الرئيسية / القرآن الكريم / هدى القرآن – تفسير قصار السور بأسلوب تعليمي 03

هدى القرآن – تفسير قصار السور بأسلوب تعليمي 03

 

الدرس الثالث: تفسير سورة الليل

 

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى * فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾

 

 

تعريف بالسورة ومحاورها

سُمّيت هذه السورة بالليل, لورود ذكرها في مستهلّ السورة ومفتتحها.

 

وتتضمّن هذه السورة المباركة 21 آية, تحوي مجموعة من المحاور، هي:

1- طرق معرفة الله تعالى.

2- انقسام الناس وانشعابهم باختلاف دوافعهم وسعيهم إلى مؤمنين متّقين وكافرين جاحدين.

3- الإحسان إلى الآخرين سبب للتوسعة في العمل.

4- البخل وطلب الاستعلاء من مسبّبات تعقيد أمور الإنسان.

5- عاقبة التقوى وآثارها الدنيوية والأخرويّة.

6- عاقبة الكفر والجحود وآثاره الدنيويّة والأخرويّة.

7- الإخلاص لله وآثاره الدنيوية والأخروية.

8- الرضا وآثاره الدنيويّة والأخرويّة.

 

فضيلة السورة

  • ما رواه أُبَي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: “مَنْ قرأها, أعطاه الله حتّى يرضى، وعافاه من العسر، ويسّر له اليسر”[1].

 

  • ما رواه معاوية بن عمار، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: “مَنْ أكثر قراءة ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾، ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾، ﴿وَالضُّحَى﴾، و﴿أَلَمْ نَشْرَحْ﴾ في يومه أو في ليلته، لم يبقَ شيء بحضرته, إلا شهد له يوم القيامة, حتى شعره وبشره ولحمه ودمه

 

وعروقه وعصبه وعظامه، وجميع ما أقلّت الأرض منه، ويقول الربّ تبارك وتعالى: قبلت شهادتكم لعبدي، وأجزتها له، انطلقوا به إلى جناني, حتى يتخيّر منها حيث أحبّ، فأعطوه إيّاها من غير من منّي، ولكنْ رحمة وفضلاً منّي عليه، فهنيئاً هنيئاً لعبدي”[2].

 

خصائص النزول

هذه السورة مكّيّة باتّفاق أغلب المفسِّرين[3]، وقد ذهب البعض إلى أنّها تحتمل كلّاً من المكّيّة والمدنيّة لملائمة سياقها لكلٍّ من خصائص السور المكّيّة, من قصر آياتها، وقوّة لهجتها، وتطرّقها لمسألة المعاد، وخصائص السور المدنيّة, من التأكيد على الإنفاق المالي[4].

 

وواقع الحال أنّ القول بمكّيّتها هو الأوفق, لما تقدّم من أنّ السورة تحمل خصائص السور المكّيّة، أضف إلى ذلك أنّ مدار الاعتبار بمكّيّة السورة أو مدنيّتها, يكمن في بداية نزولها, وهو بلا أدنى شكّ حصل في المرحلة المكّيّة قبل هجرة النبيصلى الله عليه وآله وسلم, باتّفاق المفسِّرين.

 

وروي عن ابن عباس في سبب نزول هذه السورة: أنّ رجلاً كانت له نخلة، فرعها في دار رجل فقير ذي عيال، وكان الرجل إذا جاء فدخل الدار، وصعد النخلة ليأخذ منها التمر، فربّما سقطت التمرة، فيأخذها صبيان الفقير، فينزل الرجل من النخلة، حتّى يأخذ التمر من أيديهم، فإنْ وجدها في في أحدهم، أدخل أصبعه حتى يأخذ التمرة من فِيه. فشكا ذلك الرجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبره بما يَلقى من صاحب النخلة. فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “اذهب“. ولقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاحب النخلة، فقال: “تُعطيني نخلتك المائلة التي فرعها في دار فلان، ولك بها نخلة في الجنّة“، فقال له الرجل: إنّ لي نخلاً كثيراً، وما فيه نخلة أعجب إليّ تمرة منها. قال: ثمّ ذهب الرجل. فقال رجل كان يسمع الكلام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله أتُعطيني ما أعطيت الرجل نخلة في الجنّة, إن أنا أخذتها؟ قال: “نعم“. فذهب الرجل، ولقي صاحب النخلة، فساومها منه، فقال له: أشعرت أنّ محمداً أعطاني بها نخلة في الجنّة، فقلت له: يُعجبني تمرتها، وإنّ لي نخلاً كثيراً، فما فيه نخلة أعجب إليّ تمرة منها. فقال له الآخر: أتريد بيعها؟ فقال: لا، إلا أنْ أُعطى ما لا أظنّه أُعطى. قال: فما مناك؟ قال أربعون

 

 

نخلة. فقال الرجل: جئت بعظيم. تطلب بنخلتك المائلة أربعين نخلة؟! ثمّ سكت عنه. فقال له: أنا أُعطيك أربعين نخلة. فقال له: أَشْهِد إنْ كنت صادقاً. فمرّ إلى أناس فدعاهم، فَأشَهَد له بأربعين نخلة، ثمّ ذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله! إنّ النخلة قد صارت في ملكي، فهي لك. فذهب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى صاحب الدار، فقال له: “النخلة لك ولعيالك“. فأنزل الله تعالى ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾ السورة. وعن عطاء قال اسم الرجل, أبو الدحداح[5].

