الرئيسية / من / طرائف الحكم / الثورة الحسينية: خصائص ومرتكزات‏

الثورة الحسينية: خصائص ومرتكزات‏

العاطفة الحسينيَّة وتجسيد القيم‏

وشخص كالإمام الحسين عليه السلام  حيث شكَّل تجسيداً لكل القيم الإلهية والإنسانية  ينهض بالثورة حتى يقف بوجه استشراء الانحطاط الذي أخذ يتفشى في أوصال المجتمع وأوشك أن يأتي على كل شي‏ء فيه. بلغ الانحطاط أن لو شاء الناس العيش حياة إسلامية كريمة، فانهم يجدون أيديهم خالية من كل شي‏ء. وفي ظرف كهذا يثبت الإمام الحسين ويقف بكل وجوده أمام ذلك الخواء والفساد المتصاعد، ويضحّي من أجل القِيم الإلهية بنفسه وبأحبائه وبابنيه: علي الأصغر وعلي الأكبر، وبأخيه العباس.. ثم يصل إلى النتيجة المطلوبة.

أحيا الإمام الحسين عليه السلام بثورته خط ونهج جده رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، وهو معنى قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: »حسينٌ منِّي وأنا من حسين«. هذا هو الوجه الاخر للقضية. فواقعة كربلاء الزاخرة بالحماسة، وهذه الملحمة الخالدة لا يمكن إدراك كنهها إلاَّ بمنطق العشق وبمنظار الحب. فهي واقعة لا يتيسر النظر إليها إلاَّ بعين العشق ليفهم ما الذي صنعه الحسين بن علي من بطولة ومجد خلال يوم وليلة، أي منذ عصر يوم التاسع من المحرَّم وحتى عصر العاشر منه.. بحيث خلَّده في هذه الدنيا وسيخلّده إلى الأبد، ولهذا أخفقت جميع الجهود التي بُذلت لمحو حادثة الطف من الأذهان وطيّها في أدراج النسيان، وهذا ما تقدّمه بعض الصور الحيَّة من واقعة الطف.

في كتاب المقتل  المعروف باللهوف  لابن طاووس.. بعض تلك المشاهد العظيمة لذكر مصيبة الحسين عليه السلام. وكتاب المقتل هذا، كتابٌ معتبر جداً، ومؤلّفه السيد علي بن طاووس عالم فقيه وعارف كبير، وصدوق موثّق، وموضع احترام لدى الجميع، وأستاذ فقهاء كبار، وكان أديباً وشاعراً وذا شخصية بارزة، كتب أول مقتل مُعتبر وموجز. وقبل كتاب اللهوف كتب الكثير في مقتل الحسين عليه السلام، وحتى أستاذه  ابن نما  له كتاب في المقتل، والشيخ الطوسي أيضاً له كتاب في المقتل، وغيرهما. إلاَّ أنه حينما كتب »اللهوف« غطَّى على جميع الكتب الأُخرى في المقتل، لأنه كتاب قيّم اختيرت عباراته بدقَّة وإيجاز.

من جملة المشاهد التي يصورها في كتابه هذا هو بروز القاسم بن الحسن إلى الميدان، وكان فتى لم يبلغ الحلم. ليلة عاشوراء حيث أعلم الحسين عليه السلام أصحابه بأن المعركة ستقع وأنهم سيُقتلون جميعاً، فأحلَّهم وأذن لهم بالانصراف، فأبوا إلاَّ أن يكونوا إلى جنبه. وفي تلك الليلة سأل هذا الفتى عمَّه الإمام الحسين عليه السلام، هل سيُقتل هو أيضاً في ساحة المعركة؟ فأراد الإمام الحسين اختباره  على حد تعبيرنا  فقال له: كيف ترى الموت؟ قال: أحلى من العسل.

لاحظوا، هذا مؤشر على طبيعة القِيم التي كان يحملها أهل بيت الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ومن تربَّى في حجور أهل البيت. فقد ترعرع هذا الفتى منذ نعومة أظفاره في حجر الإمام الحسين عليه السلام. فكان عمره حين شهادة أبيه ثلاث أو أربع سنوات. فتكفَّل الإمام الحسين تربيته. وفي يوم عاشوراء وقف هذا الفتى إلى جانب عمّه.

وجاء في هذا المقتل ذكر هذه الواقعة على النحو التالي: »قال الراوي: وخرج غلام كأن وجهه شقّة القمر وجعل يقاتل«. لقد دوَّن الرواة كل أحداث ووقائع عاشوراء بتفاصيلها؛ فذكروا اسم الضارب والمضروب ومَن ضرب أولاً، واسم أول من رمى، ومن سلب، ومن سرق. فالشخص الذي سرق قطيفة أبي عبد اللَّه ذكروا اسمه، وكان يُطلق عليه في ما بعد لقب: »سارق القطيفة«.

ومن الواضح أن أهل البيت‏عليهم السلام ومحبيهم لم يتركوا هذه الحادثة تضيع في مجاهل التاريخ.

