الرئيسية / صوتي ومرئي متنوع / أسرار الصلاة – الجليل الشيخ الجوادي الآملي 16

أسرار الصلاة – الجليل الشيخ الجوادي الآملي 16

والمصلَّي إذا نجا من جانبي الغضب والضلال ومشى على الصراط السويّ وأخلص عبادته للَّه تعالى يأتيه اليقين ، أي : عين اليقين ، فيشاهد ما فهمه بالبرهان ، ويجد ما وعده القرآن بقوله تعالى * ( « وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ » ) * « 1 » ، إذ المراد من الآية : هو بيان الفائدة ، لا الغاية ؛ لأنّ معناها : أنّ من بركات العبادة وفوائدها هو : حصول اليقين ، لا أنّ المراد منها هو تحديد العبادة وتعيين حدّها به ، بحيث إذا حصل اليقين ما زالت الحاجة إلى العبادة ، بأن تكون العبادة بمنزلة النعلين ، حتّى إذا بلغ السالك إلى الوادي المقدّس – اليقين – يلزم خلعهما ، بل العبادة بمنزلة المقدّمتين للنتيجة ، والمرقاة للصعود إلى الدرجة الراقية ، بحيث يلزم حفظ المقدّمتين للنتيجة حدوثا وبقاء وكذا صون السلَّم للصعود ، حتّى إذا زالت المقدمتان زالت النتيجة ، وإذا سقط السلَّم هبط الصاعد كهبوط الشيطان المرجوم بقوله تعالى :

* ( « فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها » ) * « 2 » .
ثمّ إنّ المصلَّي المناجي ربّه قد يكون نجواه بلا وسيط من حجاب أو رسول ، وقد يكون من وراء حجاب ، وقد يكون بوساطة رسول ، كما أنّ اللَّه تعالى المتكلَّم لعبده لا يكلَّمه إلَّا بأحد الأنحاء الثلاثة حسبما أفاده في سورة الشورى ، حيث قال تعالى :
* ( « وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَه ُ ا للهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِه ِ ما يَشاءُ إِنَّه ُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ » ) * « 1 » .

والسبب في التثليث المذكور هو ضعف الممكن عن التكلَّم ، أو الاستماع بلا وسيط دائما ، بل إنّما هو للأوحديّ من الإنسان حيّنا ، وحيث إنّ تكلَّم العبد مع مولاه فرع تكليم اللَّه إيّاه وكان ذلك على ثلاثة أنحاء كان تكلَّم العبد أيضا كذلك ، ولا بدّ هنا من التنبّه لأمرين :

أحدهما : أنّ اللَّه الحائل بين المرء وقلبه أقرب إلى المصلَّي المناجي من نفسه إليه فضلا عن غيره ، فلا وسيط ولا حاجب من ناحيته تعالى ، إنّما الوساطة والحجاب من جانب المستمع الواعي دائما .
وثانيهما : أنّ الحجاب المنتفي في القسم الأوّل من الأنحاء الثلاثة إنّما هو بالقياس إلى النحوين الآخرين المذكور أحدهما في القسم الثاني ، وهو ما يكون من وراء حجاب ، والآخر في القسم الثالث ، وهو ما يكون بإرسال الرسول . وأمّا بالقياس إلى نفسه فهو أيضا حجاب لا محالة ؛ لأنّ الممكن المحدود يكون أصل وجوده وحدّه وتقيّده وتعيّنه حجابا عن شهود الوجود البحت ، المطلق المنزّه عن الحدّ المقدّس عن القيد ، فلا حجاب بينه وبين اللَّه سبحانه إلَّا نفسه كما أشار إليه بعض النصوص .

ومن هنا يمكن أن يقال بأنّ التكليم منحصر في وراء الحجاب ، وكذا النجوى منحصر فيه ، ولقد أفاد صاحب الفتوحات حصر المناجاة في وراء الحجاب « 2 » ، وإن كان الحقّ هو : كون الحصر من جانبي التكليم والنجوى ، وكون منشإ الحجاب فيهما هو قصور الممكن وضعفه ، حتّى في مرتبة الفناء الذي لا يشاهد فيه الفاني نفسه ؛ لأنّ ذاته المحدودة وإن لم تكن مشهودة حينذاك ولكنّها ليست معدومة ، وإلَّا لما كان الفناء كمالا ، بل موجودة ، فإذا كانت موجودة فلها حكمها الخاصّ من
الحجاب ، فتدبّر .