 

شرح المفردات

  • شَتَّى: “الشين والتاء أصل, يدلّ على تفرّق وتزيّل, من ذلك تشتيت الشيء المتفرِّق”[6]. و”الشَّتُّ: تفريق الشّعب، يُقال: شَتَّ جمعهم شَتّاً وشَتَاتاً، وجاؤوا أَشْتَاتاً, أي: متفرّقي النّظام، قال: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا[7]، وقال: ﴿مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى﴾[8], أي: مختلفة الأنواع، ﴿وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى[9], أي: هم بخلاف من وصفهم, بقوله: ﴿وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ[10][11].

 

  • تَرَدَّى: “الراء والدال والياء أصل واحد, يدلّ على رمي، أو ترام، وما أشبه ذلك… ومن الباب الردى, وهو الهلاك، يُقال: ردي يردى, إذا هلك. وأرداه الله أهلكه. والتردّي, التهوّر في المهوى[12]. ووالرَّدَى: الهلاك، والتَّرَدِّي: التّعرّض للهلاك، قال تعالى: ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى[13]، وقال: ﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى[14]، وقال: ﴿قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ[15][16].

 

  • تَلَظَّى: “اللام والظاء أصل صحيح, يدلّ على ملازمة[17]. و”اللَّظَى: اللَّهب الخالص، وقد لَظِيَتِ النارُ وتَلَظَّتْ. قال تعالى: ﴿نَارًا تَلَظَّى[18], أي: تَتَلَظَّى. ولَظَى غير مصروفة: اسم لجهنم. قال تعالى: ﴿إِنَّهَا لَظَى[19][20].

 

تفسير الآيات

الآية (1): ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾:

الآية قسم بالليل, إذا يغشى. والمراد بالغشيان, التغطية.

 

ذَكَر المفسِّرون في معنى الآية قولين، هما:

  • الليل إذا يغشى بظلمته النهار, على حدّ قوله تعالى: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ[21].

 

  • الليل إذا يغشى بظلمته الأفق، وجميع ما بين السماء والأرض. والمعنى: إذا أظلم، وادلهمّ، وأغشى الأنام بالظلام, لما في ذلك من الهول المحرّك للنفس بالاستعظام[22].

 

والقول الأوّل هو الأوفق بظاهر السياق، ولا سيما مقابلته بالنهار في قوله تعالى: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾، وإنْ كان القول الثاني محتملاً أيضاً.

 

الآية (2): ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾:

الآية معطوفة على الآية الأولى: ﴿وَاللَّيْلِ …﴾ والتجلّي, ظهور الشيء بعد خفائه. ومعنى

 

الآية: ظهور النهار وبيانه بعد ما غطّته ظلمة الليل[23].

 

الآية (3): ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى﴾:

الآية معطوفة على الآية الأولى: ﴿وَاللَّيْلِ …﴾, كسابقتها. و”ما“, موصولة، والمراد بها, الله سبحانه.

 

وذَكَرَ المفسِّرون في المراد بـ “الذكر والأنثى” أقوالاً، هي:

  • عموم الذكر والأنثى من المخلوقات كافّة.

 

  • خصوص الذكر والأنثى من الإنسان.

 

  • خصوص آدم عليه السلام وزوجته حوّاء.

 

وأوجَه الوجوه أوّلها, لعموم لفظَي “الذكر” و”الأنثى”, ومعنى الآية: أُقسم بالشيء العجيب الذي أوجد الذكر والأنثى المختلفين, على كونهما من نوع واحد[24].

 

الآية (4): ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾:

الآية جواب القسم المتقدّم في الآيات السابقة. والسعي, هو المشي السريع, والمراد به, العمل من حيث يُهتمّ به, وهو في معنى الجمع. وشتّى, جمع شتيت, بمعنى المتفرّق. ومعنى الآية: أُقسم بهذه المتفرّقات خلقاً وأثراً, إنّ مساعيكم لمتفرّقات في نفسها وآثارها, فمنها: إعطاء، وتقوى، وتصديق، ولها أثر خاصّ بها، ومنها: بخل، واستغناء، وتكذيب، ولها أثر خاصّ بها[25].

 

الآية (5): ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى﴾:

الآية, تفصيل تفرّق مساعيهم، واختلاف آثارها. والمراد بالإعطاء, إنفاق المال لوجه الله, بقرينة مقابلته للبخل, الظاهر في الإمساك عن إنفاق المال, وقوله تعالى بعد ذلك: ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى﴾. وقوله: ﴿وَاتَّقَى﴾, في مقام تفسير الإعطاء, وإفادة أنّ المراد هو الإعطاء على سبيل التقوى الدينيّة[26].

