الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على عبده المصطفى محمّد خاتم النبيّين وعلى أهل
بيته الطيّبين الطاهرين ، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، وعلى أصحابه الذين
أحسنوا الصحبة ، واستجابوا له ، وأسرعوا إلى وفادته ، وسابقوا إلى دعوته .
يتصدّر علم الطبّ سائر العلوم البشريّة المتنوّعة ؛ ذلك أنّ فلسفة العلوم هي :
استثمار الإنسان مواهب الحياة ، وهذا الهدف لا يتيسّر إلاّ في ضوء صحّة الجسد
والروح . ( 1 ) من هنا قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) :
” وَاعلَم أنَّهُ لا عِلمَ كَطَلَبِ السَّلامَةِ ، ولا سَلامَةَ كَسَلامَةِ القَلبِ ” . ( 2 )
ويدلّ هذا الكلام بوضوح على أنّ طبّ الروح من منظار الإسلام أغلى من طبّ
الجسد ، وطبّ الجسد أغلى من سائر العلوم ، وهذا ما يشير إليه الحديث النبويّ
الشريف الآتي أيضاً :
” العِلمُ عِلمانِ : عِلمُ الأَديانِ ، وعِلمُ الأَبدانِ ” . ( 3 )
التطبيب عمل الله
نقل القرآن الكريم على لسان إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) قوله : ( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) . ( 1 )
ويستبين من هذا الكلام أنّ التطبيب هو عمل الله تعالى ، وأنّ الطبيب الحقيقيّ
هو نفسه سبحانه . ( 2 ) فهو الّذي وضع الخواصّ الطبّية في العقاقير ، وجعل لكلّ داء في
نظام الخلق دواءه ( 3 ) ، ووهب الإنسانَ معرفةَ الأدواء وأدويتها وطريقة علاجها ،
فاتّخذه الإنسان بذلك رمزاً لاسم ” الطبيب ” و ” الشافي ” ، كما كان الأنبياء ( عليهم السلام ) رمزاً
لهذين الاسمين المقدَّسَين فيما يتّصل بعلاج الأمراض الروحيّة .
قال الإمام عليّ ( عليه السلام ) في وصف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) :
” طَبيبٌ دَوّارٌ بِطِبِّهِ ، قَد أحكَمَ مَراهِمَهُ ، وأحمى مَواسِمَهُ ، يَضَعُ ذلِكَ
حَيثُ الحاجَةُ إلَيهِ ، مِن قُلوب عُمي ، وآذان صُمٍّ ، وألسِنَة بُكم . مُتَتَبِّعٌ
بِدَوائِهِ مَواضِعَ الغَفلَةِ ، ومَواطِنَ الحَيرَةِ ” . ( 4 )
وهكذا يرى الإسلام أنّ الطبيب والدواء – روحيّين كانا أم جسديّين – يؤدّيان
دور الواسطة في النظام الكَونيّ الحكيم ، وأنّ المعالج هو الله سبحانه وحدَه .
موسوعة الأحاديث الطبّية
إذا كان الطبّ في اللغة ( 5 ) والنصوص الإسلاميّة يشمل علاج الأمراض الجسديّة
والنفسيّة ، وكان معالج الجسد كمعالج النفس رمزاً لأسماء الله الحُسنى ، مضافاً إلى
أنّ طبّ الجسد وطبّ النفس يتقاربان غاية القرب ، حتّى يتسنّى معالجة عدد من
الأمراض الجسديّة بتدبير نفسيّ ، ومعالجة بعض الأمراض النفسيّة بعقار جسديّ ،
فإنّ الفرعين من الطبّ موضوعان مستقلاّن في الكتابات الإسلاميّة . وطبّ النفس
موضوع علم الأخلاق ، فلا يُصطَلح عليه اسم الطبّ ، من هنا فإنّ موضوع موسوعة
الأحاديث الطبّية أحاديثُ تناولت الشؤون الصحيّة أو علاج الأمراض الجسديّة .
ومن الضروريّ قبل التعرّف على نصّ هذه الأحاديث ، بيان موقع الطبّ في
القوانين الإسلاميّة ، والتقويم العام للأحاديث الطبّية ، وكذا الإشارة إلى مراحل
تدوين هذه الموسوعة في ثلاثة فصول :
1
موقع الطبّ في القوانين الإسلاميّة
إنّ فلسفة الأحكام والقوانين الإسلاميّة تكامل المجتمع البشريّ مادّياً ومعنويّاً ،
فالإسلامُ يرى أنّ أعظم النِّعم الإلهيّة هي صحّة البدن ، وأكبر منها صحّة الروح ،
وكذلك فإنّ أخطر البلايا مرض البدن ، وأخطر منه مرض الروح .
