الإفراط في التمسّك بإحدى القيم ومبادئه
يركِّز القرآن الكريم على ضرورة العمل على إنماء جميع القيم في كيان الإنسان بنحوٍ متوازنٍ لا يؤدّي إلى إلغاء بعضها لحساب الآخر. يقول تعالى: ﴿مُحَمَّد رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ
1- سورة الأنبياء، الآية: 69.
2- سورة الصافّات، الآيتان: 104ـ 105.
3- سورة النحل، الآية: 120.
4- سورة البقرة، الآية: 124.
19
14
الإنسان الكامل
مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾1 ويقول في موضعٍ آخر: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْامِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾2.
ففي هاتين الآيتين المباركتين وغيرهما من الآيات نجده تعالى يبيّن سمات المجتمع الإسلاميّ من خلال أفراده، فهم الّذين يبتغون فضل الله ويتقدّمون يوماً بعد يوم. هم التائبون العابدون وهم الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر، وهم المستغفرون بالأسحار وهم الصابرون الصادقون. فهؤلاء قد نمت فيهم القيم بشكلٍ متوازن بحيث لم يمنع نمو بعضها من نمو بعضها الآخر. ومن هذا البيان ندخل لتسليط الضوء على الانحراف الّذي قد يصيب المجتمع والأفراد باسم التنوّر، كذاك الانحراف الّذي حصل في عهد عمر.
إنحراف التنوّر
من المعلوم أنّ عمر بن الخطاب قام بحذف “حيّ
1- سورة الفتح، الآية: 29.
2- سورة التوبة، الآية: 112.
20
15
الإنسان الكامل
على خير العمل” من الأذان، ولعلّك تتساءل عمّا دفعه لذلك؟ والجواب أنّه حسبَ ذلك تنوّراً فكريّاً، فقد كان عهده عهد الفتوحات وقد استطاع المسلمون أن يحقّقوا انتصاراتٍ عظيمة على الرغم من قلّة عددهم في مقابل الإمبراطوريّتين الرومانيّة والفارسيّة، وفي تلك الظروف رأى “عمر” أنّه من المصلحة حذف “حيّ على خير العمل” من الأذان، لأنّها تدعو المسلم للتوجّه نحو أفضل الأعمال وهي الصلاة، وهذا سيفسد نفسيّة المقاتلين فإنّهم سيقعون في حيرةٍ من أمرهم أيذهبون إلى الصلاة أم إلى الجهاد؟ بالطبع سيذهبون إلى الصلاة فإنّها أفضل الأعمال ولازم ذلك إضعاف قوّة المسلمين. إذاً فلتحذف “حيّ على خير العمل” وليتمّ إبدالها بـ”الصلاة خير من النوم” باسم التنوّر.
إلّا أنّه قد فات عمر أنّ المسلمين إنّما استطاعوا هزم الإمبراطوريّتين الرومانيّة والفارسيّة لا بقوّة السلاح وإنّما بقوّة الإيمان المستمدّة من الصلاة، ومن المناجاة مع الخالق واستشعار عظمته وأنّه سبحانه أكبر من كلّ شيء،
21
16
الإنسان الكامل
أي المستمدّة من “حيّ على خير العمل”.
لقد جانَبَ “عمر” الصواب في عمله ولم يلتفت إلى أنّ من كان الجهادُ فرضاً واجباً عليه فإنّه لن يتركه بل سيجده شرطاً لقبول صلاته، ولن تكون صلاته إسلاميّةً إلّا بتحقيقه.
هذا هو منطق الإسلام، صحيح أنّ العبادة هي أعلى القيم، إلّا أنّ لها شروطاً تؤدّي إلى نموّ سائر القيم معها، يقول تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾1
انحراف العبادة
أولى الإسلامُ العبادةَ أهميّةً كبرى، إلّا أنّ هذه العبادة قد يحصرها بعض بالذهاب إلى المسجد وقراءة القرآن فحسب، من دون أن تمتدّ لتشمل جميع نشاطات الإنسان كالتكسّب للنفس والعيال، وخدمة المجتمع والجهاد في سبيل الله. وهذا انحراف يصيب العبادة.
1- سورة العنكبوت، الآية: 45.
22
17
الإنسان الكامل
“روي أنّ جماعةً من الصحابة حرّموا على أنفسهم النساء والإفطار بالنهار والنوم بالليل، فأخبرت أمّ سلمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرج إلى أصحابه فقال: أترغبون عن النساء؟! إنّي آتي النساء، وآكل بالنهار، وأنام بالليل، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي، وأنزل الله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُون﴾1 فقالوا يا رسول اللَّه، إنّا قد حلفنا على ذلك؟ فأنزل اللَّه: ﴿لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ (…) وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون﴾2” 3.
وهكذا بالنسبة للقيم الأخرى كالزهد والجهاد والعدالة والحريّة وخدمة الناس وغيرها فإنّها قد تصاب بانحراف يؤدّي إلى طغيانها على بقيّة القيم ممّا يؤدّي إلى اختلال
1- سورة المائدة، الآيتان: 87ـ 88.
2- سورة المائدة، الآية: 89.
3- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة: ج 14، كتاب النكاح الباب 2 من أبواب مقدمات النكاح، ص 9، ح 9.
23
18
الإنسان الكامل
المجتمع، ولهذا فإذا أردنا إحياء قيمة خدمة الناس مثلاً فلا ينبغي أن يكون ذلك على حساب إكرام عباد الله الصالحين وإلّا فإنّ هذه الخدمة ستكون كخدمة أيّ حيوانٍ آخر غير الإنسان.
هذه قيم والإنسان الكامل ليس هو العابد فقط أو الزاهد فقط أو المجاهد فقط, إنّه ذاك الّذي تربَّت فيه كلّ هذه القيم ونمت إلى حدودها العليا في انسجام والتئام.