الرئيسية / بحوث اسلامية / شرح رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين زين العابدين25

شرح رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين زين العابدين25

النفس والموت
الموت حادث طبيعي لا بد منه ولا مفر عنه ، ولا بقاء إلا لمن خلق الموت
والحياة ، فهو وحده الحي الذي لا يموت ، وإليه المصير ، ولكن ما هو الموت
هل هو مفارقة النفس للبدن ، وقطع العلاقة بينه وبينها ، وانتقالها عنه مع
بقائها سالمة كاملة ، أو أنها تفسد بفساده ، وتنحل بانحلاله ، ولا يبقى لها
بعد الموت عين ولا أثر تماما كما ينطفئ النور في المصباح .

وبديهة أن هذا التساؤل لا يهم الماديين في شئ ، لأنهم ينكرون الروح
إطلاقا ، بل أنكر ( أبيقور ) الموت بالمرة ، حيث قال : ( ما دمنا أحياء فلا
موت ، وإذا متنا فلا حياة ) . وإنما يخص هذا التساؤل القائلين بتجرد النفس
مستقلة بحقيقتها وأفعالها كغيرها من الموجودات . والحق الذي نؤمن به
وندين أنها لا تموت بموت البدن ، ولا تفسد بفساده ، وإنما تتركه إلى عالم
آخر ، ولكن من أين نتبين ذلك ؟ هل نتبينه بالعقل والقياس المنطقي ، أو
بالوحي من كتاب ، أو سنة ثابتة ؟ .

وعلى افتراض أن الدليل المعتمد هو العقل ، فهل يحكم العقل ببقاء
النفس ابتداء كما يحكم بثبوت الصانع ، أو أن حكمه منوط بفكرة الثواب
والعقاب ، أو الميل الغريزي إلى البقاء والخلود ، ذهب إلى كل فريق ، وإليك
أدلة الجميع :

قال الذين اعتمدوا الوحي : إن فساد البدن لا يوجب فساد النفس أما
تدبيرها له ، وتصرفها فيه فلا يستدعي الملازمة بينهما نفيا ولا إثباتا ، وعليه
فلا بد لإثبات البقاء من دليل ، ولا دليل سوى نصوص الكتاب والسنة وإجماع
الأمة ، وهي من الكثرة ما لا يبلغه الاحصاء ، من ذلك قوله تعالى : ( ولا
تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) وقوله
تعالى : ( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية ) . وجاء في
السيرة أن النبي ( ص ) نادى قتلى بدر من المشركين رجلا رجلا ، وخاطبهم
قائلا : ( هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا ،
بئس القوم كنتم لنبيكم ، كذبتموني وصدقني الناس ، وأخرجتموني وآواني
الناس وقاتلتموني ونصرني الناس . فقال له أصحابه : يا رسول الله أتنادي
قوما قد ماتوا ؟ ! فقال : ما أنتم بأسمع منهم لما أقول ، ولكنهم لا يستطيعون
الجواب ) .

أما الذين اعتبروا حكم العقل وثيق الصلة بفكرة الثواب والعقاب ، أو
حب الخلود ، فيتلخص دليلهم بما يلي :
1 – إن الله سبحانه قد أودع في طبيعة الإنسان محبة الوجود والخلود ،
وكراهية العدم والفناء ، وبديهة أنه لا بقاء في هذه الحياة فلا بد – إذن – من
حياة ثانية يتم فيها الخلود ، ولو لم توجد هذه الحياة لكانت غريزة الميل إلى
البقاء عبثا والله منزه عن العبث .

ويلاحظ على هذا الدليل أن الخلود لا يتحقق لمجرد الرغبة فيه ، وإلا
تحقق كل ما هو مراد محبوب ، والحكمة من حب البقاء هي الاستمرار في
العمل ، تماما كالحكمة من الأمل .
2 – قد رأينا ظالما لا تنتصف منه الطبيعة ، والعدالة البشرية ، ومطلوبا
يذهب حقه هدرا في هذه الحياة ، إذن لا بد من حياة أخرى تقوم فيها العدالة
الآلهية .

وهذا الدليل يرجع في حقيقته إلى قدرة الله وعدالته تعالى :
وقال الفلاسفة الذين لا يربطون بقاء الروح بالجزاء ولا بالحب ولا بأية فكرة ،
قالوا : ( إن النفس بسيطة غير مركبة من أجزاء ، كي تفسد بالانحلال ، ولا هي عرض
قائم بغيره ، كي تذهب بذهاب المحل الذي قامت فيه ، وعرضت له ، وإنما هي
الحياة بطبيعتها ، وعليه فلا تكون قابلة للفساد بحال ، وبكلمة أن النفس
ليست كما ولا كيفا ، وإنما هي جوهر بسيط قائم بذاته ، وما كان كذلك لا
يقبل الفساد والانحلال إطلاقا ، فهي إذن خالدة .

