بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ الكريم. عبارة عن جهد جبّار قام به مركز نون للتأليف والترجمة، حيث تمّ مطالعة ومراقبة الدورة العقائديّة الكاملة للشهيد مرتضى مطهّري قدس سره المؤلّفة من خمسة مجلّدات في اللغة العربيّة، ثمّ مقابلتها باللغة الفارسيّة وعمد إلى تفادي بعض الأخطاء الموجودة في الترجمة، وإلى تصحيح بعض العبارات، ثمّ قام المركز بالتوحيد والتأليف بين المطالب المتفرّقة في أنحاء هذه الدورة، وجمعها بشكل علميّ وموضوعيّ، وحذف الموارد الاستطراديّة التي تُناسب المحاضرات ولا تُناسب الكتب العلميّة الدراسيّة، وترتيب هذه الأبحاث دروساً يسهل على الأستاذ تقديمها، وعلى الطالب الاستفادة منها، وقد راعى المركزُ الأساليبَ العلميّة المتّبعة حديثاً في الدروس، من وضع الأهداف والمختصرات والأسئلة، لتكبر الفائدة من الكتاب.
كما وقام المركز بوضع عناوين للفقرات الطويلة، حتّى يسهل على الطالب حصر الفكرة والموضوع المطروح.
فهذا الكتاب هو فكر الشهيد مرتضى مطهّري قدس سره الموجود في الدورة العقائديّة الكاملة، حرّره ولخصه ورتبّه وراقبه وبوَّبه مركز نون.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يزيد به أجر الشهيد، وينفع به الأمّة الإسلاميّة ويتقبّل عمل المركز إنّه نِعم المولى ونِعم المجيب.
مركز نون للتأليف والترجمة
التوحيد
مبادئ عامّة
طرق التوحيد طريق الفطرة
الطريق العلميّ
التوحيد ونظريـّة التطوّر
البراهين الفلسفية والعقليـّة
توحيد الذات
الصفات
الدرس الأول: مبادئ عامـّة في التوحيد
أهداف الدرس
1- توضيح الفارق بين طريقة حلّ المسائل وأسلوب العرض.
2- إختيار الأسلوب السليم لعرض مسألة التوحيد.
3- إثبات قدرة العقل الإنساني على إدراك ما وراء المحسوسات.
4- إثبات قدرة العقل على معرفة الله وكيفية تصوره.
5- توضيح عدم التنافي بين إمكانية إثبات وجود الله وتناهي الزمان والمكان.
6- إثبات أن ارتباط المعلول بعلته لا يستلزم كونه حادثاً.
يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾1.
يعرّف القرآن الكريم المؤمنينَ الإلهيّين، بأنّهم الذين يعتقدون بأنّ العالم غير محدود ومحصور في إطار عالم الطبيعة والمادّة المسمّى بعالم الشهادة، فهم يؤمنون بمسائل ترتبط بعالم وراء عالم المحسوسات، وذلك العالم هو عالم ما وراء الطبيعة المسمّى بعالم الغيب2.
وعلى رأس هذه المسائل هي مسألة التوحيد، بمعنى الاعتقاد بأصل وجود الله3، وقد صرّح بذلك أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: “أوّل الدين معرفته”4.
وقبل الدخول في البحث، لا بدّ من تقديم بعض المقدّمات:
1- البقرة: 3.
2- في المقابل فإنّ الماديّين لا يؤمنون بأكثر من عالم الطبيعة والمادّة التي يشهدونها ويحسّون بها مباشرة بحواسّهم الخارجيّة، وهذا من الفوارق بين الماديّين والإلهيّين. فيما يحاول البعض المغالطة في ذلك، حيث يعتمد التمييز بينهما ـ كما نشاهد في الكتب الفلسفيّة الأوروبيّة ـ بكون الماديّ هو الذي ينكر وجود الروح ويؤمن بوجود المادّة، في مقابل المثاليّ الذي ينكر وجودها ويؤمن بوجود الروح فحسب.
3- سيأتي في البحوث اللاحقة بحث التلازم بين الإيمان بالله والإيمان بوحدانيّته، ونحن هنا ننطلق من منطلق الترادف بينهما.
4- نهج البلاغة / الخطبة الأولى.
