تضادّ الصفات في شخصيّة الإمام عليه السلام
أشير إلى خصلة اتّصفت بها حياة أمير المؤمنين عليه السلام أعبّر عنها بتوازن شخصيته.
كان أمير المؤمنين عليه السلام أعجوبة في اتّزانه الشخصيّ، صفات متضادّة ومتخالفة قد اجتمعت في شخصيّته بشكل جميل، حتّى أضحت بذاتها وجوداً جميلاً. ولا يجد الإنسان مثل هذه الصفات قد اجتمعت في أحد، لكنّها قد اجتمعت في أمير المؤمنين عليه السلام بكثرة واسعة. وأعرض في ما يلي بعض هذه الصفات المتضادّة الّتي اجتمعت فيه عليه السلام.
مثال رأفته ورقّته
هناك مثلاً الرأفة والرقّة وهي لا تنسجم مع الحزم والصلابة, لكن عطف ورأفة ورِقّة أمير المؤمنين عليه السلام كانت حقّاً في ذراها الأعلى الّذي قلّما يبلغه إنسان عاديّ, فالّذين يساعدون المساكين ويتفقّدون العوائل الفقيرة كثيرون، إلّا أنّ الشخص الوحيد الّذي كان يؤدّي هذا العمل في عهد وفترة حكومته واقتداره وتسلّطه – أوّلاً – ويكون هذا العمل دأبه على الدوام, ولم يكتف بأدائه مرّتين أو ثلاثاً – ثانياً – وثالثاً لم يكن يقتصر على تقديم العون المادّي فحسب, بل يذهب إلى هذه العائلة، ويتحدّث مع هذا الشيخ، ويجلس مع هذا الضرير، ويلاطف هذا الصغير ويأنس بهم ويدخل البهجة إلى قلوبهم ويقدّم لهم العون هو الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
هكذا كان أمير المؤمنين عليه السلام في رحمته ورأفته.
كان يذهب إلى دار أرملة ويوقد لها التنّور ويخبز لها الخبز ويطعم أطفالها بيده المباركة، ولأجل أن يدخل الفرحة إلى قلوب هؤلاء الأطفال البائسين كان يلعب معهم وينحني ويحملهم على ظهره ويمشي بهم، ويداعبهم في كوخهم.
هذه الرأفة والرقّة في شخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام جعلت أحد الشخصيّات الكبرى في ذلك العصر يقول: رأيتُ عليّاً عليه السلام يدعو اليتامى
فيطعمهم العسل، حتّى قال بعض أصحابه: لوددت أنّي كنت يتيماً1.
وفي قضيّة النهروان حين عزم جماعة من المتعصّبين, وذوي الفهم الخاطئ على زعزعة حكمه, لأسباب واهية, كان ينصحهم ويحاججهم ويرسل لهم الرسل والوساطات، ويقدّم لهم العون، ولكن من غير جدوى, وفي نهاية المطاف حتّى حينما اصطفّ الجيشان للقتال قدّم لهم النصيحة وأرشدهم, لكنّه عندما لمس عدم جدوائية ذلك قرّر انتهاج الحزم، فأعطى الراية لأحد أنصاره وقال: كلّ من انضوى تحت هذه الراية إلى الغد فهو آمن، أمّا البقيّة فلهم السيف.
كان عددهم اثني عشر ألفاً فانضم ثمانية آلاف منهم تحت الراية, ومع ما كان يحمل هؤلاء من عَداء، ورغم موقفهم وعزمهم على القتال ولَهجهم بِسَبّ أمير المؤمنين عليه السلام إلّا أنّه تغاضى عن كلّ ذلك؛ فهم ما داموا قد اعتزلوا القتال فليذهبوا حيث شاءوا.
وبقي منهم أربعة آلاف أصرّوا على مقاتلته, فلمّا رأى إصرارهم على قتاله عزم على قتالهم، وأخبرهم أنّه لن ينجو منهم عشرة, فحاربهم في واقعة النهروان المعروفة، وقُتل منهم عدد كبير.
هذا هو نفس عليّ عليه السلام حينما يرى في مقابله فئة خبيثة تسلك منهجاً غادراً.
أُلاحظ مع الأسف عدم إعطاء صورة صحيحة عن الخوارج في
________________________________________
1- بحار الأنوار، العلامة المجلسيّ، ج 41، ص 29.
المحاضرات وفي الأفلام وفي الأدب، إذ كثيراً ما يصفونهم بالتنسك المتحجّر، وهذا خطأ طبعاً, أيُّ تنسّك هذا؟ في عهد أمير المؤمنين عليه السلام كانت بعض الفئات تعمل لمصالحها الخاصّة, وإذا شئتم معرفة الخوارج أضرب لكم مثلاً من عصرنا الراهن.