لقد قال الإمام عليّ ( عليه السلام ) في هذا المجال :
” إنَّ مِنَ البَلاءِ الفاقَةَ ، وأشَدُّ مِن ذلِكَ مَرَضُ البَدَنِ ، وأشَدُّ مِن ذلِكَ
مَرَضُ القَلبِ ، وإنَّ مِنَ النِّعَمِ سِعَةَ المالِ ، وأفضَلُ مِن ذلِكَ صِحَّةُ البَدَنِ ،
وأفضَلُ مِن ذلِكَ تَقوَى القُلوبِ ” . ( 1 )
فإذا كان المرضُ أخطر بلاء ، والصحّةُ أكبر نعمة ، فما منهاج الإسلام – الذي
يرمي إلى سعادة الإنسان وتكامله – لمكافحة الأمراض وضمان سلامة المجتمع ؟
وبعبارة أُخرى ، ما موقع الطبّ في الأحكام والقوانين الإسلاميّة ؟
موقع الطبّ الوقائيّ في الإسلام
تدلّ دراسة النصوص الإسلاميّة بوضوح على أنّ الطبّ الوقائيّ ، والوقاية من
الأمراض ، وضمان سلامة المجتمع هي من الأهداف الأصليّة والحِكَم المهمّة
للأحكام الإسلاميّة . وقد بيّن الله تعالى أنّ القرآن الكريم ومناهجه النيّرة الرافدة
بالحياة توجّه المجتمع إلى طرق ضمان السلامة :
( يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَمِ ) . ( 1 )
وهكذا يستطيع الإنسان من خلالِ ارتباطه بالله تعالى وما بيّنه للحياة من مناهج
وسُبل أن يظفر بأعظم النِّعم الإلهيّة ، ولا يضمن سلامته وسعادته لا في الآخرة
فحسب ، بل يضمنهما في الدنيا أيضاً :
( مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالأَخِرَةِ ) . ( 2 )
وعلى هذا الأساس فإنّ ما يشكّل ضرراً وخطراً على سلامة الجسد أو الروح
فهو حرام أو مكروه ، وإنّ ما يكون لازماً ومفيداً لسلامة الإنسان فهو واجب أو
راجح ، وإنّ ما ليس فيه نفع أو ضرر للجسد أو الروح فهو مباح ، وهذا يعني : أنّ
الطبّ الوقائي محبوك في متن الأحكام الإسلاميّة الخمسة ، وأنّ التطبيق الدقيق
للقوانين الربّانيّة في الحياة يستتبع سلامة الجسد والروح . ( 3 )
يقول الإمام الرضا ( عليه السلام ) في الحكمة من الأحكام الإلهيّة التي أُحلّت للإنسان أو
حُرّمت عليه :
” إنّا وَجَدنا كُلَّ ما أحَلَّ اللهُ – تَبارَكَ وتَعالى – فَفيهِ صَلاحُ العِبادِ
وبَقاؤُهُم ، ولَهُم إلَيهِ الحاجَةُ الَّتي لا يَستَغنونَ عَنها ، ووَجَدنَا المُحَرَّمَ مِنَ
الأَشياءِ لا حاجَةَ بِالعِبادِ إلَيهِ ووَجَدناهُ مُفسِداً داعِياً لِلفَناءِ وَالهَلاكِ ” . ( 4 )
نلاحظ في هذا الكلام أنّ الإمام ( عليه السلام ) نصّ على أنّ ما أُحلّ من شرائع كالأكل ،
2
التقويم العامّ للأحاديث الطبّية
من الضروري الإجابة عن ثلاثة أسئلة أساسيّة قبل تقويم الأحاديث الطبّية :
السؤال الأوّل : هل لعلم الطبّ مصدر إلهيّ ؟ أي أنّه مستند إلى الوحي أم إلى
تجربة الإنسان ؟
السؤال الثاني : أكان لأئمّة الدين : رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأهل بيته ( عليهم السلام ) معرفة بعلم الطبّ أم لا ؟
السؤال الثالث : هَبْ أنّ لهم معرفةً بعلم الطبّ ، فهل يقوم الدين على أساس
مزاولة الشؤون الطبّية ، ومعالجة أنواع الأمراض الجسديّة ؟
1 . مصدر علم الطبّ
يرى بعض العلماء أنّ لعلم الطبّ مصدراً إلهيّاً ، وأنّه يستندُ على الوحي ، قال المفكّر