المقدّمة الأولى: التصوّر الصحيح لمسألة التوحيد:
تنقسم المسائل المشكلة التي يُراد حلُّها إلى قسمين:
القسم الأوّل: هي المسائل التي تكمن صعوبتها في معرفة طريقة حلّها، مع كون عرضها- كمسألة- في غاية السهولة، فيعرضها الجميع بنحو واحد، وذلك من قبيل مسائل الرياضيّات، (وهذا ما يُعبّر عنه في المنطق بأنّ المشكلة في التصديق لا في التصوّر).
القسم الثاني: هي المسائل التي تكمن مشكلتها في فقدان العرض الصحيح والتصوّر السليم لها، ممّا يثير إشكالات في حلّها، وذلك من قبيل المسائل الفلسفيّة، فقد يبحث المفكّر عن حلّ مسألة فترةً طويلةً من الزمن دون جدوى، بينما تكمن مشكلته في أنّه وضع من الأساس تصوّراً خاطئاً لها. فالأساس في مثل هذه المسائل هو التصوّر الذهني السليم، ممّا لا يجعل مشكلة في التصديق، (وهذا ما يصطلح عليه في المنطق بأنّ المشكلة في التصوّر لا في التصديق).
وفي مورد بحثنا، وهو مسألة التوحيد، فإنّ هذه المسألة تعتبر من القسم الثاني، حيث الإشكالات التي تثار حولها هي نتيجة عدم العرض الصحيح لهذه المسألة الجليلة، وسنوضّح ذلك بالمثال.
مثال لإشكالات نشأت عن عدم التصوّر الصحيح لمسألة التوحيد:
يذكر العلماء بأنّ مسألة التوحيد هي مسألة فطريّة، ممّا أثار في الأذهان اعتراضات وإشكالات، بأنّه لو كان كذلك صحيحاً، لما انقسم الناس، في كلّ عصر وعلى مختلف الطبقات- حتى العلماء، إلى معسكرين، أحدهما يؤمن بالتوحيد والآخر ينكره!
فعلى الأقلّ، لا تقولوا إنّ مسألة التوحيد فطريّة، بل هي معضلة فكريّة عجز الإنسان عن التوصّل إلى حلّ يقينيّ ضروريّ بشأنها.
والجواب: إنّ الشبهات المثارة حول مسألة التوحيد تعود إلى تصوّرهم وعرضهم غير الصحيح لهذه المسألة، فهم مثلاً يتصوّرون موجوداً ماديّاً يطلقون عليه اسم (الله)، ثم يثيرون الشبهات والشكوك حوله. وأمّا لو عُرضت المسألة بصورتها السليمة، لما وقعت هذه الشبهات، ولذا يمكن أن نعبّر عن مسألة التوحيد بأنّها من (السهل الممتنع).
إذاً، فالأولويّة في مسألة التوحيد هي العرض السليم لها. وهناك عدّة أمور لا بدّ أن يلاحظها الباحث عند التحرّك للبحث في مسألة التوحيد.
كيفيّة العرض السليم لمسألة التوحيد:
إذا أردنا البحث في إثبات وجود الله أو عدمه، فلا بدّ من الالتفات إلى عدّة أمورٍ تؤثّر في تكوين عرضٍ سليمٍ لهذه المسألة:
أوّلاً: الأشياء المراد إثباتها تنقسم إلى قسمين:
الأوّل: يشمل الأشياء التي يُراد إثبات وجودها كموجود مستقل يضاف إلى بقية الموجودات، كماإذا أريد إثبات وجود كوكبٍ سيّارٍ جديدٍ نضيفه إلى مجموعة الكواكب السيّارة، حيث نثبت وجودَ شيءٍ إلى جانب الأشياء.
الثاني: يشمل الأشياء التي يُبحث فيها عن موجودٍ، إنّما هو موجودٌ في الموجودات ومعها غير خارجٍ عنها، بل يمثّل امتداداً وجوديّاً لها.
وهذا النوع الثاني من قبيل الزمان5، فلو أراد الباحث إثبات وجود الزمان
5- احتدم الجدل حول مسألة الزمان منذ أمد بعيد بين العلماء والفلاسفة، فنفى كثير وجوده، فيما أثبته كوجود خارجيّ أكثرهم.
