القرآن في الاسلام – الأستاذ العلامة السيد الطباطبائي
18 مايو,2023
القرآن الكريم
204 زيارة
لماذا تكلم القرآن بأسلوب الظاهر والباطن :
1 الانسان في حياته البدائية القصيرة الدنيوية يشبه الحبات ( 1 ) الذي يعلو الماء ،
إذ ركز أوتاد خباء وجوده في مياه بحر المادية وكل ما يقوم به من المساعي والجهود
أعطيت أزمتها بيد ذلك البحر المادي الهائج .
اشتغلت حواسه الظاهرية والباطنية بالمادة ، وأفكاره انما تتبع معلوماته الحسية . فان
الأكل والشرب والجلوس والقيام والتكلم والاستماع والذهاب والاياب والحركة والسكون
وكل ما يقوم به الانسان من الأعمال والأفعال وضعت أسسها على المادة ولا يفكر الا
فيها .
وما نراه في بعض الأحيان من الآثار المعنوية – كالحب والعداء وعلو الهمة ورفعة
المقام وأمثالها – انما يدركها بعض الأفهام لأنها تجسم مصاديق مادية ، فان الانسان
يقيس حلاوة الغلب بحلاوة السكر وجاذبية الصداقة بجاذبية المغناطيس وبعلو الهمة بعلو
مكان ما أو علو نجوم السماء وعظم المقام ورفعته بعظم الجبل وما أشبه هذه الأشياء .
ومع هذا تختلف الأفهام في ادراك المعنويات التي هي أوسع نطاقا من الماديات ، فان بعض
الأفهام في غاية الانحطاط في درك المعنويات ، وبعضها تدرك ادراكا قليلا ، وهكذا تندرج
إلى أن تصل بعض الأفهام بسهولة إلى درك أوسع المعنويات غير المادية .
وعلى كل حال فكلما تتقدم الأفهام نحو ادراك المعنويات تقل تعلقها بالمظاهر المادية
المغرية ، وكلما قل تعلقها بالمادة زادت في ادراكها ، ومعنى هذا أن كل انسان بطبيعته
الانسانية فيه الاستعداد الذاتي لهذا الادراك ، ولو لم يشبه بالشوائب العرضية لأمكن
تربيته وتقدمه .
2 نستنتج مما سبق أنه لا يمكن حمل ما يدركه الذي هو في المرتبة العليا من الفهم
والعقل على الذي هو في المرتبة السفلى ولو حاولنا هذا الحمل لكانت نتيجته عكسية ،
وخاصة في المعنويات التي هي أهم من المحسوسات المادية ، فإنها لو ألقيت كما هي على
العامة لأعطت نتيجة تناقض النتيجة الصحيحة المتوخاة .
ولا بأس أن تمثل ها هنا بالمذهب الوثني . فلو تأمل الباحث في قسم اوبانيشاد من كتاب
ويدا الكتاب البوذي المقدس ، لو تأمل الباحث فيه وقارن بين أقواله مقارنة صحيحة
ليرى أنه يهدف إلى التوحيد الخالص . ولكنه مع الأسف يستعرض هدفا بلا ستار وعلى مستوى
أفكار العامة ، فكانت النتيجة أن اتجه ضعفاء العقول من الهنود إلى عبادة أوثان شتى .
إذا لا يمكن رفع الستار بصورة مكشوفة عن الأسرار الغيبية وما يتعلق بما وراء الطبيعة
والمادة للماديين ومن لم يذعن بالحقائق .
3 بالرغم مما نجده في الأديان من حرمان العامة من كثير من المزايا الدينية ،
كحرمان المرأة في البرهمية واليهودية والمسيحية وحرمان غير رجال الدين من ثقافة
الكتاب المقدس في الوثنية والمسيحية . . بالرغم من كل ذلك فان أبواب الدين الاسلامي
لم تغلق في وجه أحد ، فان المزايا الدينية فيه للجميع وليست ملكا لفئة خاصة ، فلا فرق
بين العامة والخاصة والرجل والمرأة والأبيض والأسود ، كلهم مساوون في نظر الاسلام
وليس لأحد ميزة على أحد .
قال تعالى : ( اني لا أضيع عمل عامل منكم ومن ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ) ( 1 ) .
وقال عز من قائل : ( يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل
لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم ) ( 2 ) .
* * * بعد تقديم هذه المقدمات الثلاث نقول : ان القرآن الكريم ينظر في تعاليمه القيمة إلى
الانسانية بما أنها انسانية ، ونعني أنه يوسع تعاليمه على الانسان باعتباره قابلا
للتربية والسير في مدارج الكمال .
ونظرا إلى أن الأفهام والعقول تختلف في ادراك المعنويات
ولا يؤمن الخطر عند القاء المعارف العالية كما أسلفنا . . يستعرض القرآن الكريم
تعاليمه بأبسط المستويات التي تناسب العامة ويتكلم في حدود فهمهم ومداركهم الساذجة .
ان هذه الطريقة الحكيمة نتيجتها أن تبث المعارف العالية بلغة ساذجة يفهمها عامة
الناس ، وتؤدي ظواهر الألفاظ في هذه الطريقة عملية الالقاء بشكل محسوس أو ما يقرب منه
وتبقى الحقائق المعنوية وراء ستار الظواهر فتتجلى حسب الأفهام ويدرك منها كل شخص
بقدر عقله ومداركه .
يقول تعالى : ( انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون . وانه في أم الكتاب لدينا لعلي
حكيم ) ( 1 ) .
ويقول ممثلا للحق والباطل ومقدار الأفهام : ( أنزل من السماء ماءا فسالت أودية
بقدرها ) ( 2 ) .
ويقول الرسول صلى الله عليه وآله في حديث مشهور : انا معاشر الأنبياء نكلم الناس
على قدر عقولهم ( 3 ) .
ونتيجة أخرى لهذه الطريقة ان ظواهر الآيات تكون كأمثلة بالنسبة إلى البواطن ، يعني
بالنسبة إلى المعارف الإلهية التي هي أعلى مستوى من أفهام العامة ، فتكون تلك
الظواهر كأمثال تقرب المعارف المذكورة إلى الأفهام ، يقول جل جلاله :
( ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس الا كفورا ) ( 1 ) .
ويقول : ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون ) ( 2 ) .
وفي القرآن الكريم كثير من الأمثال ، إلا أن الآيات المذكورة وما في معناها مطلقة
لا تختص بأمثال قرآنية خاصة . فعليه لا بد من القول بأن الآيات كلها أمثال بالنسبة إلى
المعارف العالية التي هي المقصد الأسمى للقرآن .
2023-05-18