 

الآية (6): ﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾:

الحسنى, صفة قائمة مقام الموصوف. والظاهر: أنّ التقدير بالعِدَة الحسنى, وهي ما وعد الله من الثواب على الإنفاق لوجهه الكريم, وهو تصديق البعث والإيمان به, ولازمه الإيمان بوحدانيّته تعالى في الربوبيّة والألوهيّة، وكذا الإيمان بالرسالة, فإنّها طريق بلوغ وعده تعالى للثواب. ومحصّل معنى هذه الآية والآية السابقة عليها, أن يكون مؤمناً بالله ورسوله واليوم الآخر، وينفق المال لوجه الله وابتغاء ثوابه, الذي وعده بلسان رسوله[27].

 

الآية (7): ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾:

التيسير, التهيئة والإعداد. واليسرى, الخصلة التي فيها يُسر من غير عسر. وتوصيفها باليسر, بنوع من التجوّز, فالمراد من تيسيره اليسرى: توفيقه للأعمال الصالحة، وتسهيلها عليه, من غير تعسير، أو جعله مستعدّاً للحياة السعيدة عند ربّه ودخول الجنّة, بسبب الأعمال الصالحة التي يأتي بها، والوجه الثاني أقرب وأوضح انطباقاً، على ما هو المعهود من مواعد القرآن[28].

 

الآية (8): ﴿وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى﴾:

البخل, مقابل الإعطاء. والاستغناء, طلب الغنى والثروة, بالإمساك والجمع, فعمل عمل من استغنى عن الله تعالى ورحمته[29].

 

الآية (9): ﴿وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى﴾:

والمراد بالتكذيب بالحسنى, الكفر بالعِدَة الحسنى وثواب الله الذي بلّغه الأنبياء والرسل عليهم السلام، وكلّ ما رجع إلى إنكار البعث[30].

 

الآية (10): ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾:

المراد بتيسيره للعسرى, خذلانه بعدم توفيقه للأعمال الصالحة, بتثقيلها عليه، وعدم شرح صدره للإيمان، أو إعداده للعذاب والتخلية بينه وبين الأعمال السيّئة التي اكتسبها[31].

 

الآية (11): ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى﴾:

التردّي, هو السقوط من مكان عالٍ ويُطلق على الهلاك, فالمراد: سقوطه في حفرة القبر أو في جهنّم أو هلاكه. و”ما” استفهاميّة أو نافية, ومعناها: أيّ شيء يغنيه ماله, إذا مات وهلك، أو ليس يغني عنه ماله, إذا مات وهلك[32].

 

الآية (12): ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾:

تعليل لما تقدّم, من تيسيره تعالى لليسرى وللعسرى، أو الإخبار به بأوجز بيان, وأنّه, إنّما نفعل هذا التيسير أو نبيّن هذا البيان, لأنّه من الهدى, والهدى علينا لا يزاحمنا في ذلك شيء، ولا يمنعنا عنه مانع. فالآية تفيد أنّ هدى الناس ممّا قضى سبحانه به وأوجبه على نفسه, بمقتضى الحكمة, وذلك أنّه خلقهم ليعبدوه, قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[33], فجعل عبادته غاية لخلقهم، وجعلها صراطاً مستقيماً إليه, وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾[34]، وقال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ[35]. وقضى على نفسه أن يُبيّن لهم سبيله، ويهديهم إليه, بمعنى إراءة الطريق, سواء أسلكوها أم تركوها, قال تعالى: ﴿وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ﴾[36]،

 

وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ[37]، وقال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا[38]، ولا ينافي ذلك قيام غيره تعالى بأمر هذا المعنى من الهدى بإذنه, كالأنبياء عليهم السلام, قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[39]، وقال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي[40]. هذا في الهداية, بمعنى إراءة الطريق.

 

وأمّا الهداية, بمعنى الإيصال إلى المطلوب – والمطلوب في المقام الآثار الحسنة التي تترتّب على الاهتداء, بهدى الله، والتلبّس بالعبوديّة, كالحياة الطيّبة المعجّلة في الدنيا، والحياة السعيدة الأبدية في الآخرة – فمن البيّن أنّه من قبيل الصنع والإيجاد الذي يختصّ به تعالى, فهو ممّا قضى به الله وأوجبه على نفسه وسجّله بوعده الحقّ, قال تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾[41]، وقال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ[42]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً[43]. ولا ينافي انتساب هذا المعنى من الهداية إليه تعالى بنحو الأصالة, انتسابه إلى غيره تعالى بنحو التبع, بتخلُّل الأسباب بينه تعالى، وبين ما ينسب إليه من الأثر بإذنه.

 

ومعنى الآية – إنْ كان المراد بالهدى إراءة الطريق -: إنّا إنّما نُبيّن لكم ما نُبيّن, لأنّه من إراءة طريق العبوديّة. وإراءة الطريق علينا.