كعنصر إلى جانب العناصر الأخرى في مكانٍ ما من هذا العالم- أي بالطريقة نفسها التي يبحث فيها الفلكيّ عن كوكبٍ سيّارٍ جديدٍ، فإنّه لن يفلح أبداً في إثبات وجوده أو العثور عليه. ويختلف الحال فيما لو كوّن تصوّراً صحيحاً للزمان، وأنّه يمثّل بعداً للأشياء ومعها يضاف إلى أبعادها الثلاثة- الطول والعرض والعمق.وليس جزءاً من أجزاء عالم الطبيعة يقع إلى جنبها، فيتمحور بحثه عنه في دائرة وجود بُعدٍ وامتدادٍ آخر لموجودات عالم الطبيعة يسمّى (الزمان).
ومسألة التوحيد هي من قبيل النوع الثاني. ومثال الزمان يقرّب الفكرة في نوعيّة التوحيد الذي يُراد إثباته، إلا أنّه لا ينطبق عليه بالكامل، فإنّ الله عزّ وجلّ ليس بعداً وامتداداً في الأشياء، ولكنّه ينبّه إلى أنّنا حينما نبحث في التوحيد، فنحن لا نبحث عن وجودٍ محدودٍ يحتلّ مكاناً معيّناً وسط بقية الموجودات، بل عن موجودٍ: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾6، وموجود قد أحاطت ذاته بكل الأشياء: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾7، وموجود صدرت منه الموجودات جميعاً، وإليه تعود، فهو أوّلها وآخرها: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾8.
ثانياً: الالتفات إلى خصوصيّة الوجود الإلهيّ:
من الأمور التي لا بدّ للباحث أن يلاحظها عند وضعه التصوّر الصحيح لمسألة التوحيد، هو أن يأخذ بعين الاعتبار خصوصيّة أنّ ما يريد إثباته هو وجودٌ ليس كمثله وجودٌ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾9.
6- الحديد: 4.
7- البقرة: 115.
8- الحديد:3.
9- الشورى: 11.
ثالثاً: الالتفات إلى مفاهيم ترتبط بالوجود الإلهيّ:
وأخيراً فلا بدّ للباحث أن يراجع المفاهيم المرتبطة بالله جلّ وعلا، فإنّ وجوده- المراد إثباته- مرتبط بهذه المفاهيم، وذلك من قبيل: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾10، (سبحان ربّي العظيم)، فوجوده وجودٌ منزّهٌ وقدوسٌ، وكذلك: (الله أكبر) فهو أكبر من أن يوصف ومن أن يعتري وجوده أيّ شكلٍ من أشكال الحدّ والنقص.
المقدّمة الثانية: إمكان إثبات وجوده:
ظهرت في التاريخ الحديث وفي أوروبا فكرةٌ تقول بأنّ الإنسان عاجزٌ عن إثبات وجود الله أو نفيه، ذلك أنّ الوسائل المتاحة للإنسان والأدوات التي يمتلكها تنحصر في دائرة الحواس، وتنتمي إلى اكتشاف عالم المادّة، ولا يمكنها أن تطال عالمَ ما وراء الطبيعة، فلا يمكن إثبات وجود الله، لأنّه ليس من الموجودات المحسوسة، ولذلك، فحريّ بالإنسان أن يتوقّف في هذه المسألة المشكلة.
إلا أنّ أصحاب هذا الرأي قد أخطأوا في حصرهم دائرة علم الإنسان بالأمور المحسوسة، فقد غفلوا عن قدرات أخرى للإنسان، وهي القدرة الفكريّة – العقلية – التي تؤهّله للبحث وإصدار الأحكام بشأن مسائل غير محسوسة، ولذلك نرى أنّنا ندرك وجود كثيرٍ من الأشياء ونثبت وجودها دون أن نحسّ بها، فلا نقتصر على إدراك المحسوسات، فيُنقض على هؤلاء بما نثبته من أمور غير محسوسة، كوجود العليّة- وهي العلاقة والارتباط الوجوديّ القائم بين شيئين، بأن يكون وجود الشيء (أ) سبباً لوجود آخر (ب)11-، وكذلك ما يحكم الإنسان
10- الصافات:180.
11- وليس المراد من العليّة ما يتوهّمه البعض من التوالي الزمانيّ، فإنّ التوالي الزمانيّ ممكن حتى مع عدم وجود عليّة، كما أنّ التوالي الزمانيّ يمكن أن تدركه العين، من غير أن تحكم بارتهان وجود الثاني لوجود الأوّل!