»فضربه ابن فضيل الأزدي على رأسه ففلقه، فوقع الغلام لوجهه وصاح: يا عمَّاه. فجلى الحسين عليه السلام كما يجلي الصقر، وشدَّ شدَّة ليث أغضب، فضرب ابن فضيل بالسيف فاتقاها بساعده فأطنَّها من لدن المرفق، فصاح صيحة سمعه أهل المعسكر، فحمل أهل الكوفة لينقذوه، فوطأته الخيل حتى هلك«.

دارت معركة عند مصرع القاسم.. هزمهم الحسين عليه السلام بعد أن قاتلهم.

قال الراوي: »وانجلت الغبرة، فرأيت الحسين عليه السلام قائماً على رأس الغلام وهو يفحص برجله، والحسين يقول: بُعداً لقوم قَتلوك«. يا له من مشهد مؤثّر يعكس رقَّة الحسين وحبّه لهذا الفتى، من جهة، وصلابته إذ أن له في القتال والتضحية من جهة أُخرى. كما ويدلّ أيضاً على ما لهذا الفتى من عظمة روحية، وما يتَّصف به الأعداء من قسوة تجعلهم يتصرفون مع هذا الفتى بمثل هذا السلوك.

ويصوّر كتاب اللهوف مشهداً اخر من مشاهد تلك الواقعة وهو بروز علي الأكبر للقتال، وكان مشهداً مثيراً حقَّاً من جميع أبعاده وجوانبه. فهو مثير من جهة الإمام الحسين، ومثير من جهة هذا الشاب  علي الأكبر  ومثير من جهة النساء وخاصة عمّته زينب الكبرى. وذكروا أن عليَّاً الأكبر كان بين الثامنة عشر إلى الخامسة والعشرين سنة من عمره، أي أنه كان في الثامنة عشر من عمره على أقل التقدير أو ما بينها وبين الخامسة والعشرين أو في الخامسة والعشرين على أعلى التقدير.

قال الراوي: »خرج علي بن الحسين، وكان أصبح الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً، فاستأذن أباه في القتال فأذن له«.

لما جاءه القاسم بن الحسن واستأذنه، لم يأذن له في بداية الأمر، وبعد أن ألحّ‏َ الغلام أذن له. أما بالنسبة لعلي بن الحسين، فبما أنه ابنه، فما أن استأذن حتى أذن له. »ثم نظر إليه نظرة ايسٍ منه وأرخى‏عليه السلام عينيه وبكى«.

هذه هي إحدى الخصائص العاطفية التي يتميز بها المسلمون، وهي البكاء عند المواقف والأحداث المثيرة للعواطف. فأنتم تلاحظون أنه‏عليه السلام بكى في مواقف متعددة، وليس بكاؤه عن جزع ولكنه لشدّة العاطفة. والإسلام ينمّي هذه العاطفة لدى الفرد المسلم.

ثم قال: »اللَّهم اشهد فقد برز إليهم غلامٌ أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك«.

أريد أن أبيّن لكم هنا مسألة وهي أن فترة الطفولة التي عاشها الحسين إلى جنب جدّه، كان النبي يحبه كثيراً، وكان هو بدوره أيضاً شديد الحب لرسول اللَّه. وكان تقريباً في السادسة أو السابعة من عمره عند وفاة الرسول وبقيت صورته عالقة في ذهنه، وحب الرسول متجذّر في أعماق قلبه.. ثم رزقه اللَّه في ما بعد ولداً، هو علي الأكبر.. مضت الأيَّام وشبّ هذا الفتى وإذا به يشبه في خلقته رسول اللَّه تمام الشبه، فترسَّخ حبّه في قلب الحسين كحبّه للنبي، فكان هذا الفتى يشبه النبي في شكله وشمائله وفي صوته وكلامه وفي أخلاقه، ويحمل نفس ذلك الكرم والشرف المحتد.

ثم قال عليه السلام: »وكُنَّا إذا اشتقنا إلى نبيّك نظرنا إليه«. ثم صاح الحسين عليه السلام: »يا ابن سعد قطع اللَّه رحمك كما قطعت رحمي«.

فتقدم علي الأكبر نحو القوم فقاتل قتالاً شديداً وقتل جمعاً كثيراً، ثم رجع إلى أبيه وقال: »يا أبت العطش قد قتلني وثقل الحديد قد أجهدني، فهل إلى شربة ماءٍ من سبيل«؟

فقال له الحسين: »قاتل قليلاً فما أسرع ما تلقى جدّك محمداًصلى الله عليه و آله و سلم فيسقيك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها«. فرجع إلى موقف النزال وقاتل أعظم القتال، وبعد أن ضُرب نادى: »يا أبتاه عليك السلام، هذا جدي يُقرؤك السلام ويقول لك عجّل القدوم علينا«.

هذه مشاهد مروّعة من تلك الواقعة الخالدة، ولم تكن واقعة الطفولة هذه استنقاذاً لحياة شعب أو حياة أمّة فحسب، وإنما كانت استنقاذاً لتأريخ بأكمله. فالإمام الحسين عليه السلام، وأخته زينب عليها السلام، وأصحابه وأهل بيته عليهم السلام أنقذوا التاريخ بموقفهم البطولي ذاك.

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...