فعند اتّضاح أنحاء النجوى وأنّ الأصل الحاكم في أنحائه هو كونه من وراء الحجاب وأنّ نفي الحجاب نسبيّ لا نفسيّ يتبيّن معنى الخطاب في قوله * ( « إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ » ) * ، ومعنى الدعاء الشفهيّ في قوله * ( « اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ » ) * ، كما أنّه يتبيّن سرّ تقديم التوجّه بالأولياء في افتتاح الصلاة ، وقبل دخولها « 1 » ، إذ الخطاب والدعاء لأكثر الناس بل لكثيرهم ليس إلَّا من وراء الحجاب وإن كان ذلك الحجاب من قبلهم لا من اللَّه سبحانه . وأمّا الأوحديّ من الَّذين استخلصهم اللَّه لنفسه نجيّا فهو وإن لم يكن هناك حجاب مركوم ومركَّب ولكن لا محيص هنالك عن الحجاب البسيط ، وهو نفس ذاك المناجي وذاته .

هذا نبذ ممّا يرجع إلى أصل النداء والنجوى وأنحائه ، وإلى ما تحويه سورة الحمد ، مع أنّ أصل الحمد من تعليم اللَّه سبحانه ، إذ لو حبس عرفان حمده عن عباده على ما أبلاهم من مننه المتتابعة وأسبغ عليهم من نعمة المتظاهرة لتصرّفوا في مننه فلم يحمدوه ، وتوسّعوا في رزقه فلم يشكروه ، ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الإنسانيّة إلى حدّ البهيميّة ، فكانوا كما وصف في محكم كتابه * ( « إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا » ) * « 2 » ، على ما أفاده مولانا السجاد – عليه السلام – في صحيفته « 3 » ، فعليه يكون الحمد فصلا مقوّما أخيرا للإنسان فهو ناطق حامد .
وأمّا ما يرجع إلى السورة فحيث إنّ المصلَّي له الخيرة في قراءة أيّة سورة شاء من القرآن – عدا العزائم الأربع – فلا مجال للبحث عن سرّ سورة خاصّة يعيّنها إلَّا بما يرجع إلى أصل الخطاب ، وإلى أصل القرآن ، وقد مرّ منها ما يناسب هذا المختصر ، ولكن لمّا قرأ رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – في المعراج سورة التوحيد – حسبما أمره اللَّه تعالى بأن قال : « اقرأ يا محمّد نسبة ربّك قل هو اللَّه أحد » « 4 » – فبالحري أن يشار إلى
شطر من سرّها .

وليعلم : أنّه قد ورد في شأن سورة التوحيد ، وكذا الآيات الستّ من أوّل سورة الحديد ما لا ينبغي الذهول عنه ، وهو ما رواه الكلينيّ – رحمه اللَّه – بإسناده عن عاصم ابن حميد قال : سئل عليّ بن الحسين – عليهما السّلام – عن التوحيد ؟ فقال : « إنّ اللَّه – عزّ وجلّ – علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون ، فأنزل اللَّه تعالى * ( « قُلْ هُوَ ا للهُ أَحَدٌ » ) * ، والآيات من سورة الحديد إلى قوله * ( « وَا للهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ » ) * ، فمن رام وراء ذلك فقد هلك » « 1 » .