 

وإنْ كان المراد به الإيصال إلى المطلوب, فالمعنى: إنّا إنّما نيسّر هؤلاء لليسرى من الأعمال الصالحة أو من الحياة السهلة الأبدية ودخول الجنّة, لأنّه من إيصال الأشياء إلى غاياتها. وعلينا ذلك.

 

وأمّا التيسير للعسرى, فهو ممّا يتوقّف عليه التيسير لليسرى, ﴿لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ﴾[44]. وقد قال سبحانه في القرآن الذي هو هدى للعالمين: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا[45]. ويمكن أن يكون المُراد به, مطلق الهداية, أعمّ من الهداية التكوينيّة الحقيقيّة والتشريعيّة الاعتبارية – على ما هو ظاهر إطلاق اللفظ – فله تعالى الهداية الحقيقيّة, كما قال: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى[46]، والهداية الاعتبارية, كما قال: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾[47]،.

 

الآية (13): ﴿وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى﴾:

أي, عالم البدء، وعالم العود, فكلّ ما يصدق عليه أنّه شيء, فهو مملوك له تعالى, بحقيقة الملك, الذي هو قيام وجوده بربّه القيّوم. ويتفرّع عليه, الملك الاعتباري، الذي من آثاره جواز التصرّفات. فهو تعالى يملك كلّ شيء من كلّ جهة, فلا يملك شيء منه شيئاً، فلا معارض يُعارضه، ولا مانع يمنعه، ولا شيء يغلبه, كما قال: ﴿وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾[48]، وقال: ﴿وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ[49]، وقال: ﴿وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء﴾[50]،[51].

 

الآية (14): ﴿فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى﴾:

تفريع على ما تقدّم, أي: إذا كان الهدى علينا, فأنذرتكم نار جهنّم, وبذلك يُوجَّه ما في قوله تعالى: ﴿فَأَنذَرْتُكُمْ﴾، من الالتفات عن التكلّم مع الغير إلى التكلّم وحده, أي إذا كان الهدى قضية محتومة, فالمنذِر بالأصالة, هو الله، وإنْ كان بلسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. وتلظّى النار,

 

تلهّبها وتوهّجها. والمراد بالنار التي تتلظّى, جهنم, كما قال تعالى:  ﴿كَلَّا إِنَّهَا لَظَى﴾[52].[53]

 

الآية (15): ﴿لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى﴾:

المراد بالأشقى, مطلق الكافر، الذي يكفر بالتكذيب والتولّي, فإنّه أشقى من سائر من شَقِيَ في دنياه, فمن ابتُلِيَ في بدنه, شَقِيَ، ومن أُصيب في ماله أو ولده مثلاً, شقي، ومن خسر في أمر آخرته, شقي. والشقي في أمر آخرته, أشقى من غيره, لكون شقوته أبديّة، لا مطمع في التخلّص منها, بخلاف الشقوة في شأن من شؤون الدنيا, فإنّها مقطوعة لا محالة مرجوّة الزوال عاجلاً.

 

فالمراد بالأشقى, هو الكافر المكذِّب بالدعوة الحقّة، المعرض عنها, على ما يدلّ عليه توصيفه بقوله تعالى: ﴿الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾, ويؤيّده إطلاق الإنذار.

 

وأمّا الأشقى, بمعنى أشقى الناس كلّهم, فمّما لا يساعد عليه السياق البتّة.

 

والمُراد بصلي النار, اتّباعها ولزومها, فيفيد معنى الخلود, وهو ممّا قضى الله به في حقّ الكافر، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[54]. وبذلك يندفع ما قيل: إنّ قوله تعالى: ﴿لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى﴾ ينفي عذاب النار عن فسّاق المؤمنين, على ما هو لازم القصر في الآية, وجه الاندفاع: أنّ الآية إنّما تنفي عن غير الكافر الخلود فيها، دون أصل الدخول[55].

 

الآية (16): ﴿الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾:

صفة الأشقى, وأنّه مكذِّب بالدعوة الحقّة، معرض عنها[56].

 

الآية (17): ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى﴾:

التجنيب, التبعيد، وضمير “سيجنّبها“, للنار. ومعنى الآية: سيبعد عن النار الأتقى. والمراد بالأتقى, من هو أتقى من غيره, ممّن يتّقي المخاطر, فهناك من يتّقي ضيعة النفوس, كالموت والقتل، ومن يتّقي فساد الأموال، ومن يتّقي العدم والفقر, فيمسك عن بذل المال، وهكذا، ومنهم من يتّقي الله, فيبذل المال، وأتقى هؤلاء الطوائف, من يتّقي الله, فيبذل المال لوجهه, فيتّقي خسران الآخرة, بالتزكّي, بالإعطاء. فالمفضّل عليه الأتقى, هو من لا يتّقي بإعطاء المال، وإنْ اتّقى سائر المخاطر الدنيويّة، أو اتّقى الله بسائر الأعمال الصالحة.

