أكثر من 15 عاما على الحصار الصهيوني الخانق لقطاع غزة دُمرت خلاله أجساد و أرواح الشعب الفلسطيني
الوقت-أفاد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة – عقب انتهاء التصعيد الأخير في قطاع غزة – باستفحال المستويات المرتفعة للصدمات والضغوط والاضطرابات النفسية التي كانت قائمة من قبل، وخاصة في أوساط الأطفال في المناطق المتضررة، والذين كانوا في حاجة أصلا إلى خدمات الصحة العقلية والدعم النفسي والاجتماعي.
جاء تقرير مؤسسة “چیشاه –مسلك”تزامنا مع الذكرى السنوية الخامسة عشرة للحصار السياسي الظالم المفروض على قطاع غزة، أكدت من خلاله أن الاحتلال مثل نقطة حبر في بقعة ماء، يتمدد ويتغلغل في كل الاتجاهات ويمس بكل شيء، وله تبعات مدمّرة غير مرئية. و يعتبر الأطفال الغزيون هم أكثر المتضررين والكثير من الآثار السلبية تبدو غير قابلة للعلاج، و تضاف جرائم الحرب إلى الجريمة المستمرة المتمثلة في الحصار الإسرائيلي الذي يخنق قطاع غزة منذ أكثر من عقد من الزمن، ويحول دون تمكن سكانه من العيش حياة إنسانية يتوافر فيها الحد الأدنى من شروط الحياة الأساسية»
و حسب التقرير الجمعية الحقوقية الاسرائيلية فقد ألقى مختصون ومختصات في مجال الصحة النفسية الضوء على إسقاطات سياسة الكيان الصهيوني على الصحة النفسية للفلسطينيين في غزة، وأشاروا إلى أن البنى التحتية الأساسية في غزة على حافة الانهيار منذ سنين، الكهرباء متوافرة للسكان الذين يشكل الأطفال نصفهم في ساعات قليلة من اليوم فقط، وما يزيد على 90% من الماء غير صالح للشرب، ومعدلات البطالة آخذة في الارتفاع. كما أن ظروف الحياة متدنية بشدة في القطاع، الذي يشكل الإغلاق أمراً مستمراً فيها تُضاف إليها الأضرار التراكمية للهجمات العسكرية المتكررة من جانب الكيان الاسرائلي، والتي تلحق الضرر بالأرواح و الممتلكات والبنى التحتية المدنية.
إضافة إلى ذلك أشارت جمعية “مسلك” الإسرائيلية: “إلى قيام الكيان الصهيوني بفرض تصاريح على الفلسطينيين والفلسطينيات في غزة وخارجها تحرمهم بشكل ممنهج من الحق في حرية التنقل، وتحكم عليهم بالفصل المستمر عن أقاربهم، وعدم اليقين المؤلم فيما يتعلق بتلبية احتياجاتهم الأساسية. حيث تظل الآثار طويلة المدى لسياسات الكيان الصهيوني والإغلاق على الصحة النفسية في غزة مخفية عن الأنظار في الغالب”
فيما ذكر تقرير الجمعية الحقوقية الاسرائيلية أنه خلال جلسة عقدتها “چيشاه- مسلك”، بالاشتراك مع مركز الصحة النفسية في غزة أواخر 2021، عرض مختصون ومختصات من عدة منظمات للصحة النفسية في غزة استنتاجات متعلقة بإسقاطات سياسة الكيان الإسرائيلي في غزة على الصحة النفسية. بحسبهم، يعاني الآلاف من الفلسطينيين في قطاع غزة من اضطرابات ما بعد الصدمة، في كثير من الحالات يأخذ الإحباط المتزايد والتوترات النفسية بين السكان نتيجة لاستمرار السياسات الإسرائيلية والحرب التي لا تنتهي أبدًا شكل الألم والمعاناة الجسدية، وتؤدي إلى اكتئاب شديد وحتى انتحار.
