الدرس الخامس
الجبر والاختيار
مقدّمة:
قد مرّ في الدرس السابق (العدل) عند الحديث عن معالم عدالة اللَّه تعالى، إنه جلَّ وعلا لا يضل أحداً من عباده، ولا يعاقبهم على ما لا اختيار لهم فيه، هذه المقولات البديهية خالفها جماعة من المسلمين وجوّزوا على اللَّه تعالى ما لا يليق بعدله وعظمته، حيث وقع الكلام هل أن الإنسان مجبر على أفعاله أي ليس له إرادة واختيار وأن كل فعل يصدر منه بغير إرادته واختياره وإنما هو كالآلة تحركه قوة أكبر منه، أم أن الإنسان هو مريد ومختار يفعل بمحض إرادته واختياره ولا يجبره أحد على فعله!
من هنا احتاج الأمر إلى إفراد بحث عن الجبر والاختيار لكي يتوضح الأمر أكثر.
الجبر عند المشركين:
تنص الآيات القرآنية على أن المشركين كانوا معتقدين بالجبر وسلب الاختيار، وإليكم فيما يلي ما ذكره القرآن في هذا المجال:
1- يقول تعالى: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْء﴾1.
ولكن الذكر الحكيم يرد عليهم تلك المزعمة بقوله:
﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ﴾2.
2- ويقول تعالى في آية أخرى حاكياً كلام المشركين في تعليل ارتكابهم الفحشاء بأمر من اللَّه تعالى: ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ابَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون﴾3.
3- ويقول تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُون﴾4.
فهذه الآيات وغيرها من الآيات تبين لنا موقف المشركين من الجبر الإنساني، المرفوض بصراحة في القرآن الكريم.
الاعتقاد بالجبر عند بعض المسلمين:
المؤسف أن بعض المسلمين وقعوا في شبهة الجبر التي وقع فيها المشركون نظراً إلى التفسير الخاطئ لبعض الآيات الكريمة التي تسند الخلق والفعل للَّه تعالى حيث اعتبروا أن اللَّه تعالى هو الذي يفعل كل الأفعال من دون اختيار وإرادة للإنسان وكأن الإنسان فقط آلة يتحرّك كيف يشاء اللَّه تعالى كقوله تعالى: ﴿اللَّهُ
1- الأنعام: 148.
2- الأنعام: 148.
3- الأعراف: 28.
4- الزخرف: 20.
خَالِقُ كُلِّ شَيْء﴾5 ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّه﴾6 ﴿واللَّه خلقكم وما تعملون﴾7.
الرد عليهم:
ولكن هؤلاء المسلمين لو أمعنوا النظر في كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ لوجدوا آيات كثيرة تدل على إسناد الفعل إلى العباد مما يدل على أن الإنسان مختار ومريد لأفعاله، يقول تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ﴾8.
﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُس﴾9.
﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾10.
هذه الآيات الكريمة، واضحة في إسناد الأفعال إلى نفس الإنسان حيث إنهم يكتبون بإرادتهم واختيارهم ويتبعون الظن وأهواء أنفسهم وأن التغيير منوط بإرادتهم ويوجد آيات كثيرة تدل على ذلك حتى أنه وللأسف ظهرت فرق من المسلمين تقول إن الإنسان يفعل بإرادته واستقلاله من دون تعلق لإرادة اللَّه تعالى في أفعاله أي أن اللَّه فوَّض للإنسان أفعاله على نحو الاستقلال من دون تدخل للقدرة الإلهية في شيء من أفعاله.
وبالطبع فإن هذه العقيدة أعظم بطلاناً من الأولى لأنها تجعل الإنسان خالقاً في قبال اللَّه سبحانه وتعالى وكأنه شريك للَّه في خلق الأفعال واللَّه تعالى يقول في كتابه: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾11.
5- الزمر: 62.
6- فاطر: 3.
7- الصافات: 36.
8- البقرة: 79.
9- النجم: 23.
10- الرعد: 11.
11- التكوير: 29.
عقيدة الشيعة بين الجبر والتفويض:
ذهب الشيعة في عقيدتهم إلى الأمر بين الأمرين كما قال الإمام الصادق عليه السلام: “لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين، سئل عليه السلام ما الأمر بين الأمرين؟ قال عليه السلام: مثل ذلك رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته، ففعل تلك المعصية، فليس حيث لم يقبل منك فتركته أنت الذي أمرته بالمعصية”12.