بكونه ضروريّاً وما يقابله من المحال، كما يتعاطى الرياضيّ عندما يثبت أنّ مجموع زوايا المثلث يساوي مجموع زاويتين قائمتين، فيعتبر ذلك بعد أن يبرهن عليه ضروريّاً، ويعتبر غيره- بأن يكون مجموع زواياه أكثر أو أقلّ- محالاً. فمسألة كون الشيء محالاً أو ضروريّاً مسألة بديهيّة، مع أنّها تحمل مفهوماً يقع خارج دائرة المحسوسات، كما أقرّ العلم بوجود الزمان، مع أنّ الإنسان لا يمكن أن يدركه بأيّ حاسّة من حواسّه….12
وهنا يُطرح سؤالٌ آخر، وهو حول تمكّن العقل البشريّ من تصوّر الله.
قدرة العقل على تصوّر الله:
ثمّة ثلاثة أقوال في مسألة تمكّن العقل من تصوّر الله عزّ وجلّ:
1ـ ذهب العرفاء إلى عدم إمكانيّة المعرفة العقليّة لله، لكنّهم في المقابل أيّدوا إمكانيّة المعرفة القلبيّة الشهوديّة، وأسبغوا على هذه المعرفة قيمة فائقة، فاعترضوا على من يريد أن (يتعلّم من كتاب العقل آية العشق)13.
2ـ نفى آخرون كلّ معرفةٍ لله، وادّعوا أنّ تصوّر الله خارج عن قدرة الفكر البشريّ، لأنّ تصوّر أيّ شيءٍ هو لون من الإحاطة العلميّة به، فما يرد إلى الذهن البشريّ محدودٌ، والذات الإلهيّة لا يمكن الإحاطة بها، لأنّ ذاته مطلقةٌ غير محدودة.
من هنا، ذهب المعطّلة إلى أنّ المطلوب هو الاعتقاد المبهم كحال عامة الناس وأنكروا امكان معرفة ذات الباري.
12- كذلك استحالة الدور والتسلسل.
13- يعبّر العرفاء عن الانجذاب الباطنيّ القلبيّ إلى الله، والذي هو طريق الفطرة إلى إثبات وجود الله، بـ: (العشق)، وسيأتي ذلك في بحث طريق الفطرة.
ويؤيّد هؤلاء كلامهم ببعض ما ورد من النصوص الدينيّة:
يقول أمير المؤمنين في نهج البلاغة: (الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن)14، وفي خطبة أخرى: (وأنّك أنت الله الذي لم تتناهَ في العقول فتكون في مهبّ فكرها مكيّفاً، ولا في رويّات خواطرها فتكون محدوداً مصرّفاً)15، كما ورد في بعض النصوص: (احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار)16.
3ـ وهناك جماعة من العلماء يقولون: انّ ما طرحه المعطّلة، من عجز العقل البشريّ عن معرفة الله، غير صحيح، وقد فهم – المعطّلة – النصوص بشكل خاطئ، فإن ما تفيده هذه الروايات هو أنّ للإمكانات العقليّة البشريّة في معرفة الله حدوداً معيّنة لا يمكن تجاوزها وهو الصحيح.
ولذلك، يوجد في روايات المعصومين عليهم السلام توجيهاً للمسيرة العقليّة البشريّة، على خلاف ما يُدّعى من أنّها منعت العقل عن ورود هذا المعين، يقول أمير المؤمنين عليه السلام كما روي عنه: (لم يُطلع العقولَ على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته)17.
بل نحن نرى أنّ عليّاً عليه السلام قد طرح أبحاثاً عميقة جدّاً وبطريقة استدلاليّة عقليّة وفلسفيّة في مجال الإلهيّات، أبحاثاً ليس لها سابق في تاريخ الفكر الفلسفيّ18، وقد لعبت وصاياه دوراً هامّاً في الاهتمام بالأبحاث الإلهيّة العقليّة وفي تطويرها.
14- نهج البلاغة/ الخطبة الأولى.
15- نهج البلاغة/ الخطبة 89.
16- تحف العقول – ص245.
17- م.ن./ الخطبة 49.
18- يمكن ملاحظة خطب نهج البلاغة الكثيرة التي تتحدّث عن التوحيد، وهي مليئة بمثل الأبحاث المذكورة.
فالنتيجة: صحيح أنّ العقول عاجزةٌ عن الوصول إلى كنه الباري عزّ وجلّ، إلا أنّنا نؤمن بأنّها تتمكّن من معرفته ضمن حدود معيّنة، بل ثمّة مقدار واجب من هذه المعرفة.
