الاتفاق النووي الإيراني سيفتح الباب مجدداً للنشاط الصيني في الخليج، بالتوازي مع تعقيد أهداف الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
يعتبر مؤيدو الاتفاق النووي من الأميركيين أنّ إتمام الاتفاق من مصلحة واشنطن، إذ سيمكّنها وحلفاءها من التركيز على مواجهة بكين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. لكن في المقابل، تشير آراء أخرى إلى أنّ التوصّل إلى اتفاق سيؤدي إلى تعزيز قوة إيران في المنطقة، وتمكين الصين من تعزيز نفوذها في منطقة الخليج فضلاً عن نفوذها المتعاظم في المحيطين الهندي والهادئ.
إيران، التي عانت من عزلة دبلوماسية واقتصادية بسبب العقوبات الدولية التي ترزح تحت وطأتها منذ سنوات عديدة، سعت للحصول على الدعم من بعض البلدان لفك عزلتها، من بينها الصين التي أصبحت في السنوات الأخيرة الشريك التجاري الأول، ووجهة مهمة لصادراتها من الطاقة، ومستثمراً رئيسياً في قطاع الصناعة الإيراني.
ورغم تراجع التعاون العسكري الصيني الإيراني الذي بلغ ذروته في الثمانينيات والتسعينيات، فإنّ البلدين عادا وانخرطا في تبادلات عسكرية دورية وتدريبات مشتركة.
على سبيل المثال، انضمت، في كانون الثاني/يناير، 11 سفينة إيرانية إلى ثلاث سفن روسية وسفينتين صينيتين في سلسلة من التدريبات التكتيكية والمدفعية المشتركة شمالي المحيط الهندي. كذلك، تدعم بكين بنشاط برامج صواريخ كروز والصواريخ الباليستية الإيرانية، وتزودها بالتكنولوجيا التي جرى دمجها في الأنظمة المستخدمة ضد القوات الأميركية في العراق في العام 2020.
بطبيعة الحال، يشكل الاقتصاد والوصول إلى الإنترنت القوى الدافعة وراء الشراكة الصينية الإيرانية الحالية، والذي تظهر أواصره جلية من خلال شراء النفط الإيراني من قبل الشركات الصينية، ما وفَّر لطهران شريان حياة اقتصادي حيوي.
وعلى مر السنين، قامت الصين أيضاً باستثمارات، في توقيت استراتيجي، في الصناعات الإيرانية الحيوية، مثل التعدين والنقل.
بدايةً، وبعد أشهر من إغلاق منشآت التعدين، منتصف العام الماضي، استأنفت أكبر منشأة لتعدين البيتكوين في إيران عملياتها بعد التمويل الهائل الذي قدمه الداعمون الصينيون. وتقع المنشأة في رفسنجان، وهي مدينة في محافظة كرمان جنوب شرقي إيران، وهي واحدة من العديد من مرافق تعدين البيتكوين المدعومة من الصين في إيران، وخصوصاً في المنطقة الاقتصادية الجنوبية الشرقية.
أما بالنسبة إلى النقل، فإنّ أبرز المشاريع النهائية للبنية التحتية للنقل التي يجب ذكرها، والتي تحمل تداعيات جيوسياسية، هي استثمار صيني في ميناء تشابهار في مقاطعة سيستان وبلوشستان جنوب شرقي إيران قرب الحدود الباكستانية.
لفترة طويلة، كان تحديث هذا الميناء من أهداف السياسة الخارجية للهند، ولكن بعد الضغط الأميركي، وتعثر إيران والهند إزاء المفاوضات، بدأ المسؤولون الصينيون الاهتمام بالمشروع.
كذلك، ينطبق الشيء نفسه على مشاريع البنية التحتية والنقل التي تهدف إلى ربط إيران بشبكات الصين الإقليمية في جنوب ووسط آسيا. ويشمل ذلك خط قطار مخطط له بين إيران وإقليم شينجيانغ الصيني. وستعتمد طهران أيضاً على بكين لتحديث بنية اتصالاتها، بما في ذلك طلب المساعدة في تركيب تكنولوجيا مراقبة الذكاء الاصطناعي التي صدرتها الصين إلى أنظمة ودول أخرى.