إنّ التعمّق : هو التأمّل في العمق ، كما أنّ التدبّر : هو التأمّل في الدبر ، وحيث إنّ للقرآن بطنا بل بطونا فللتعمّق فيه مجال ، كما أنّ له إنباء عمّا يأتي من الحوادث فللتدبّر فيه مجال أيضا . والقرآن آخر كتاب إلهيّ نزل ، وهو خاتم الكتب وخاتم الصحف ، والناس في تكامل حلومهم إلى حدّ يليقون لظهور خاتم الأولياء وخاتم الأوصياء المهديّ المنتظر أرواحنا فداه ، وحينذاك تتعالى العلوم الشهوديّة ، باطَّلاع غير واحد من الناس على الغيب بما يراه من نوره ، وتتكامل العلوم الحصوليّة بعثور غير واحد من الأذكياء على براهين المبدأ والمعاد ، فلا بدّ من علم شهوديّ جامع ، وكذا من علم برهانيّ كافل ، ولكلّ واحد منهما أصحاب ورجال يختصّ به ، ووليّ العصر – عليه السّلام – هو المعلَّم الجامع بين الغيب والشهود ، كما أنّ القرآن كتاب كافل لهما وعلى كاهله تعليم الحكماء ، وإراءة العرفاء فلذا يلزم أن يشمل على ما لا حدّ فوقه ، ولا مقام إمكانيّ وراءه ، وكل حدّ برهانيّ أو مقام شهوديّ يفهمه الحكيم أو يشهده العارف فالقرآن واجد له ، وحيث إنّ الأساس لجميع المعارف هو التوحيد – وكلَّما كمل العلم به كمل العلم بغيره من المعارف الراجعة إليه – فلذا أنزل اللَّه سبحانه ما هو الشامل لأقصى مراتب البرهان ، وأعلى درجات العرفان ، كما هو المترقّب من القرآن الهادي لهما إلى لقاء الرّحمن .

ومن هنا تبيّن أنّ ظاهر النصّ المذكور هو مدح التعمّق ، وترغيب المتعمّقين ، وأنّه لا حدّ وراء ما تحويه سورة التوحيد والآيات الستّ من سورة الحديد ، وأنّ تهلكة من رام وراءه فإنّما هي إرشاد إلى نفي الحدّ الفائق ، إذ السلوك فيما لا طريق إليه ولا حدّ له تيه ، والتائه هالك ، والهالك عن بيّنة في جهنم لا رحمة فيها ، كما في نهج البلاغة الكتاب 27 : « دار ليس فيها رحمة ولا تسمع فيها دعوة » .

إنّ رواسي الحكمة المتعالية وأوتادها الَّذين وتّد اللَّه سبحانه بهم بعد الأئمّة الأطهار – عليهم السّلام – ميدان أرض المعرفة ، لئلَّا يزلّ أو يضلّ أو يذلّ من ليس له حكيم يرشده ، قد استنبطوا من هذا الحديث النورانيّ ، أنّه في سياق مدح المتعمّقين ، حيث قال صدر المتألَّهين – قدّس سرّه – ما عصارته : إنّ هذا العبد كان في سالف الزمان متأمّلا في رموز القرآن وإشاراته ، وكان المتفتّح من آيات هذه السورة أكثر من غيرها ، فحداني ذلك إلى تفسير القرآن . ، وكان أوّل ما أخذت في تفسيره هذه السورة ( سورة الحديد ) . ثمّ بعد أن وقع إتمام تفسيرها . واتّفقت مصادفتي لهذا الحديث . ، فاهتزّ خاطري . ، وانبسط نشاطي . ، فشكرت اللَّه على ما أنعم . « 1 » .

وقد اقتفى صهره في الوافي أثره ؛ لأنّه منه كالضوء من الضوء ، وكالصنو من الصنو ، والذراع من العضد ، حيث قال رحمه اللَّه : لعلَّه – عليه السّلام – أشار بالمتعمّقين إلى أكابر أهل المعرفة ، ولعمري أنّ في سورتي : التوحيد والحديد ما لا يدرك غوره إلَّا الأوحديّ الفريد ؛ ولا سيّما الآيات الأول من سورة الحديد ، وخصوصا قوله عزّ وجلّ * ( « وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ » ) * « 2 » ! ولكنّ العلَّامة المجلسيّ – قدّس سرّه – بعد وصفه الحديث بأنّه صحيح احتمل في قوله عليه السّلام : « المتعمّقون » ثلاثة احتمالات :
الأوّل : أن يكون أمرا بالتعمّق ، فالمعنى : ليتعمّقوا فيه .

شاهد أيضاً

السياسة المحورية ونهضة المشروع القرآني لتقويض المصالح الغربية العدائية

فتحي الذاري مأخذ دهاليز سياسة الولايات المتحدة الأمريكية والمصالح الاستراتيجية في الشرق الأوسط تتضمن الأهداف ...