كيفيّة تصوّر الله:
ولتتمّة البحث، لا بدّ من التعرّض لكيفيّة تصوّرنا لله عزّ وجلّ عبر عقولنا:
لا يمكن أن يرد تصوّر الله إلى الذهن عن طريق الحواس، ذلك أنّ مدركاتنا الحسيّة محدودة ومقيّدة والله تعالى حقيقة مطلقة، لا تنسجم المحدوديّة مع ذاته19، فهل يمكن تصوّره؟
ثمّ ما السبيل إلى تصوّره مع عدم وجود مصداقٍ حسيٍّ له لنتخيّله ثم نتعقّله؟
إنّ تصوّر الله ليس من نوع الماهيّات التي يلزم أن يكون لها مصداقٌ حسيٌّ ليتسنّى تصوّرها، بل هو تصوّر لسلسلة من المعاني والمفاهيم (المعقولات الفلسفيّة الثانية)، والتي ينتزعها العقل مباشرة من الصور الحسيّة والخياليّة، ويكون تصورّه لها في الذهن كليّاً.
وهذا من قبيل تصوّر مفاهيم: الوجود، الوجوب، العلّيّة، القِدَم، مع فارقِ أنّ تصوّر الله يكون مركّباً من عدّة مفاهيم، وليس من نوع التصوّر لمفهوم واحد، فنتصوّر الله بعنوانٍ انتزاعيٍّ عامٍّ، كـ: واجب الوجود، خالق الكلّ، الكمال المطلق، العلّة الأولى، دون أن نستطيع تصوّر كنه ذاته.
والنتيجة أنّ العقل الفلسفيّ قادر على معرفة الله ضمن إطار المفاهيم العامّة
19- كما أنّ الإدراكات الحسيّة من مقولة لا نعثر فيها على تصوّر الله.
بلا حاجة إلى مصداق حسيٍّ خارجيّ، ويستطيع أن يحكم على هذه المفاهيم، ممّا يؤسّس إلى علم معرفيّ برهانيّ20.
المقدّمة الثالثة: إثبات الله خارج دائرتي الزمان والمكان:
عندما نبحث في مسألة التوحيد عن إثبات وجود الله، فلا بدّ أن نبحث عن صفحةٍ خفيّةٍ خارج إطار الزمان والمكان، فلا نبحث عن موجودٍ نريد أن نعرف متى كان، كما لا نبحث عن موجودٍ نسأل عنه أين هو؟، لأنّنا نبحث عن وجودٍ كليٍّ ومحيطٍ بالأشياء، عن حقيقةٍ كاملةٍ مطلقةٍ، وليس عن شيءٍ كسائر الأشياء.
إذاً لا بدّ للباحث عن الله أن لا يُقحم عنصرَي الزمان والمكان في مسألة التوحيد.
المكان ومحدوديّته:
وعلى هذا الأساس نفهم أنّ النقاش الدائر حول النظريتين بشأن أبعاد العالم والفضاء الكوني، وأنّه هل له نهاية محدّدة21 أو أنه غير متناه22، لا يؤثّر على مسألة إثبات وجود الله، خلافاً لما يتوهّمه البعض. وتوضيح ذلك:
يعتقد البعض بأنّه لو ثبت أنّ الكون غير محدودٍ، لأثّر ذلك سلباً على إثبات التوحيد، وذلك لأنّنا لن نجد مكاناً خارج حدود كونِنا يقع فيه هذا الإله وملائكته.وبالتالي اعتقدوا بأنّ من شروط الاعتقاد بالتوحيد أن يكون هذا الكون محدوداً، ليكون وراءه سماءٌ يكون الله فيها.
20- بالنسبة لتفاصيل كيفيّة معرفة الله وصفاته، فإنّها ستأتي أخيراً ضمن البحث عن وحدانيّته وصفاته تعالى، بعد أن نثبت وجوده في البحوث الأولى.
21- كما يعتقد إينشتاين.
22- كما يذهب إليه موريس مترلينغ.
والجواب: أنّ الموجود الذي يتّخذ لنفسه مكاناً إلى جوار العالم ليس إلهاً في الواقع، والإله الحقيقيّ لا يحتاج في وجوده إلى مكان خاصّ به، بل هو موجودٌ في الأرض وفي السماء وفي جميع الموجودات على حدّ سواء: ﴿وَهُوَ الله فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ﴾23، ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾24.