ويعتمد هذا الدليل على منطق العقل ، والتأمل النظري ، وعليه فلا يكون
الإيمان بخلود النفس إيمانا دينيا ، بل يقينا فلسفيا يقره الدين ويباركه .
ومما استدل به صدر المتألهين في كتاب ( المبدأ والمعاد ) على أن النفس
لا تموت بموت البدن إنه لا تعلق ذاتي بينهما ، ولا ارتباط عقلي ، بل معية
ومصاحبة ليس إلا ، لأن أحدهما ليس بعلة حقيقية للآخر ، ولا هما معلولان
لعلة ثالثة فلا يوجب فساد أحدهما فساد الآخر . ثم قال : ( ومما يدل على
بقاء النفس بعد فساد البدن اتفاق أصحاب الشرايع والملل على ذلك ، إذ ما
من ملة إلا وفيها وعد ووعيد أخرويان في الأفعال والأعمال الحسنة والقبيحة ،
وأيضا يدل على فعل الأنبياء ( ع ) وخلفائهم ، ومن يرى مثل رأيهم من
الفلاسفة والبراهمة ، لأنهم يتهاونون بأمر الأجساد ، ويرون أن هذه الأبدان المظلمة
الكثيفة هي حبس للنفوس ، أو حجاب لها ، وأنها بمنزلة البيضة للفرخ وبيت
الرحم للجنين ) .

أيضا مع الماديين :
نعود إلى الماديين في كل مناسبة ، ونكرر أقوالهم ، وما فيها من أخطاء
في كل فصل من الفصول أو في أكثر الفصول ، لأنهم الهدف الأول والأخير
لتأليف هذا البحث .

قالوا : إن الإنسان مادة بلا روح ، وإن القوانين الطبيعية لا تتحكم به
تماما كما تتحكم بالمادة الجامدة . . وأن ما فيه من ظواهر الحزن والفرح
والخوف والرجاء ، وما إلى ذلك إن هي إلا لتأثره بالظروف والبيئة المحيطة به
ونجيب : لماذا استعد الإنسان وتقبل هذه الظواهر وتفاعل مع الظروف
والبيئة دون غيره ، أو استعد لها أكثر من بقية الكائنات ، مع أنه لا فرق
بينه وبينها في شئ ؟ !

قال ( بسكال ) : ( إن خلايا النحل لم تكن أقل ضبطا ، أو أدنى دقة
منذ آلاف السنين عما هي عليه الآن ) . أما الإنسان فقد دخل في ألف طور
وطور ، ألا يدل هذا على أن فيه معنى وراء المادة ، ووراء الحيوانية ؟ !
ونحن لا ننكر أبدا أن الإنسان جزء من الطبيعة بوصفه جسما ، ولكنا
نقول : إنه فوق الطبيعة بوصفه عقلا ، يتحكم بها وبقوانينها ، ويستوعب كل
شئ ولا يستوعبه شئ سوى خالقه . ولذا قال أمير المؤمنين علي عليه السلام :
( الإنسان يشارك السبع الشداد ) وقال غيره : ( الإنسان مركز الكون ) .

وغريبة الغرائب أن يقول الماديون : إن الكون بأرضه وسمائه وجميع
أشيائه ملك للانسان يتصرف فيه ما يشاء ، ويضفون عليه جميع الصفات الآلهية
حتى قال إمام من أئمتهم وهو ( فوربايخ ) : ( إن إله الإنسان هو الإنسان
قالوا هذا وفي الوقت نفسه زعموا أن الإنسان جسم بلا روح ، وأنه تراب يتحرك ، تماما
كالهوام والحشرات ! ! . . أما العلم والإرادة والحرية ، أما التضحية والإنسانية
العبقرية ، أما الإبداع والابتكار ، أما حب الحق والخير والجمال فكلام فارغ . .

ونحن لا نجانب الصواب إذا قلنا هذا الكلام فارغ ، تماما كأدمغة
الجاحدين . . ثم نسأل الماديين : هل أنكرتم الروح بوصفكم أرواحا أو
بوصفكم أشباحا ؟ فإن قالوا : بالأول ناقضوا أنفسهم بأنفسهم ، وإن قالوا
بالثاني أعدنا السؤال : هل تشك بالأشباح وتنكر ؟ ! .
وصدق الله العظيم ، حيث وصف المنافقين بقوله : ( وإذا رأيتهم تعجبك
أجسامهم وإن يقولوا تسمع كأنهم خشب مسندة ) .

وأيضا هل يوجد كائن غير الإنسان يتفلسف ، ويتخذ نفسه بنفسه محلا للبحث
والدرس والنزاع والصراع في أنه مادة بلا روح ، أو روح بلا مادة ، أو هما معا ، أو
هو شئ لا تعرف حقيقته ؟ ! ( الأول قول الماديين ، والثاني قول المثاليين ،
والثالث قول العارفين ، والرابع قول اللاأدريين ) .

ثم لماذا يغضب الماديون إذا شبهوا بالحيوانات ما داموا لا يمتازون عنها
إلا في الشكل والهيئة ؟ ! ولماذا يحاولون تبرير أقوالهم بمنطق العقل مع أنه
لا وجود للعقل بزعمهم ؟ ! وبماذا يميزون بين الصدق والكذب ، والحق والباطل
والعلم والجهل ، ما داموا أشباحا بلا أرواح ، وأجساما بلا عقول ؟ ! قال
العلماء : إن الحيوان يعيش في اللحظة التي هو فيها ، ولا ينظر إلى المستقبل
ولا يتأثر في سلوكه بأصداء الماضي .

 

https://t.me/wilayahinfo

شاهد أيضاً

السياسة المحورية ونهضة المشروع القرآني لتقويض المصالح الغربية العدائية

فتحي الذاري مأخذ دهاليز سياسة الولايات المتحدة الأمريكية والمصالح الاستراتيجية في الشرق الأوسط تتضمن الأهداف ...