علاقة النفس بالبدن
إن علاقة النفس بالجسم مسألة عسيرة الحل ، ذلك أننا لا ندرك النفس
في ذاتها وحقيقتها ، وإنما ندركها بظواهرها وأفعالها ( قال أرسطو في كتاب
النفس ) : ( إنها كمال أول لجسم طبيعي آلي ) ويريد بالآلي أنه ذو أعضاء
وأن لكل عضو وظيفة تخصه ، وهذا تعريف بالآثار ، تماما كتعريف البيت
بأنه ملجئ يحمي من أضرار الرياح والأمطار ، ويحجز بين أهله وأعين النظار .
بل قال جماعة من المفسرين وعلماء الكلام : إن النفس شئ استأثره
الله بعلمه ، ولم يطلع عليه أحدا من خلقه حتى رسول الله ( ص ) وعليه لا
يجوز لأحد البحث عنها بأكثر من القول بأنها موجودة وكفى .
وقال صدر المتألهين في كتاب – الأسفار – ( إن النفس لا تعرف بالحد ،
لأن الحد مركب من الجنس والفصل ، ولا جنس وفصل للنفس لأنها جوهر
بسيط ولكنه أنكر أشد الإنكار على من زعم أن علمها محجوب عن الرسول
الأعظم ، لأن جهله بحقيقتها يتنافى مع منصب النبوة .
وقال في كتاب – المظاهر الآلهية – ما نصه بالحرف : ( لا تظنن أن
النبي لم يكن عالما بالروح ، وكيف يكون برهانا ومظهرا لجميع الصفات .
وقد توهم جماعة أن الله أبهم عليم الروح على الخلق ، واستأثره لنفسه ، حتى
قالوا لفرط جهلهم بمنصب النبوة : إن النبي لم يكن عالما به ، جل منصب
حبيب الله أن يكون جاهلا بالروح ، وقد من الله عليه بقوله : ( وعلمك ما لم
تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ) وقوله تعالى : ( وما يعقلها إلا
العالمون ) .
وذهب القائلون بتجريد النفس وقيامها بذاتها إلى أن تعلقها بالبدن هو
تعلق التدبير والتصرف من غير أن تكون داخلة فيه دخول الجزء في الكل ، ولا
حالة فيه حلول لماء في الإناء .
قال الشريف ( الجرجاني ) : ( 1 ) ( إن تعلق النفس بالبدن ليس تعلقا
ضعيفا يسهل زواله بأدنى سبب مع بقاء المتعلق بحاله ، كتعلق الجسم بمكانه ،
وإلا تمكنت النفس من مفارقة البدن بمجرد المشيئة من غير حاجة إلى أمر آخر
وليس أيضا تعلقا في غاية القوة ، بحيث إذا زال التعلق بطل المتعلق ، مثل
تعلق الأعراض والصور المادية بحالها ، لما عرفت من أنها مجردة بذاتها ،
غنية عما تحل فيه ، بل هو تعلق متوسط بين بين ، كتعلق الصانع بالآلات
التي يحتاج إليها في أفعاله المختلفة ) .
ويدلنا تشبيه النفس بالصانع ، والجسم بآلاته ، أن النفس هي المبدأ
والمصدر للأفعال الحيوية بشتى أنواعها ، وأن الجسم ما هو إلا أداة ووسيلة
لفعل النفس وانفعالها ، فهي التي تبصر الألوان ، والعين واسطة ، وهي التي
تشم الروائح ، وتسمع الأصوات ، وتخاف وتتألم ، وتفرح وترجو وتكتب
وتخطب وتزرع وتتاجر ، وتتعلم وتعلم وتخترع ، وتحارب وتسالم ، كل
أولئك وما إليها من فعل النفس . أما الجسم فوسيلة تماما كما يصنع النجار
الخزانة ، أما المنشار فآلة ، وكفى . ولو كانت العين تبصر بطبيعتها ، والأذن
تسمع بذاتها ، والأنف يشم ، واليد تعمل بدون النفس لأدى كل عضو وظيفته
بعد مفارقة الروح للجسم ، كما كان يؤديها قبل الموت .
ورب قائل : كما أن العين لا تبصر ، والأذن لا تسمع والأنف لا يشم
بدون النفس ، كذلك النفس لا تعرف الألوان والأصوات والروائح بدون
العين والأذن والأنف ، ولذا قيل : ( من فقد حسا فقد علما ) . إذن ، القول بأن
النفس ترى بواسطة العين ليس بأولى من القول بأن العين ترى بواسطة النفس ،
أو لا أقل من إسناد الاحساس إليهما معا ، واعتبارهما جزأين لجوهر واحد ،
يتحدان اتحاد الهيولى والصورة .
الجواب :
إن النفس هي التي تتصرف بالجسم وأعضائه ، ولا عكس ، فأنت بنفسك
إن شئت نظرت وشممت وسمعت ولمست وفعلت ، وإن لم تشأ لم يكن من ذلك
شئ ، فالسلطان للنفس على الأعضاء ولا سلطان للأعضاء على النفس بحال .
ومن هنا كانت هي الفاعل حقيقة ، وكان الجسم آلة وأداة لا غير ، تماما
كما هي الحال في النجار وآلاته ، والفرق بينهما : أن تعلق النفس بالبدن
طبيعي ذاتي ، وتعلق النجار بآلاته عرضي خارجي .
وبهذا يتبين معنا أن تعلق النفس بالبدن تعلق التدبير والتصرف من غير
أن تكون جزءا منها ، أو يكونا جزأين لكل . أما القول الشائع من أن
الإنسان مركب من جسم وروح فلا يحمل على حقيقته ، وإنما المراد منه أن
للانسان روحا قائمة بذاتها ، وتعرف بآثارها ، كما أن له جسما نعرفه
بالمشاهدة والعيان .
مع الماديين ثانية .