تناهي الزمان:
أمّا المسألة الثانية، فهي مسألة تناهي الزمان، حيث يمهّد كثيرٌ من الموحّدين الأوربيين لمسألة الاعتقاد بوجود الله بمحدوديّة الزمان، فيتوهّمون بأنّه لنتمكّن من إثبات وجود الله، فلا بدّ أن تكون للزمان بدايةً، لأنّ الله هو الذي خلق العالم والزمان. وبعبارة أخرى: يتصوّرون وجود تلازمٍ حتميٍّ بين الإيمان بالله والاعتقاد بحدوث العالم (بأن يكون له نقطة بداية).
وفي الواقع إنّ هذه المسألة تشكّل إحدى القضايا المهمّة التي اختلفت بشأنها كلمة الموحّدين منذ القدم، فالمتكلّمون هم الذين يعتقدون بما تقدّم من ضرورة حدوث العالم، ويقع على الطرف النقيض منهم الفلاسفة حيث يرون عكس ذلك، ونبيّن النظريّة التي يعتقد بها الفلاسفة في ما يلي:
نظريّة الفلاسفة:
يعتقد الفلاسفة الإلهيّون المسلمون- قاطبةً- أنّ الإيمان بالله يستلزم الاعتقاد بعدم وجود بداية للعالم، فإنّ وجود الله بحدّ ذاته دليلٌ على عدم وجود بدايةٍ للعالم الكونيّ، لأنّ وجوده هو الوجود الكامل والتامّ من جميع الجهات، والمنزّه عن جميع أشكال الوجود بالقوّة والاستعداد، فلا يمكن أن يكون فاقداً لشيءٍ ثمّ
23- الأنعام: 3.
24- البقرة: 115.
يحصل عليه فيما بعد، فهذا يعني أنّه واجب الوجود من جميع الجهات، فكل ما فيه واجبٌ وضروريّ.
وهذا يصدق على فيضه وخالقيّته، فلا يمكن أن لا يكون خالقاً منذ الأزل ثمّ يصبح خالقاً فيما بعد، فخالقيّته لا بدّ أن تكون غير محدودةٍ، كما أنّ إلهيّته غير محدودةٍ، لا في ذاتها ولا في أفعالها.
وفي الأدعية المأثورة ما يشير إلى هذا المعنى، مثل تعبير: (يا قديم الإحسان)، فهو يفيد أنّ الإحسان الإلهيّ – الذي يعني الخلق والإيجاد وإيصال الفيض الإلهيّ إلى مخلوقاته – هو إحسانٌ قديمٌ وموجودٌ دائماً.
القرآن والخالقيّة:
أمّا بالنسبة للمنطق القرآنيّ، فهو عندما يشير إلى هذا الموضوع، فإنّ غاية ما يثبته هو كون الله هو الخالق، يقول تعالى: ﴿ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾25، وفي آية أخرى: ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبــَارَكَ الله رَبُّ الْعَالَمِـينَ﴾26 دون أن يكون ثمّة فرقٌ بين أن يكون العالم محدوداً أو غير محدودٍ، فالله خلقه وكانت له بدايةٌ أم لا.
معنى كون العالم مخلوقاً ومعلولاً:
قد يسأل سائل: إذا كان العالم قديماً، فكيف يمكن وصفه بأنّه مخلوقٌ؟! فالمخلوق هو الذي لم يكن ثمّ كان؟!
والجواب: إنّ المخلوقيّة- ومعلوليّة المعلول لعلّته- لا تستلزم كون المعلول
25- الأنعام: 102.
26- الأعراف: 54.
معدوماً في زمانٍ ثمّ يظهر للوجود لاحقاً، بل يكفي أن يكون وجوده مفاضاً عليه من غيره، وأن تكون ذاته قائمةً بغيره- بأن يكون ممكن الوجود، بحيث يكون وجوده بعلّةٍ خارجةٍ عن ذاته. وإذا كان الأمر كذلك، فلا يؤثّر فيه أن يكون مسبوقاً بعدمٍ أو لا.
إذاً، ليس للعدم الزمانيّ أيّ دورٍ في كون الشيء معلولاً لغيره أو لا، فلو فرضنا وجود شيءٍ من الأزل إلى الأبد، ولكنّ وجوده مرتهنٌ بوجود الله ومفاضٌ منه جلّ وعلا، فإنّ هذا الشيء يكون مخلوقاً ومعلولاً لله، فـ (الحدوث الذاتيّ) للأشياء يكفي لإثبات كونها مخلوقةً لله عزّ وجلّ.