وقال البصري لأبي عبد اللَّه عليه السلام: الناس مجبورون؟ قال عليه السلام: لو كانوا مجبورين لكانوا معذورين، قال: ففوض إليهم؟
قال عليه السلام: “لا، قال: فما هم؟ قال: علم منهم فعلاً فأوجد فيهم آلة الفعل، فإذا فعلوا كانوا مع الفعل مستطيعين”13.
تبيَّن أن عقيدة الشيعة هي لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين فإن اللَّه تعالى هو خلق السبيل وخلق الإنسان وأعطاه القدرة والاختيار وكل ذلك متعلق بقدرة اللَّه واختياره أيضاً ولكن يختار اللَّه لنا ما نختاره لأنفسنا لذلك ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾14 ولذلك صحت المحاسبة.
يقول تعالى: ﴿مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾15.
ويقول تعالى: ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِين﴾16.
ويقول تعالى حاكياً قول الشيطان الرجيم: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾17.
وكذلك صح الثواب والعقاب.
12- الاعتقاد للشيخ المفيد، ص30.
13- تفسير القمي، ج1، ص227.
14- الإنسان: 3
15- النساء: 123.
16- الطور: 21.
17- إبراهيم: 22.
يقول تعالى: ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون﴾18.
وقوله تعالى:﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ امِنُون﴾19.
وقوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَة﴾20.
وأيضاً مما يدل على ذلك الآيات التي تعلِّق أفعال العباد على مشيئتهم كقوله تعالى: ﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر﴾21 ﴿فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا﴾22.
ومما يؤيد ذلك أيضاً الآيات التي تأمر الناس بالعمل وإلا لولا وجود الاختيار لكان الأمر عبثاً ولغواً تعالى اللَّه عن ذلك علوَّاً كبيراً.
كقوله تعالى: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين﴾23.
وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾24.
عقيدة الجبر والسياسة:
إن عقيدة الجبر التي ظهرت عند بعض الفرق الإسلامية إنما وراؤها غاية سياسية استغلَّها الحكام للوصول إلى مآربهم الشخصية والسلطوية وكذلك لتبرير أفعالهم وانتهاكاتهم. يقول الشهيد مطهري رحمه الله: “يشير التاريخ إلى أن مسألة القضاء والقدر كانت مستمسكاً صلباً وقوياً لحكام بني أمية الذين كانوا من
18- الأنعام: 160.
19- النمل: 89.
20- النحل: 97.
21- الكهف: 29.
22- المزمل: 19.
23- آل عمران: 133.
24- التوبة: 105.
المؤيدين الأشداء لمسلك الجبر، وكانوا يقتلون المؤيدين للاختيار والحرية البشرية بتهمة أنهم من المعارضين للمعتقدات الدينية أو كانوا يرمونهم في السجون حتى عرف في ذلك الوقت أن الجبر والتشبيه أمويان والعدل والتوحيد علويان”25.
ويقول أبو هلال العسكري: “إن معاوية أول من زعم أن اللَّه يريد أفعال العباد كلها”26.
ويقول ابن قتيبة: “وإن أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء وليس للعباد خيرة من أمرهم”27.
وجرى على هذه السياسة سائر الخلفاء الأمويين وتبعهم العباسيون.
السِّر في ذلك:
السر في انتهاج هذه السياسة هو:
1- سلب إرادة واختيار الناس وإجبارهم على الانصياع للسلطة.
2- إظهار إرادة الحكام الظالمين على أنها إرادة اللَّه تعالى ليبرروا ظلمهم وجرائمهم أمام الناس وساعدهم على ذلك علماء السوء ووعَّاظ السلاطين.
خلاصة الدرس
تنص الآيات القرآنية على أن المشركين كانوا معتقدين بالجبر وسلب الاختيار، وردَّ القرآن الكريم على مزاعمهم، يقول تعالى: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْء﴾ ويقول تعالى: ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن
25- دروس في العقيدة الإسلامية (ري شهري)، ص143.
26- الأوائل، ج2، ص125.
27- الإمامة والسياسة، ج1، ص171.
تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُون﴾.
المؤسف أن بعض المسلمين وقعوا في شبهة الجبر التي وقع فيها المشركون نظراً إلى التفسير الخاطئ لبعض الآيات الكريمة التي تسند الخلق والفعل إلى اللَّه تعالى.