تهدف هذه التحركات إلى مساعدة بكين على تأمين الوصول غير المقيّد إلى احتياطيات إيران من الغاز الطبيعي والنفط – ثاني ورابع أكبر احتياطي في العالم توالياً- لتلبية الطلب المتزايد على الطاقة في الصين. وتدرك الصين أيضاً قيمة قرب إيران الجغرافي من طرق الشحن التجارية الرئيسية، التي تأمل بكين أن يتم تسخيرها لإحياء مبادرة “الحزام والطريق”.
كان الهدف المعلن للرئيس الصيني شي جين بينغ زيادة التجارة الثنائية إلى 600 مليار دولار بحلول العام 2026. ومع العلم أنّها وصلت بحلول عام 2021 إلى نحو 15 مليار، إلا أنّ الحسابات الصينية بشأن إيران سوف تتغير إذا دخل اتفاق نووي جديد حيز التنفيذ. وبعيداً عن التهديد بالعقوبات، لا شك أنّ الصين ستكثف استثماراتها في إيران وتجارتها معها، ما يعمق ليس فقط نفوذها هناك ولكن في المنطقة أيضاً.
للاتفاق انعكاسات جيوبوليتيكية على وضع ودور الفاعلين الإقليميين والدوليين، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنّ الاتفاق قد يُعدُّ في أحد جوانبه انعكاساً لسياسة الانسحاب الأميركي من المنطقة، إضافة إلى كونه عاملاً مهماً من عوامل تعزيز العلاقات الثنائية الصينية-الإيرانية سياسياً واقتصادياً وتجارياً وأمنياً، فإنّ ذلك يعني تعزيز موقع ودور الصين في الشرق الأوسط، إضافة الى تعزيز سياسة أمن الطاقة الصيني سواء عبر البر أو البحر.
فوق ذلك، سيكون وصول الصين محسوساً بشكل لافت في صناعات ذات أهمية استراتيجية. سابقاً، دفعت العقوبات الأميركية شركة البترول الوطنية الصينية المملوكة للدولة إلى التراجع عن صفقة بمليارات الدولارات لتطوير الغاز الطبيعي في حقل “بارس” جنوبي إيران، وهو أكبر مستودع للغاز في العالم حتى الآن. ومن المحتمل أن تعيد الشركات الصينية النظر في جدوى هذه المبادرة وغيرها من مبادرات الطاقة المربحة. كذلك، ستوسع الصين نطاق انتشارها في جميع قطاعات الصلب والذهب والألمنيوم الإيرانية، بعد أن استثمرت سابقاً في مشاريع معالجة المواد الأخرى التي مكَّنت إيران من إنتاج أساسيات ومدخلات لبرنامجها الصاروخي.
مكاسب مالية هائلة تنتظر إيران، وتشير التقديرات إلى أنّ طهران يمكن أن تحصِّل 275 مليار دولار من الاحتياطيات المجمدة خلال السنة الأولى من الاتفاق، وما لا يقل عن تريليون دولار من عائدات النفط الجديدة بحلول عام 2030.
وفي الوقت نفسه، قد يزداد اعتماد الصين على إيران مع تزايد اعتماد بكين تدريجياً على موردي الطاقة الإيرانيين لتلبية احتياجاتها المحلية التي تكبر شيئاً فشيئاً.
إلا أنّ الاتفاق النووي يحمل نُذراً سلبية لبكين، وفق ما أفاد باحثون صينيون في تقرير مجلة “فورين بوليسي”. ويرى هؤلاء أنّ عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، الذي قد يسببه غياب الاتفاق النووي، يقلل من “قدرة واشنطن على تركيز الاهتمام والضغط على الصين”، ومن دون قدرات أميركية مستدامة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، يمكن للصين أن تكون واثقة بما فيه الكفاية لإجراء مناورات عسكرية أكثر فعالية وأكثر خطورة، من تلك التي خلصت إليها مؤخراً في المياه الإقليمية لتايوان وحولها.
من الواضح أنّ حجم المكاسب الصينية المتأتية من الاتفاق النووي حال المضي قُدماً في تنفيذه، يعد أحد أهم أسباب حرص بكين مستقبلاً على تنفيذه الاتفاق وتأكيد ضرورة التزام جميع الأطراف بما جاء فيه، وهو ما قد يدفع لاعبين آخرين في الاتفاق إلى محاولة تعويض مكاسب الصين، في إطار الصراع، بمكاسب جيوسياسية في مناطق أخرى لمساعدتها على تجاوز السلبيات التي قد يحملها الاتفاق لها.