وقال الماديون : إن الإنسان كالحيوان ، ولا فرق بينهما إلا أن هذا يمشي
على أربع ، وذاك على رجلين . كلا ، ثم كلا ، إن الإنسان يعلو على
الحيوان ، ويسخره لصالحه بدليل أنه يحتج بالمنطق السليم على من ساوى بين
الاثنين ، أما الحيوان فلا علم لديه ولا هدى ولا كتاب منير ) . ( 1 )
هل حدوث الروح قبل الجسد
أنكر فريق من الحكماء والمتكلمين حدوث الروح قبل الجسد ، زاعمين
أن حدوثها مع حدوث الأجساد . وسيمر عليك تصحيحه من طريقي العقل
والسماع الديني .
قال العلامة الشيخ ( محمد جواد الجزائري ( ره ) ( هذا شروع في تصحيح
مسألة وجود الأرواح قبل الأبدان من طريق النظر والقياس .
وقد صححناها من طريق الأصل الشهير بين الحكماء بقاعدة إمكان
الأشرف المبني على أساس امتناع صدور الكثرة عن الواحد ، ومفاده أن الممكن
الأشرف يجب أن يكون أقدم في مراتب الوجود من الممكن الأخس ، وأنه إذا
وجد الممكن الأخس فلا بد أن يكون الممكن الأشرف منه قد وجد قبله .
ومن الواضح انطباق ذلك على مسألتنا ، لأن نشأة النفس الناطقة قبل
البدن وفي مطاوي الغيب أقدم صدورا من المبدأ الأول وأقرب إليه من نشأتها
الطبيعية ، وأبعد عن المادة العنصرية ونقائصها وقصوراتها ، فهي أشرف وأقوى
وجودا . ولما كانت ممكنة ( لما عرفت ) وجب حصولها قبل الأخص ، وإن شئت
قلت النفس الكاملة في التجرد أشرف ذاتا وأقوى وجودا من النفس المجردة
المتعلقة بالبدن ، لأنها أبعد عن نقائص المادة وقصوراتها وأقدم صدورا من
المبدأ الأول . فإذا وجدت الثانية وقد أمكنت الأولى وجب حصولها قبلها .
وحاصل ما ذكره الحكماء من البرهان على هذا الأصل مع زيادة
إيضاح : أنه لو وجد الأخس ولم يوجد الممكن الأشرف قبله ، تمحل الأمر
ولزم إما خلاف المقدر أو جواز صدور الكثير عن الواحد أو الأشرف عن الأخس
أو وجود جهة أشرف مما عليه المبدأ الأول ، لأن وجود الأخس إن كان بواسطة
لزم الأول ، للزوم كون العلة أشرف من المعلول وأقوى ، وإن كان بغير واسطة
وجاز صدور الأشرف عن المبدأ الأول لزم الثاني ، لامتناع صدوره بواسطة
الأخس لما تقدم ، – وإن جاز عن معلوله لزم الثالث لانحصار الواسطة في
الأخس – وإن لم يجز صدوره عنهما لزم الرابع لفرض إمكانه ، والممكن لا
يلزم من فرض تحققه محال ، وإلا لم يكن ممكنا وهو خلاف الفرض .
فإذا فرض وجوده وليس بصادر فرضا عن المبدأ الأول ، ولا عن معلولاته
استدعى ذلك الوجود جهة مقتضية له أشرف مما عليه المبدأ الأول ، حتى يكون
عدم وجوده لعدم علته ، وإذا بطل التالي وامتنع سوقه على أقسامه بطل المقدم
ولزم صدق الشرطية المذكورة المفيدة لقاعدة إمكان الأشرف .
ولا يلتبس عليك الأمر إذا لاح لك في كتب الفلسفة ، الفصل المعقود
لتحقيق حدوث النفوس البشرية ، أو رأيت من الشفا ( للشيخ الرئيس ) قوله :
( إن النفس الإنسانية لم تكن قائمة مفارقة للأبدان ، ثم حصلت في البدن )
وقوله فيها أيضا : ( فقد صح إذا أن الأنفس تحدث كما تحدث مادة
بدنية صالحة لاستعمالها إياها ) . فإن موضوع قضيتهم النفوس الناطقة المتعينة
بهذه التعينات الجزئية ، التي بها تلمس وتشم وتسمع ، ولا شك في حدوثها
بحدوث البدن .
وموضوع مسألتنا النفوس المتشخصة بنحو آخر من الوجود ، لما تقدم
لك من أن للنفس الناطقة مع بساطتها نشآت جوهرية متفاوتة وأنحاء من الكون
بين سابق ولاحق ، وليس لها كون محدود الهوية . واستعداد البدن شرط للنحو
السافل من وجوداتها وليس شرطا لكمال هويتها وتمام وجودها ، وإلا لزالت
بزواله واللازم باطل ، لما سيمر عليك من البراهين العقلية والآيات الكريمة
والأحاديث المأثورة الدالة على وجودها بعد البدن .
وحري بمن أذعن بإبقاء النفوس الناطقة المتصرفة بالبدن واتصالها بالعالم
الأعلى على ما هي عليه من دون تجدد وإيجاد ، أن يذعن بمسألتنا ، لأن حال
الإعادة كحال الابتداء في صعوبة الدرك وسهولته ، فإذا صح أحدهما صح الآخر
ويمكن الإشارة إلى هذه المقايسة بقوله تعالى : ( كما بدأنا أول خلق
نعيده ) وقوله تعالى : ( كما بدأناكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم
الضلالة ) وقوله : ( هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ) .
ومن تتبع الكتب الأساسية لسير الحكمة يجدها مشبعة بما ذكرناه من أن
للنفس الناطقة كينونة قبل البدن ووجودا في العالم الأعلى وهبوطا منه إلى عالم
الطبيعة . ويمكن الإشارة إلى ذلك بقوله تعالى : ( إهبطوا بعضكم لبعض
عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ) . وبالأحاديث النبوية منها
قوله ( ص ) : ( كنت نبيا وآدم بين الماء والطين ) وقوله : ( نحن السابقون
اللاحقون ) وقوله : ( إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ) .
ويقول سيد الوصيين علي بن أبي طالب ( ع ) : ( رحم الله امرأ عرف من أين
وفي أين وإلى أين ) فإن قوله : ( من أين ) إشارة إلى حال النفس قبل عالم
الجسم . والأحاديث الواردة في ذلك عن أئمتنا المعصومين كثيرة .
قال صاحب ( الأنوار النعمانية ) : ( الأخبار الدالة على أن الروح
مخلوقة قبل البدن بألفي عام أو أكثر على ما وردت به الأخبار ، مستفيضة بل
متواترة حتى لا يبقى الريب في تقدمها ) . وعلى ذلك ينزل قول الشيخ الرئيس
في قصيدته الشهيرة :
نزلت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع ) ( 1 )