وبعبارة أخرى: إنّ معنى الخالق هو أنّه القيّوم، أي الذي يقوم به عالم الخلق.
إفتقار الكون إلى الله:
وممّا يترتّب على اعتقاد الفلاسفة الإلهيّين، هو أنّ الكون كما هو فقيرٌ إلى الله في أصل وجوده، فهو يفتقر إليه في استمراره أيضاً.
وكذلك فإنّ الروح الإلهيّة لم تُنفخ في الحيّ الأوّل فحسب، بل الحياة دائماً وفي كلّ الأحوال، سواء في البداية أم خلال التكامل، هي فيض إلهيّ.
فكما أنّ آدم أبا البشر مخلوقٌ بفيضٍ إلهيٍّ، كذلك جميع البشر. ولذلك نجد القرآن عندما يسرد قصّة النبيّ آدم عليه السلام، وبالرغم من أنّه يذكر مجموعةً كبيرةً من الدروس والتعليمات، فإنّه لم يستدل بخلقه عليه السلام على التوحيد، وذلك لما أشرنا إليه من أنّ الإفاضة لم تقتصر على آدم عليه السلام ليقتصر استدلال القرآن على التوحيد بقصّته، بل إفاضة الحياة من الله تعمّ جميع المخلوقات، وبذلك يستدلّ على التوحيد، ولا يتمسّك في الاستدلال على التوحيد بموضوع بدء الحياة والخليقة فحسب.
النتيجة:
يعتقد الفلاسفة الإلهيّون بأنّ الله خالق هذا العالم الكونيّ بلا حاجةٍ إلى سؤال: متى خلقه؟، لأنّ الله مستمرٌ في إفاضته وخلقه لهذا العالم، سواء كانت له بدايةٌ أم لا.
خلاصة الدرس
ـ يمتاز المؤمنون عن الماديّين بأنّهم يعتقدون بعالم الغيب، بالإضافة إلى اعتقادهم بعالم الشهادة.
ـ يؤمن الإلهيّون بسلسلة اعتقاداتٍ، يقع على رأسها مسألة التوحيد.
ـ هناك عدّة مقدّمات لا بدّ منها للوصول إلى نتيجةٍ صحيحةٍ في مسألة التوحيد:
1ـ المقدّمة الأولى: إنّ التوحيد من نوع المسائل التي تكمن مشكلة حلّها في وضع تصوّرٍ صحيحٍ لها، وإذا أردنا أن نضع تصوّراً صحيحاً لمسألة التوحيد، فلا بدّ من الالتفات إلى أمورٍ:
أ- إنّ ما نريد إثباته هو موجود في الأشياء ومعها، وليس إلى جنبها.
ب- وأنّه موجودٌ ليس كمثله شيء.
ج- وأنّ هناك بعض المفاهيم المرتبطة به، فهو وجودٌ منزّهٌ وقدّوسٌ…
2ـ المقدّمة الثانية: ادّعى البعض بأنّ الإنسان بأجهزته- الحواسّ- التي يمتلكها، عاجزٌ عن إدراك وجود الله، على فرض كان موجوداً، وهؤلاء قد غفلوا عن إمتلاك الإنسان للقدرة الفكريّة التي تؤهّله لإصدار الأحكام بشأن المسائل غير المحسوسة.
3ـ المقدّمة الثالثة: عندما نبحث عن الله، فلا بدّ أن نبحث عن وجودٍ كليٍّ ومطلقٍ، محيطٍ بالأشياء، فنبحث عنه خارج دائرتي الزمان والمكان، ولذا، فلا يؤثّر في إثبات وجوده كون المكان محدوداً أو لا، ولا كون الزمان متناهياً أو لا.
أسئلة الدرس
1- أين تكمن مشكلة التوحيد، في التصوّر أو التصديق؟
2- ما هي أهمّ المسائل التي ينبغي رعايتها للعرض الصحيح لمسألة التوحيد؟
3- ما هي مشكلة من ادّعى عدم إمكان إثبات وجوده تعالى؟
4- هل يستطيع العقل أن يتصوّر الله؟ وكيف؟
5- هل يقع البحث عن الله في داخل دائرتي الزمان والمكان أو خارجهما؟