هؤلاء المسلمون لو أمعنوا النظر في كتاب اللَّه تعالى لوجدوا آيات كثيرة تدل على إسناد الفعل إلى العباد أيضاً.
ذهب الشيعة في عقيدتهم إلى الأمر بين الأمرين.
للحفظ
قال الإمام الصادق عليه السلام: “لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين، سُئِل عليه السلام ما الأمر بين الأمرين؟ قال عليه السلام: مثل ذلك رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته، ففعل تلك المعصية، فليس حيث لم يقبل منك فتركته أنت الذي أمرته بالمعصية”.
أسئلة حول الدرس
1- ما معنى أن الإنسان مجبر على أفعاله؟
2- لماذا وقع بعض المسلمين في شبهة الجبر؟
3- ما هي عقيدة الشيعة في الجبر والتفويض؟
4- اذكر بعض الآيات التي تدل على اختيار الإنسان؟
5- اذكر العلاقة بين عقيدة الجبر والسياسة؟
للمطالعة
التكليف بأقل من الطاقة:
لو صلى جميع البشر وصاموا لما زادوا في ملك اللَّه شيئاً، ولو أنهم ارتكبوا المعاصي بأجمعهم لما نقضوا من ملك اللَّه شيئاً فكل نفع أو ضرر يعود على الإنسان نفسه.
ومع أن الأمر والنهي من أجل مصلحة الإنسان إلا أنه قد روعي فيها جانب العدل أي أنها بمقدار قدرة الإنسان وطاقته بل أقل من ذلك. ونقرأ في دعاء العديلة.
(لم يكلف الطاعة إلا دون الوسع والطاقة) فمع أن الإنسان قادر على أكثر من هذا إلا أن التكاليف وردت بأقل من ذلك وكمثال على ذلك لاحظوا هذه الصلاة اليومية وهي سبع عشرة ركعة فما أسهلها على الإنسان وبإمكانه أن يطيل فيها أو يختصرها، فلو أن اللَّه تبارك وتعالى أوجب عليه مائة ركعة لكان قادراً على الإتيان بها إلا أن لطف اللَّه اقتضى أن تكون التكاليف سهلة وخفيفة كمّاً وكيفاً.
وقد وردت في الروايات أن الإمام عليه السلام نهى عن نذر تكاليف بأن يوجب الإنسان على نفسه صلاة بواسطة النذر لأنه قد صعب على نفسه ما سهله اللَّه له.
لقد جعل صلاة الليل مستحبة حتى لا يشق ذلك على أحد مع أن الفائدة منها كبيرة جداً فكل إنسان يصل إلى أي مقام معنوي فهو ببركة صلاة الليل، وفي بداية الإسلام كان من الواجبات أن يقضي المسلم قسماً من الليل بالعبادة ولكن اللَّه عزَّ وجلَّ سهله بعد ذلك للمشقة والعسر على بعض الناس كالمريض والمسافر ورفع ذلك الوجوب ليكون سهلاً على الجميع.
إذن فقد روعي في التكاليف جانب العدل. (التوحيد والعدل للشهيد دستغيب، ص94).
إقرأ
اسم الكتاب: عقائد الإمامية
المؤلف: اسمه ونسبه: الشيخ محمد رضا بن محمد بن عبد اللَّه المظفر
منهج الكتاب: يقول الشيخ المظفر عن كتابه هذا: أمليت هذه (المعتقدات)، وما كان القصد منها إلاّ تسجيل خلاصة ما توصَّلت إليه من فهم المعتقدات الإسلامية على طريقة آل البيت عليهم السلام سجلت هذه الخلاصات مجرّدة عن الدليل والبرهان، ومجردة عن النصوص الواردة عن الأئمة فيها على الأكثر؛ لينتفع بها المبتدئ والمتعلّم والعالم، وأسميتها «عقائد الشيعة» وغرضي من الشيعة الإمامية الإثني عشرية خاصة.
استعراض الأفكار الأساسية والأفكار الفرعية المهمة:
المقدمة في الاجتهاد والتقليد.
الفصل الأول الإلهيات.
الفصل الثاني النبوة.
الفصل الثالث الإمامة.
الفصل الرابع ما أدب به آل البيت شيعتهم.
الفصل الخامس المعاد.