 

فالآية عامّة, بحسب مدلولها، غير خاصّة، ويدلّ عليه, توصيف الأتقى, بقوله تعالى: ﴿الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ …﴾, وهو وصف عامّ، وكذا ما يتلوه، ولا ينافي ذلك كون الآيات أو جميع السورة نازلة لسبب خاصّ, كما ورد في أسباب النزول. وأمّا إطلاق المفضَّل عليه, بحيث يشمل جميع الناس, من طالح أو صالح, ولازمه انحصار المفضَّل في واحد مطلقاً أو واحد في كلّ عصر، ويكون المعنى: وسيجنّبها من هو أتقى الناس كلّهم, وكذا المعنى في نظيره: لا يصلاها إلا أشقى الناس كلّهم, فلا يساعد عليه سياق آيات صدر السورة، وكذا الإنذار العامّ الذي في قوله تعالى: ﴿فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى﴾, فلا معنى لأنْ يُقال: أنذرتكم جميعاً ناراً لا يخلد فيها إلا واحد منكم جميعاً، ولا ينجو منها إلا واحد منكم جميعاً[57].

 

الآية (18): ﴿الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى﴾:

صفة للأتقى, أي الذي يُعطي ويُنفق ماله, يطلب بذلك أن ينمو نماءً صالحاً[58].

 

الآية (19): ﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى﴾:

تقرير لمضمون الآية السابقة, أي ليس لأحد عنده من نعمة تُجزى, تلك النعمة, بما يؤتيه من المال، وتكافأ، وإنّما يؤتيه لوجه الله, ويؤيّد هذا المعنى, تعقيبه بقوله تعالى: ﴿إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾. فالتقدير, من نعمة تجزى به، وإنّما حُذِفَ الظرف, رعايةً للفواصل، ويندفع

 

بذلك ما قيل: إنّ بناء “تُجزى“, للمفعول, لأنّ القصد ليس لفاعل معيّن[59].

 

الآية (20): ﴿إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾:

استثناء منقطع, ومعنى الآية: ولكنّه يؤتي ماله طلباً لوجه ربّه الأعلى[60].

 

الآية (21): ﴿وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾:

أي, ولسوف يرضى هذا الأتقى, بما يؤتيه ربّه الأعلى, من الأجر الجزيل، والجزاء الحسن الجميل. وفي ذِكْر صفتي الربّ والأعلى, إشعار بأنّ ما يؤتاه من الجزاء, أنعم الجزاء وأعلاه, وهو المناسب لربوبيّته تعالى وعلوّه[61].

 

بحث تفسيريّ: طرق معرفة الله تعالى[62]

1- معرفة الله عبر طريقَي الآفاق والأنفس:

حثّ القرآن الكريم على التفكّر والتدبّر في آيات الخَلْق, بوصفها آثاراً ومظاهر وجوديّة تحكي عن جمال الخالق وجلاله، وقد أرشد إلى طريقين من التفكّر والتدبّر، أحدهما: التفكّر في الآيات الآفاقيّة، والآخر: التفكّر في الآيات الأنفسيّة: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ[63], ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ[64].

 

فمعرفة الآيات بما هي آيات مُوصِلة إلى معرفة الله سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله, ككونه تعالى حيّاً لا يعرضه موت، وقادراً لا يشوبه عجز، وعالماً لا يُخالطه جهل، وأنّه تعالى هو الخالق لكلّ شيء، والمالك لكلّ شيء، والربّ القائم على كلّ نفس بما كسبت، خلق الخَلْق لا لحاجة منه إليهم، بل ليُنعِمَ عليهم بما استحقّوه، ثمّ يجمعهم ليوم الجمع لا ريب فيه,

 

ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. وهذه وأمثالها معارف حقّة إذا تناولها الإنسان وأتقنها مثَّلت له حقيقة حياته، وأنّها حياة مؤبّدة, ذات سعادة دائمة، أو شقاوة لازمة، وليست بتلك المتهوّسة المنقطعة اللاهية اللاغية، وهذا موقف علمي يهدي الإنسان إلى تكاليف ووظائف بالنسبة إلى ربّه، وبالنسبة إلى أبناء نوعه في الحياة الدنيا والحياة الآخرة، وهي التي نُسمّيها بالدين، فإنّ السنّة التي يلتزمها الإنسان في حياته، ولا يخلو عنها حتى البدويّ والهمجيّ, إنّما يضعها ويلتزمها أو يأخذها ويلتزمها لنفسه, من حيث إنّه يُقدِّر لنفسه نوعاً من الحياة, أيّ نوع كان، ثمّ يعمل بما استحسنه من السنّة لإسعاد تلك الحياة، وهذا من الوضوح بمكان. فالحياة التي يُقدّرها الإنسان لنفسه تُمثّل له الحوائج المناسبة لها، فيهتدى بها إلى الأعمال التي تضمن – عادة – رفع تلك الحوائج، فيطبّق الإنسان عمله عليها, وهو السنّة أو الدين.

