تحولات أمريكية تضع نتنياهو في مأزق
الوقت- في سابقة سياسية تعكس تحوّلًا كبيرًا في ميزان التوجهات الأمريكية في الشرق الأوسط، كشفت مصادر متعددة أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم تعد تشترط نزع سلاح حركة حماس كخطوة أولية لأي اتفاق سياسي. وبدلًا من ذلك، بات التركيز موجّهًا نحو إبرام هدنة شاملة تشمل وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين. هذا التبدّل يعكس تغيّرًا في رؤية واشنطن لمعادلة الصراع في غزة، واعترافًا ضمنيًا بأن حماس لم تعد مجرد “تنظيم مسلح” بل قوة سياسية يجب التعامل معها ضمن ترتيبات ما بعد الحرب.
في لقاءات جمعت مسؤولين أمريكيين بوسطاء مصريين، تم إبلاغهم أن مطلب نزع السلاح أصبح مؤجلًا لما بعد الاتفاق، وأن هناك استعدادًا أمريكيًا للنظر في حلول واقعية بدلاً من التمسك بشروط مستحيلة التنفيذ. كما أكد مسؤولون أمريكيون أن طرد آلاف المقاتلين الفلسطينيين من غزة أمر غير قابل للتطبيق ميدانيًا، وهو ما يعكس براغماتية جديدة في مقاربة الأزمة. بهذا، يمكن القول إن الولايات المتحدة تتجه نحو التعامل مع حماس كجزء من الحل، وليس فقط جزءًا من المشكلة، في إطار توجه أوسع لتقليل التوترات الإقليمية.
عزلة نتنياهو وضغوط أمريكية غير معتادة
بالتوازي مع هذا التحول، ظهرت إشارات قوية على تدهور في العلاقة بين ترامب ونتنياهو، حيث ذكرت تقارير إسرائيلية أن ترامب قرر قطع الاتصال مؤقتًا مع نتنياهو بعد اتهامات من مقربين له بأن الأخير يحاول التلاعب به سياسيًا. هذا التوتر في العلاقات لم يعد خلف الكواليس، بل بات مادة للتغطية الإعلامية، وهو أمر نادر في العلاقة الخاصة التي طالما جمعت بين واشنطن وتل أبيب. صحيفة “يسرائيل هيوم” أكدت أن ترامب يشعر بخيبة أمل من نتنياهو، ويستعد لاتخاذ خطوات إقليمية دون انتظاره.
الرسائل التي وصلت إلى القيادة الإسرائيلية واضحة استمرار المماطلة في التوصل إلى اتفاق مع حماس قد يؤدي إلى عزل إسرائيل سياسيًا حتى من حلفائها التقليديين. المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، لمّح بوضوح إلى ذلك خلال لقائه بعائلات الجنود الأسرى، محذرًا من أن استمرار الحرب يُعرّض حياتهم للخطر، وأن إسرائيل قد تدفع الثمن الأكبر إذا استمرت في تجاهل الجهود الدبلوماسية.
هذه اللهجة الحادة من واشنطن تُعد غير مسبوقة، وتؤشر إلى تحول في طبيعة العلاقة من دعم مطلق إلى ضغط مباشر ومكشوف على القيادة الإسرائيلية، وعلى رأسها نتنياهو، الذي بدأ يفقد أحد أهم أوراقه السياسية: الدعم الأمريكي غير المشروط.
صفقة الكبرى.. أولويات ترامب تتجاوز إسرائيل
التحول في موقف إدارة ترامب لا يمكن فصله عن سعيه المحموم نحو إتمام “صفقة كبرى” إقليمية تشمل تطبيعًا اقتصاديًا وأمنيًا بين دول الخليج وعلى رأسها السعودية من جهة، وإسرائيل (أو في هذه المرحلة: الأطراف الفاعلة في النزاع الفلسطيني) من جهة أخرى. ويبدو أن الولايات المتحدة تنظر إلى تهدئة غزة كمدخل إلزامي لهذه الصفقة، وهو ما يفسر تراجعها عن الشروط المتشددة السابقة مثل نزع سلاح حماس أو الإطاحة بها سياسيًا.
تصريحات ويتكوف التي نُقلت عن قناة 12 الإسرائيلية كشفت بوضوح أن واشنطن مستعدة لإبرام الصفقة حتى من دون مشاركة فاعلة من إسرائيل، إن لم تُبدِ الأخيرة مرونة سياسية. ما يجري هو رسائل ضغط موجهة مباشرة إلى تل أبيب: إما أن تتحرك ضمن الإطار الأمريكي الجديد، أو تخسر موقعها في هندسة الترتيبات الإقليمية القادمة. ولعلّ اتفاق وقف إطلاق النار الأخير بين السعودية وجماعة أنصار الله اليمنية هو دليل على أن إدارة ترامب مستعدة للتفاوض مع خصوم تقليديين إن كان ذلك يخدم أهدافها الأوسع.
في هذا السياق، فإن قبول حماس كطرف في أي اتفاق ليس اعترافًا بشرعيتها فقط، بل هو جزء من واقعية أمريكية جديدة ترى أن استقرار المنطقة لن يتحقق دون تسويات مع الأطراف الفاعلة ميدانيًا، لا عبر الإقصاء العقيم.
