وعجزهم هذا يجب أن يدلهم على اللجأ إلى القوي العزيز الذي دبر هذا
الخلق . ولكنهم ( لكلمة قالها حيوان أبكم ) جعلوا ما يدل على عظمة الخالق
وتدبيره وحكمته دليلا على نفي وجوده .
قال ( كارل ماركس ) وما أكثر هذيانه ، وما أبعده عن القول بدليل
وبرهان ، وما أعجزه عن أن يدعم قوله بحجة ؟ : ( إن الناس يظنون أن لهم
خالقا ، وما علموا أن هذا الخالق الموهوم مخلوق أوهامهم وخيالاتهم ،
وذلك أنهم لما عجزوا عن الوقوف أمام الحوادث الطبيعية توهموا لأنفسهم
خالقا يلجأون إليه فيسكنوا به روعهم ، وهذا الخالق هو مخلوق أوهامهم ) .
وتبعه على هذا القول ( إنجلز ) و ( لينين ) و ( ستالين ) وغيرهم ، ولم يطالبوه
ببرهان على قوله .
وسمع الرعاع السذج الإغرار هذا القول فدانوا به ، وعلى هذا انتشرت الشيوعية الإلحادية بين هؤلاء الأنعام المنكرين للمحسوسات .
إن المؤمنين رأوا الحكمة والتقدير والعظمة في الخلق كله محسوسا ،
فقالوا : بأن لها خالقا قادرا عالما مديرا ، فلم يقولوا إلا عن حس ووجدان
لا عن خوف أو ذهول ، والذاهل المرعوب من التجأ في تعليل ما يشاهده من
آثار الحكمة والتدبير والقصد إلى لفظ مجهول عار عن كل معنى معقول . وهو
( الصدفة ) .
نعم إن المؤمنين رأوا عظمة هذه الخليقة ، وأن الأرض أصغرها ، فسمت
عقولهم عن أن ينسبوا تدبيرها إلى غير مدبرها ، وأبت أفهامهم أن ينزلوا الله
من عظمته إلى درجة لا تليق بمقامه . ولكن عباد الرجال حرموا هذا التميز .
العقلي ، فجعلوا الصدفة هي المدبرة لهذه الكائنات . – سفها لهذه العقول – .
ألا يحق لهذا العظيم القدير أن يهلك من أنكر عظمته وقدرته ، فيأتيهم
العذاب بغتة وهم لا يشعرون ، فيهلك كل متنفس عليها وتبيد هي بأهلها .
ما شأن من تجرأ على جبار السماوات والأرض الذي من عليه بالنعم
الكثيرة ، فأنكرها وأحل الصدفة محلها ( وهي اللفظ المجهول المعنى ) .
أليس من يقف على معمل دقيق ، يرمى بالجنون إذا قال : إنه كون
بالصدفة وليس من عمل قاصد مريد قادر عالم ، علم الغاية فدبر لها ما يوجدها
بقدرة ؟ ! فكيف بمن وقف على المعمل الدقيق العجيب الصنع ، البديع
الغريب المتقن في بدن كل إنسان ، ثم يحكم أن ذلك وجد لا عن قصد وإرادة
وعلم ، بل بالصدفة .
إن كانت هناك صفة أنكى من الجنون ، أو حالة أشد بهمة من الظلمة ،
يجب أن ننسبها لأولئك الذين سموا أنفسهم علماء وحكموا بهذه الآراء السخيفة
التي يردها الوجدان قبل البرهان ، والحس قبل الحدس .
كيف ينكر صنع الله تعالى وتدبيره وتقديره وإرادته في بدن الإنسان ؟
وفية ألوف الملايين من الدلائل على الإرادة والقصد لوجود الأعمال الغائية في
أدق أجزاء هذا البدن .
إن الدم يشتمل في كل بدن على ما يزيد على ( 400 ) ألف مليون
كرية حمراء وبيضاء ، وإن كل كرية بأعمالها الدقيقة تدل على إرادة مكونها
حيث قصد من الكرية الحمراء نقل ( الأوكسجين ) من الفضاء – بواسطة التنفس
إلى البدن ، ودفع ما تخلف في البدن من ثاني ( أوكسيد الكاربون ) إلى الخارج
وكل كرية من الكريات البيض مستعدة لأن تصطف مع أخواتها ، وتنظم
أفواجا وتشكل جيشا جرارا داخل البدن لمحاربة ما يهاجمه من عدو داخل أو
خارج ، كمرض أو سقطة أو ضربة أو غيرها . . .
ففي كل كرية دلالة واضحة على الإرادة والقصد من مكونها .
وإذا كان في الدم ( 400 ) ألف مليون كرية ، ففي الدم وحده ( 400 ) ألف مليون دليل قاطع لا يقبل الرد على الإرادة والقصد لمكونه .
مضافا إلى ما في الدم من أجزاء أخر من الأملاح و ( الهيموغلوبين )
و ( البلازما ) وغيرها التي يتكون منها الدم الذي تدوم به أعمال الحياة في البدن
وإذا نظرنا إلى الجهاز الهضمي وأعماله الدقيقة ، من منبت الأسنان إلى
فضاء الفم ، إلى الحلقوم والمري ، إلى المعدة والاثني عشري ، إلى الكبد
والمرارة والمعاء والكليتين والطحال . نجد في كل مرحلة من مراحل الهضم ،
مئات ألوف الملايين من الأدلة على الإرادة والقصد وإتقان الصنع ، وبديع
الخلق ودقيق الحكمة ، في خالق هذه الأجزاء ومكونها . ومع هذه الأدلة
القاطعة ، كيف يقنع الإنسان نفسه ويرضى لها أن تنكر هذه الدلالات
الواضحة . . اللهم إلا من نسي نفسه .
وأولئك الذين أخبر الله تعالى عنهم ، ونهى الناس أن يكونوا منهم ،
وذلك بقوله في سورة الحشر : ( ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم
وأولئك هم الفاسقون ) .