 

ومن هنا، كان النظر في الآيات الأنفسيّة والآفاقيّة ومعرفة الله سبحانه بها يهدي الإنسان إلى التمسّك بالدين الحقّ والشريعة الإلهيّة, من جهة تمثيل المعرفة المذكورة الحياة الإنسانيّة المؤبّدة له عند ذلك، وتعلّقها بالتوحيد والمعاد والنبوّة. وهذه هداية إلى الإيمان والتقوى، يشترك فيها الطريقان معاً, أي طريقي النظر إلى الآفاق والأنفس.

 

2- المعرفة الأنفسيّة أنفع من المعرفة الآفاقيّة:

عن الإمام علي عليه السلام: “المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين“. والمراد بالمعرفتين: المعرفة بالآيات الأنفسيّة والمعرفة بالآيات الآفاقيّة. وكون السير الأنفسيّ أنفع من السير الآفاقيّ, لعلّه لكون المعرفة النفسانيّة لا تنفكّ عادة من إصلاح أوصافها وأعمالها بخلاف المعرفة الآفاقيّة, لأنّ النظر إلى آيات النفس أنفع لا يخلو من العثور على ذات النفس وقواها وأدواتها الروحيّة والبدنيّة، وما يعرضها من الاعتدال في أمرها أو طغيانها أو خمودها، والملكات الفاضلة أو الرذيلة، والأحوال الحسنة أو السيّئة التي تُقارنها. واشتغال الإنسان بمعرفة هذه الأمور والإذعان بما يلزمها مِن أمن أو خطر وسعادة أو شقاوة لا ينفكّ من أن يُعرِّفه الداء والدواء من موقف قريب، فيشتغل بإصلاح الفاسد منها، والالتزام بصحيحها، بخلاف النظر في الآيات الآفاقيّة, فإنّه، وإنْ دعا إلى إصلاح النفس وتطهيرها من سفاسف

 

الأخلاق ورذائلها، وتحليتها بالفضائل الروحيّة، لكنّه ينادي لذلك من مكان بعيد, وهو ظاهر.

 

كما أنّ النظر في الآيات الآفاقيّة والمعرفة الحاصلة من ذلك, نظر فكريّ وعلم حصوليّ، بخلاف النظر في النفس وقواها وأطوار وجودها والمعرفة المتجلّية منها, فإنّه نظر شهوديّ وعلم حضوريّ، والتصديق الفكريّ يحتاج في تحقّقه إلى نظم الأقيسة واستعمال البرهان, وهو باقٍ ما دام الإنسان متوجّهاً إلى مقدّماته، غير ذاهلٍ عنها، ولا مشتغلٍ بغيرها, ولذلك يزول العلم بزوال الإشراف على دليله، وتكثر فيه الشبهات، ويثور فيه الاختلاف. وهذا بخلاف العلم النفسانيّ بالنفس وقواها وأطوار وجودها, فإنّه من العيان, فإذا اشتغل الإنسان بالنظر إلى آيات نفسه، وشاهد فقرها إلى ربّها، وحاجتها في جميع أطوار وجودها, وجد أمراً عجيباً, وجد نفسه متعلّقة بالعظمة والكبرياء، متّصلة في وجودها، وحياتها، وعلمها، وقدرتها، وسمعها، وبصرها، وإرادتها، وحبّها، وسائر صفاتها وأفعالها, بما لا يتناهى بهاء، وسناء، وجمالاً، وجلالاً، وكمالاً, من الوجود، والحياة، والعلم، والقدرة، وغيرها من كلّ كمال.

 

3- المعرفة الأنفسيّة طريق للمعرفة الشهوديّة:

النفس الإنسانيّة لا شأن لها إلا في نفسها، ولا مخرج لها من نفسها، ولا شغل لها إلا السير الاضطراريّ في مسير نفسها، وأنّها منقطعة عن كلّ شيء كانت تظنّ أنّها مجتمعة معه، مختلطة به, إلا ربّها المحيط بباطنها وظاهرها وكلّ شيء دونها، فوجدت أنّها دائماً في خلا مع ربّها، وإن كانت في ملا مِن الناس. وعند ذلك، تنصرف عن كلّ شيء، وتتوجّه إلى ربّها، وتنسى كلّ شيء، وتَذْكُر ربّها, فلا يحجبه عنها حجاب، ولا تستتر عنه بستر, وهو حقّ المعرفة الذي قُدِّر لإنسان. وهذه المعرفة الأحرى بها أن تُسمّى بمعرفة الله بالله، وأمّا المعرفة الفكريّة التي يُفيدها النظر في الآيات الآفاقيّة, سواء حصلت من قياس، أو حدس، أو غير ذلك, فإنّما هي معرفة بصورة ذهنيّة عن صورة ذهنيّة، وجلّ الإله أن يُحيط به ذهن، أو تساوي ذاته صورة مُختَلَقة اختلقها خَلْق مِن خَلقه، ولا يحيطون به علماً: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾[65], ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ[66].