في هذا السياق، فقد أشارت الدراسات إلى أن هذه العوارض تظهر أيضًا بشكل واسع لدى الأطفال في غزة، كثيرون منهم ولدوا وكبُروا تحت الإغلاق، ولا يعرفون سوى واقع الحياة الصعب التي يفرضها عليهم الكيان الصهيوني.
قاصرون مرضى تمنعهم قوات الاحتلال من الخروج
حسب جمعية أطباء لحقوق الانسان الحقوقية الاسرائيليى (غير الحكومية) شهد عام 2021 مضاعفةً لعدد مرّات رفض السّلطات الإسرائيليّة لطّلبات القصّر في الخضوع لعلاج طبّي في مستشفيات القدس الشرقية، الضفّة الغربيّة، والأردن، مقارنة بعام 2020
وأشارت إلى أنها استندت في معلوماتها إلى بيانات حصلت عليها من الجيش الإسرائيلي، في إطار طلبٍ قدّمته الجمعيّة، مستندٍ إلى قانون حريّة المعلومات.وبحسب المعطيات، فقد تمّ سنة 2020 ردّ أو ر فض 17% من الطّلبات القاصرين للخروج من قطاع غزة لغرض تلقّي الرّعاية الطبّيّة غير المتوفرة في القطاع (347 من أصل 2070 طلبًا)
أمّا في سنة 2021فقد قفزت نسبة رفض مثل هذه الطّلبات إلى 32%. وأضافت: “رفضت السّلطات الإسرائيليّة أو ردّت 812 طلبًا من أصل 2578 طلبٍا تمّ تقديمه باسم قاصرين في 2021”.
تُعزى الأسباب الرئيسيّة لارتفاع معدّلات رفض طلبات استصدار تصاريحٍ للقاصرين إلى رفض إسرائيل السّماح لأولياء أمورهم بمرافقتهم أثناء خضوعهم للرّعاية الطبّيّة، وبادعاء وجود مشاكلٍ في الوثائق الطبّيّة المرفقة بالطّلبات“.
وأضافت: “في مثل هذه الحالات، يُطلب من القاصرين المرضى الّذين لا يُسمح لهم بالخروج من القطاع لتلقّي الرّعاية الصحيّة في الموعد الّذي حددته لهم المستشفيات، استبدال مرافقيهم، وهؤلاء في الغالبيّة لا يكونون أقارب من الدّرجة الأولى، كما يُطلب إليهم إعادة تقديم طلبهم للنّظر فيه من قبل السّلطات الإسرائيليّة“.
وفي هذا الصدد يقول الطبيب أورن لاهك، وهو أخصائيٌّ علم النّفس الطبّي، ورئيسٌ مشاركٌ في الجمعيّة الإسرائيليّة للأطبّاء النفسيّين، والمتطوع في جمعيّة أطبّاء لحقوق الإنسان إنّ “الفصل بين القاصر ووالديه في فترة تواجده في المستشفى تحول بين الوالدين وتوفير الإسناد العاطفيّ في أوقات صعبة، وهذا الإسناد ضروريّ لبناء شعور الثقة الّذي جُبل عليه الطّفل، كما أنّها ضروريّة للنموّ البدنيّ، والعاطفيّ، والاجتماعيّ، والمعرفيّ الّذي يتلو العلاج”.
من جهتها قالت غادة مجادلة، مديرة قسم الأراضي المحتلّة في جمعيّة أطبّاء لحقوق الإنسان: “إنّ إسرائيل شريكةٌ في جريمةٍ خطيرةٍ ومتواصلة، وإلحاق الأذى بالمرضى، وخصوصًا القاصرين منهم، وهذا ليس سوى واحدٍ من المظاهر شديدة الخطورة لهذا الحصار“.