ما القادم؟ تهديد سياسي مباشر لمستقبل نتنياهو
في ظل هذه المستجدات، يجد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نفسه أمام تحدٍ مزدوج ضغوط أمريكية خارجية، واستياء داخلي متصاعد. الضغط الأمريكي، وإن كان سياسيًا ودبلوماسيًا في طابعه، إلا أنه يشكل تهديدًا مباشرًا لمكانته كزعيم يزعم القدرة على إدارة علاقات استراتيجية مع واشنطن. وإذا استمر ترامب في تجاهله وتجاوزه، فإن ذلك قد يفتح الباب أمام خصوم نتنياهو داخل المؤسسة السياسية الإسرائيلية لاستغلال الموقف والإطاحة به.
داخليًا، تتنامى أصوات المطالبة بتسوية تُنهي الحرب وتُعيد الجنود الأسرى، في وقت بدأت فيه العملية العسكرية تفقد الزخم الشعبي. تصريحات ويتكوف لعائلات الأسرى عن مسؤولية الحكومة الإسرائيلية المباشرة في تعريض أبنائهم للخطر صبت مزيدًا من الزيت على النار السياسية في تل أبيب. هذا السياق يهدد بتآكل قاعدة نتنياهو السياسية، وربما يفجر أزمات ائتلافية جديدة.أن ما بدأ كمجرد تحوّل في موقف واشنطن تجاه غزة وحماس، قد يتحول إلى نقطة انعطاف حاسمة في مستقبل نتنياهو السياسي. إذا لم يتجاوب سريعًا مع المتغيرات، فقد يجد نفسه معزولًا ليس فقط من قبل الولايات المتحدة، بل من داخل النظام السياسي الإسرائيلي ذاته.
نتنياهو يتلاعب بالنار… فهل يدفع الثمن؟
من الواضح أن بنيامين نتنياهو يطيل أمد الحرب في غزة ويربطها بمصالحه السياسية والشخصية الضيقة، حيث يسعى إلى استثمار التصعيد العسكري لكسب مزيد من الوقت في مواجهة قضاياه القضائية، وتثبيت تحالفاته الهشة داخل الكنيست. لكن هذا التلاعب لم يعد يمر دون تكلفة، فقد بدأت حالة احتقان داخلي غير مسبوقة تعصف بالمجتمع الإسرائيلي، وسط شعور متزايد بأن الجنود والأمن باتوا ورقة بيد زعيم مأزوم يهرب إلى الأمام.في موازاة ذلك، أصبح الضغط القادم من الجبهة اليمنية عنصرًا مقلقًا حقيقيًا؛ فصواريخ “أنصار الله” تخترق الخطوط الحمراء وتضرب العمق الإسرائيلي، ما يشير إلى أن الحرب لم تعد محصورة في غزة، بل امتدت إلى جبهات متعددة تُنهك قدرات الاحتلال. وبينما كان يُتوقع انهيار المقاومة في غزة خلال أيام، أثبتت حماس صمودًا أسطوريًا أربك المؤسسة الأمنية والسياسية في تل أبيب.هنا يُطرح السؤال الكبير هل يفهم نتنياهو الرسالة؟ أم يواصل الانتحار السياسي على حساب شعبه؟ لأن ما بات واضحًا أن نهاية هذا المسار قد تكون نهاية نتنياهو ذاته، الذي يبدو اليوم أكثر عزلة من أي وقت مضى، داخليًا وخارجيًا.
نتنياهو خارج اللحظة
المنطقة تمرّ بواحدة من أكثر لحظاتها حساسية منذ عقود، إذ تتحرك القوى الكبرى والإقليمية لإعادة صياغة المعادلات الاستراتيجية، بينما يبدو نتنياهو وكأنه لا يسمع قرع التغيير القادم. الشرق الأوسط يتغير من حوله بسرعة السعودية تتحدث بلغة التسويات، أمريكا تنفتح على مقاربات غير تقليدية، والمقاومة الفلسطينية تُثبت حضورها الميداني والسياسي بقوة غير مسبوقة. لكن في المقابل، يصر نتنياهو على البقاء رهينة عقلية الحصار والتدمير، رافضًا قراءة التحولات.
في ظل هذا التبدل، لم يعد يُنظر إلى إسرائيل كرقم ثابت في المعادلة، بل كطرف يجب أن يُنضبط ويتوقف عن توسيع الصراع لخدمة بقاء زعيمٍ يتخبط. المدهش أن نتنياهو، الذي لطالما قدّم نفسه كخبير في “قراءة المنطقة“، فشل هذه المرة في فهم أن اللحظة الإقليمية تجاوزته تمامًا. رياح التغيير التي تهب من غزة إلى صنعاءتُنذر بأن العصر الذي كان فيه نتنياهو يملي الشروط قد انتهى. والسؤال الآن لم يعد هل سينسحب نتنياهو من المشهد؟ بل هل سيُطرد منه قبل أن يُكمل تدمير ما تبقى من الکیان المنهزم.