ا للهُ أَحَدٌ » ) * ، والآيات من سورة الحديد إلى قوله * ( « وَا للهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ » ) * ، فمن رام وراء ذلك فقد هلك » « 1 » .
إنّ التعمّق : هو التأمّل في العمق ، كما أنّ التدبّر : هو التأمّل في الدبر ، وحيث إنّ للقرآن بطنا بل بطونا فللتعمّق فيه مجال ، كما أنّ له إنباء عمّا يأتي من الحوادث فللتدبّر فيه مجال أيضا . والقرآن آخر كتاب إلهيّ نزل ، وهو خاتم الكتب وخاتم الصحف ، والناس في تكامل حلومهم إلى حدّ يليقون لظهور خاتم الأولياء وخاتم الأوصياء المهديّ المنتظر أرواحنا فداه ، وحينذاك تتعالى العلوم الشهوديّة ، باطَّلاع غير واحد من الناس على الغيب بما يراه من نوره ، وتتكامل العلوم الحصوليّة بعثور غير واحد من الأذكياء على براهين المبدأ والمعاد ، فلا بدّ من علم شهوديّ جامع ، وكذا من علم برهانيّ كافل ، ولكلّ واحد منهما أصحاب ورجال يختصّ به ، ووليّ العصر – عليه السّلام – هو المعلَّم الجامع بين الغيب والشهود ، كما أنّ القرآن كتاب كافل لهما وعلى كاهله تعليم الحكماء ، وإراءة العرفاء فلذا يلزم أن يشمل على ما لا حدّ فوقه ، ولا مقام إمكانيّ وراءه ، وكل حدّ برهانيّ أو مقام شهوديّ يفهمه الحكيم أو يشهده العارف فالقرآن واجد له ، وحيث إنّ الأساس لجميع المعارف هو التوحيد – وكلَّما كمل العلم به كمل العلم بغيره من المعارف الراجعة إليه – فلذا أنزل اللَّه سبحانه ما هو الشامل لأقصى مراتب البرهان ، وأعلى درجات العرفان ، كما هو المترقّب من القرآن الهادي لهما إلى لقاء الرّحمن .
ومن هنا تبيّن أنّ ظاهر النصّ المذكور هو مدح التعمّق ، وترغيب المتعمّقين ، وأنّه لا حدّ وراء ما تحويه سورة التوحيد والآيات الستّ من سورة الحديد ، وأنّ تهلكة من رام وراءه فإنّما هي إرشاد إلى نفي الحدّ الفائق ، إذ السلوك فيما لا طريق إليه ولا حدّ له تيه ، والتائه هالك ، والهالك عن بيّنة في جهنم لا رحمة فيها ، كما في نهج البلاغة الكتاب 27 : « دار ليس فيها رحمة ولا تسمع فيها دعوة » .
إنّ رواسي الحكمة المتعالية وأوتادها الَّذين وتّد اللَّه سبحانه بهم بعد الأئمّة الأطهار – عليهم السّلام – ميدان أرض المعرفة ، لئلَّا يزلّ أو يضلّ أو يذلّ من ليس له حكيم يرشده ، قد استنبطوا من هذا الحديث النورانيّ ، أنّه في سياق مدح المتعمّقين ، حيث قال صدر المتألَّهين – قدّس سرّه – ما عصارته : إنّ هذا العبد كان في سالف الزمان متأمّلا في رموز القرآن وإشاراته ، وكان المتفتّح من آيات هذه السورة أكثر من غيرها ، فحداني ذلك إلى تفسير القرآن . ، وكان أوّل ما أخذت في تفسيره هذه السورة ( سورة الحديد ) . ثمّ بعد أن وقع إتمام تفسيرها . واتّفقت مصادفتي لهذا الحديث . ، فاهتزّ خاطري . ، وانبسط نشاطي . ، فشكرت اللَّه على ما أنعم . « 1 » .
وقد اقتفى صهره في الوافي أثره ؛ لأنّه منه كالضوء من الضوء ، وكالصنو من الصنو ، والذراع من العضد ، حيث قال رحمه اللَّه : لعلَّه – عليه السّلام – أشار بالمتعمّقين إلى أكابر أهل المعرفة ، ولعمري أنّ في سورتي : التوحيد والحديد ما لا يدرك غوره إلَّا الأوحديّ الفريد ؛ ولا سيّما الآيات الأول من سورة الحديد ، وخصوصا قوله عزّ وجلّ * ( « وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ » ) * « 2 » ! ولكنّ العلَّامة المجلسيّ – قدّس سرّه – بعد وصفه الحديث بأنّه صحيح احتمل في قوله عليه السّلام : « المتعمّقون » ثلاثة احتمالات :
الأوّل : أن يكون أمرا بالتعمّق ، فالمعنى : ليتعمّقوا فيه .
2020-04-25