 

ومن هنا، فإذا اشتغل الإنسان بآية نفسه، وخلا بها عن غيرها, انقطع إلى ربّه من كلّ شيء، وعقب ذلك معرفه ربّه معرفة بلا توسيط وسط، وعلماً بلا تسبيب سبب, إذ الانقطاع يرفع كلّ حجاب مضروب، وعند ذلك يذهل الإنسان بمشاهدة ساحة العظمة والكبرياء عن نفسه، وينكشف له عند ذلك من حقيقة نفسه أنّها الفقيرة إلى الله سبحانه، المملوكة له ملكاً لا تستقلّ بشيء دونه, قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ[67].

 

الأفكار الرئيسة

1- هذه السورة مكّيّة, تتضمّن 21 آية، وتحوي مجموعة من المحاور: معرفة الله تعالى/ انقسام الناس إلى مؤمنين وكافرين/ الإحسان إلى الآخرين/ البخل وطلب الاستعلاء/ التقوى/ الإخلاص لله/ الرضا/ …

 

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

 

3- في تفسير السورة: قسمٌ بالليل إذا غطّت ظلمته النهار، وبالنهار إذا ظهر بعد خفاء، وبالله خالق الذكر والأنثى, وهم من نوع واحد, ولكنّ سعيهم متفرّق مختلف, تبعاً لاختلاف اختياراتهم, مع أنّ الهداية ميسّرة لكلّ واحد منهم واضحة الطريق والمعالم، فمَنْ أنفق المال لوجه الله واتّقاه وصدّق بوعده, فسيحيا حياة طيّبة، ومَنْ طلب الغنى بالإعراض عن الله تعالى والاستغناء عنه والبخل في بذل ما أعطاه الله تعالى، والتكذيب بوعده, فسيهوي إلى نار جهنّم, فالأمر في الدنيا والآخرة بيد الله تعالى, لأنّه المالك الحقيقي لكلّ شيء, والأشياء قائمة الوجود به, فيجزي المحسن المخلص في عمله أحسن الجزاء، ويُعاقب المسيء ويُعذّبه عذاباً شديداً.

 

4- النظر في الآيات الأنفسيّة والآفاقيّة ومعرفة الله سبحانه بها يهدي الإنسان إلى التمسّك بالدين الحقّ والشريعة الإلهيّة, من جهة تمثيل المعرفة المذكورة الحياة الإنسانيّة المؤبّدة له عند ذلك، وتعلّقها بالتوحيد والمعاد والنبوّة.

 

فكّر وأجب

 

1- أَجِبْ بـ ü أو û:

– هذه السورة مكّيّة على قول أغلب المفسِّرين.

– معنى “تردّى”: أي هلك.

– المراد بالتصديق بالحسنى: الإحسان إلى الآخرين.

 

2- أَجِبْ باختصار:

– بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾؟

—————————————————————-

 

– بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى﴾؟

—————————————————————-

 

– بيّن معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾؟

[1] الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص373.

[2] الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص367.

[3] انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص373, السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص357.

[4] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص302.

[5] الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص375-376.

[6] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة “شَتَّ”، ص177.

[7] سورة الزلزلة، الآية 6.

[8] سورة طه، الآية 53.

[9] سورة الحشر، الآية 14.

[10] سورة الأنفال، الآية 63.

[11] الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة “شَتَتَ”، ص445.

[12] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج2، مادّة “رَدَى”، ص506.

[13] سورة الليل، الآية 11.

[14] سورة طه، الآية 16.

[15] سورة الصافات، الآية 56.

[16] الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة “رَدَأ”، ص351.

[17] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة “لَظَّ”، ص206.

[18] سورة الليل، الآية 14.

[19] سورة المعارج، الآية 15.

[20] الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة “لَظَى”، ص740.

[21] سورة الأعراف، الآية 54.

[22] انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص374-375, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص302.

تفسير بالمصداق: ما رواه محمد بن مسلم، قال سألت أبا جعفرعليه السلام، عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾, قال: “الليل في هذا الموضع, فلان، غشي أمير المؤمنين في دولته التي جرت له عليه, وأمير المؤمنينعليه السلام يصبر في دولتهم, حتّى تنقضي. قال: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾, قال: النهار هو القائم عليه السلام منّا أهل البيت، إذا قام, غلب دولته الباطل. والقرآن ضُرِبَ فيه الأمثال للناس، وخاطب الله نبيّه به ونحن، فليس يعلمه غيرنا”. (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص425).

[23] انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص375, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص302.

تَدَبُّر: – التعبير عن غشيان الليل بصيغة المضارع، بخلاف تجلية النهار التي عُبِّر عنها بصيغة الماضي, حيث قيل: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾, للدلالة على الحال, ليكون فيه إيماء إلى غشيان الفجور قبل زمن البعثة النبويّة المباركة، وانكشاف ظلمة الفجور وتجلّي نور الرسالة المحمّديّة, بعد البعثة, حيث إنّ بين هذه الأقسام وبين المقسم بها نوع اتّصال وارتباط.