و تتطالب الجمعيات الحقوقية بشكل مستمر من إسرائيل أن تتيح لجميع الأطفال الّذين يتمّ تحويلهم للخضوع لعلاجٍ طبّيٍ خارج قطاع غزّة الوصول إلى العلاج في الوقت المحدّد، على أن تضمن مرافقة أحد الوالدين، على الأقلّ، للقاصر، أثناء خضوعه للعلاج الطبي لكن قوات الاحتلال الصهيوني تستمر في انتهاكها لأبسط حقوق الشعب الفلسطيني
نتاج الحصار الخانق
ترتفع نسبة البطالة بين فلسطيني القطاع عما هي عليه في الضفة الغربية، كما أنّ المداخيل هي أقل من مثيلاتها، وترتفع نسبة الاستخدام لدى الفلسطينيين المقيمين عن اللاجئين. تظهر دراسة “شمل” أنّ وضع العمالة في مخيمات غزة هو الأسوأ، كما تبين من خلال المقارنة بين نسبة العاملين إلى غير العاملين في الضفة والقطاع والقدس، أنّ مخيمات غزة سجلت النسبة الأدنى، بينما تسجل مخيمات الضفة النسبة الأعلى.
واستناداً إلى تقرير أصدرته منظمة الصحة العالمية فإنّ ما يقارب 10 في المائة من أطفال غزة ما دون الخامسة يعانون التقزم- قصر القامة. وغالباً ما يكون مثل هذا الوضع نتيجة سوء التغذية لدى الأمهات في مرحلة الحمل، أو تعذر توفير التغذية الملائمة بعدها للأطفال، هذا إذا لم تكن هناك عوامل وراثية وراء ذلك.
إضافة إلى النقص في مجالات الإسكان والمياه الصالحة للشرب والاستعمال وندرة التيار الكهربائي وعدم توافر الصرف الصحي ونقص خدمات الطبابة والاستشفاء والتعليم وغياب الفرص الاقتصادية.
حتى المختصون يقبعون تحت ظروف صعبة لا مخرج منها
و يتضمن التقرير الجديد، الذي نشرته “چيشاه–مسلك”، أهم ما جاء في تشخيص مختصات ومختصين مهنيين في مجال الصحة النفسية في غزة، الذين يصفون التحديات الشخصية والمهنية التي تواجههم كمن يعيشون في غزة ويعانون بأنفسهم من تقييدات الحركة الجارفة والعشوائية وغير القانونية التي تفرضيفرضها الكيان الصهيوني، والتي تفصلهم عن زملائهم خارج القطاع، وتمنعهم من الوصول إلى دورات تأهيل والخروج من القطاع للترفيه عن النفس، وتسجنهم مع من يعالجونهم في دائرة من اليأس الذي يبدو أن لا مخرج منها. وتتابع: “كل هذا خلافًا لالتزامات إسرائيل كقوة محتلة التي تتنصل منها على نحو منهجي، والتي تقضي بضمان كل ما يلزم من أجل أداء حياة سليمة في غزة”.
و حسب ماجاء في تقرير الجمعية الحقوقية فإن المعالجون و المعالجات في قطاع غزة يعملون بلا كلل أو ملل في ظل ظروف مستحيلة، بهدف تقديم الدعم النفسي للفلسطينيين تحت الإغلاق في غزة، لكن الواقع المستمر للاحتلال والقمع والعنف البيروقراطي يحد بشكل كبير من قدرتهم على المساعدة و القيام بعملهم. منبهة إلى أن هذا الوضع ليس قدرًا، بل هو نتاج سياسة ممنهجة يفرضها الاحتلال الاسرائيلي. وتنقل عن أحد المشاركين في المشروع قوله: “يمكن أن تتغير حالة الصحة النفسية في قطاع غزة بشكل جذري إذا اتخذت إسرائيل قرارًا سياسيًا واحدًا- رفع الإغلاق والسماح بحرية الحركة. يمكن أن يكون لمثل هذا القرار تأثير كبير على الصحة النفسية. هذا سيزرع أملاً لدى الناس”.