والمحقّق الكبير الشيخ المفيد ( قدس سره ) في هذا المجال :
” الطبّ صحيح ، والعلم به ثابت ، وطريقه الوحي ، وإنّما أخذ العلماء به
عن الأنبياء ؛ وذلك أنّه لا طريق إلى علم حقيقة الداء إلاّ بالسمع ، ولا
سبيل إلى معرفة الدواء إلاّ بالتوقيف ( 1 ) ، فثبت أنّ طريق ذلك هو السمع
عن العالم بالخفيّات تعالى ” . ( 2 )
يبدو أنّ حاجة الإنسان الأوّل كانت تستدعي قيام الوحي لرفده ببعض العلوم
التجريبيّة الضروريّة لحياته ، ويدعم هذا الرأي ما نقله السيّد رضي الدين علي بن
طاووس ( قدس سره ) عن بعض الكتب :
” إنَّ اللهَ – تَبارَكَ وتَعالى – أهبَطَ آدَمَ مِنَ الجَنَّةِ ، وعَرَّفَهُ عِلمَ كُلِّ شَئ ،
فَكانَ مِمّا عَرَّفَهُ النُّجومُ وَالطِّبُّ ” . ( 1 )
من هنا ، يمكننا أن نقول : إنّ بداية علم الطبّ كانت عن طريق الوحي ، ثُمّ زادته
تجربة العلماء فاتّسع تدريجيّاً ، ويتّسع على تواتر الأيّام ، لكنّ من زعم أنّ الوحي
هو الطريق الوحيد لهذا العلم ، فإنّ كلامه لا يقوم على برهان عقليّ أو شرعيّ ، كما
أثبتت التجربة بطلانه ، وما نُقل عن المرحوم الشيخ المفيد قوله إنّ طريقه : ” السمع
عن العالم بالخفيّات ” يصحّ إذا قُصد أنّه أحد طرقه ، لا أنّه الطريق الوحيد ، وإلاّ فلا .
2 . أهل البيت وعلم الطبّ
تدلّ دراسة دقيقة للأحاديث المأثورة عن أهل البيت ( عليهم السلام ) بشأن الخصائص العلميّة ،
ومبادئ العلوم ، وأنواعها ( 2 ) ، على أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والأئمّة ( عليهم السلام ) لم يتّصفوا بعلم الطبّ
فحسب ، بل بالعلوم جميعاً ، وليس ذلك عن طريق الاكتساب ، بل عن طريق خارق
للعادة ، حتّى أنّهم أنّى شاؤوا أن يعلموا شيئاً علموه ، كما قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
” إنَّ الإِمامَ إذا شاءَ أن يَعلَمَ عَلِمَ ” . ( 3 )
وبسبب هذا العلم الجمّ كان أمير المؤمنين عليّ ( عليه السلام ) يكرّر خطابه للناس قائلا :
” سَلوني قَبلَ أن تَفقُدوني ، فَإِنَّ بَينَ جَنبَيَّ عُلوماً كَثيرَةً كَالبِحارِ
الزَّواخِرِ ” . ( 1 )
وكان أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) قاطبةً زاخرين بهذا العلم ، ولم يتلكّؤوا في جواب أيّ
مسألة علميّة قطّ ، وقد قال الإمام الرضا ( عليه السلام ) في هذا الشأن :
” إنَّ العَبدَ إذَا اختارَهُ اللهُ عزّ وجلّ لأُِمورِ عِبادِهِ شَرَحَ صَدرَهُ لِذلِكَ ، وأَودَعَ قَلبَهُ
يَنابيعَ الحِكمَةِ ، وأَلهَمَهُ العِلمَ إلهاماً ، فَلَم يَعيَ بَعدَهُ بِجَواب ، ولا يُحَيَّرُ ( 2 )
فيهِ عَنِ الصَّوابِ ” . ( 3 )
من هنا ، لا ريب في أنّ أهل البيت ( عليهم السلام ) كانوا ملمّين بعلم الطبّ ، وإذا ثبت أنّهم
قالوا شيئاً يتعلّق بمسألة من مسائله ، فإنّ كلامهم مطابق للواقع حتماً .والشرب ، والزواج ، وغيرها أمور يحتاج إليها الناس ؛ لضمان سلامتهم ورفاهيتهم
ورخائهم ، وبها تتعلّق مصالح حياتهم وبقائهم ، وعلى العكس فإنّ ما حُرّم عليهم
أُمور لا يحتاجون إليها ، بل هي مضرّة لسلامتهم ورخائهم ، وتؤدّي إلى هلاكهم
وفنائهم .