– في ذِكْر الليل والنهار وما يلحقهما من غشيان الظلمة وانبعاث الضياء, أعظم النعم, إذ لو كان الدهر كلّه ظلاماً, لَمَا أمكن الخلق طلب معايشهم، ولو كان ذلك كلّه ضياء, لما انتفعوا بسكونهم وراحتهم.

[24] انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص375, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص302.

تَدَبُّر: – نكتة التعبير بـ “ما”، دون “مَنْ”, تكمن في إثارة الإبهام, المُشعِر بالتعظيم والتفخيم.

– القسم بـ”الليل” و”النهار” و”الذَكَر” و”الأنثى”, لتنبيه الإنسان إلى الدلائل والآيات الآفاقيّة والأنفسيّة على وجود الله تعالى ووحدانيّته وصفاته وأفعاله, قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (سورة فصّلت، الآية 53)، ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ (سورة الذاريات، الآيتان 20 و 21).

[25] انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص375, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص302.

[26] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص302-303.

تفسير بالمصداق: ما رواه أبو الخطّاب، عن أبي عبد الله عليه السلام، في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾, قال: “بالولاية, ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾، ﴿ أَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى﴾, فقال: بالولاية, ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾”. (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص426).

تَدَبُّر: التقوى شرط لقبول العطاء, فالعطاء في نفسه ليس مطلوباً، بل المطلوب الدافع الكامن وراء هذا العطاء.

[27] انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص376, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص303.

[28] انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص376-377, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص303.

[29] انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص377, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص303.
تَدَبُّر: منشأ البخل راجع إلى خوف الفقر في المستقبل، وسوء الظنّ بالله وبوعوده الأخرويّة.

[30] انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص377, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص303.

دَبُّر: منشأ البخل راجع إلى خوف الفقر في المستقبل، وسوء الظنّ بالله وبوعوده الأخرويّة.

[31] م.ن.

[32] انظر: م.ن.

[33] سورة الذاريات، الآية 56.

[34] سورة آل عمران، الآية 51.

[35] سورة الشورى، الآيتان 52 – 53.

[36] سورة النحل، الآية 9.

[37] سورة الأحزاب، الآية 4.

[38] سورة الإنسان، الآية 3.

[39] سورة الشورى، الآية 52.

[40] سورة يوسف، الآية 108.

[41] سورة طه، الآية 123.

[42] سورة النحل، الآية 97.

[43] سورة النساء، الآية 122.

[44] سورة الأنفال، الآية 37.

[45] سورة الإسراء، الآية 82.

[46] سورة طه، الآية 50.

[47] سورة الإنسان، الآية 3.

[48] سورة الرعد، الآية 41.

[49] سورة يوسف، الآية 21.

[50] سورة إبراهيم، الآية 27.

[51] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص305.

[52] سورة المعارج، الآية 15.

[53] انظر: مجمع البيان، م.س، ج10، ص377, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص305.

تفسير بالمصداق: روى عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد اللهعليه السلام، في قوله تعالى: ﴿فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾, قال: “في جهنّم وادٍ فيه نار لا يصلاها إلا الأشقى (أي فلان) الذي كذّب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في علي عليه السلام، وتولّى عن ولايته، ثمّ قالعليه السلام: النيران بعضها دون بعض, فما كان من نار هذا الوادي فللنصّاب”. (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص426).

[54] سورة البقرة، الآية 39.

[55] انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص377-378, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص305-306.

تَدَبُّر: تنكير النار “ناراً”, للإشارة إلى أنّ نار الآخرة أمرها عظيم ومجهول بالنسبة إلينا.

[56] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص306.

[57] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص306.

[58] انظر: م.ن.

[59] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص307.

[60] انظر: م.ن.

تَدَبُّر: نكتة الالتفات في قوله تعالى: ﴿وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾, من سياق التكلّم وحده إلى الغيبة, الإشارة إلى الوصفين: “ربّه” و”الأعلى”، وما فيهما من دلالة على أنّ إعطاء الجزاء على عمل العباد, هو بيد الخالق الأعلى.

[61] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص307.

[62] انظر: م.ن، ج6، ص170-175, ج18، ص373-374.

[63] سورة الذاريات، الآيتان 20 – 21.

[64] سورة فصّلت، الآية 53.

[65] سورة طه، الآية 110.

[66] سورة الصافات، الآيتان 159 – 160.

[67] سورة فصّلت، الآية 53.

شاهد أيضاً

فيديو: المقاومة الإسلامية تستهدف دبابة “ميركافا” في محيط موقع المطلة

فيديو: المقاومة الإسلامية تستهدف دبابة “ميركافا” في محيط موقع المطلة نشر الإعلام الحربي في المقاومة ...