الفساد المالي والإداري من أعمق المشاكل التي عانى منها العراق خلال العقدين الماضيين، حيث تسبب الفساد في هدر مليارات الدولارات التي كان من المفترض أن تبني العمود الفقري للاقتصاد العراقي.
منذ عام 2003، وبمساعدة رفع العقوبات الدولية ورفع مستوى إنتاج النفط، شهدت ميزانية العراق السنوية مليارات الدولارات من النقد الأجنبي من بيع النفط، وهو ما يمثل أكثر من 94٪ من الميزانية العامة للبلاد. هذه – الميزانيات الدولارية المليارية لم تعكس توقعات المجتمع في تحسين الظروف الاقتصادية والمعيشية لغالبية المجتمع. ويعتبر الخبراء أن أحد الأسباب الرئيسية لهذا الوضع هو انتشار الفساد في الهيكل السياسي والإداري والبيروقراطي للعراق الجديد.
العراق من بين أكثر دول العالم فسادا، وبحسب الترتيب الذي نشرته منظمة الشفافية الدولية عام 2021، فقد احتل العراق المرتبة 157 من بين 180 دولة في العالم من حيث مؤشر “النزاهة الحكومية”.
السلطات العراقية لا تنكر وجود فساد واسع النطاق في هذا البلد. قال رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، في سبتمبر 2014، إن نحو 50 ألف موظف وجندي في وزارة الدفاع العراقية يتقاضون رواتب دون الوجود في وزارة الدفاع. في آب 2015، كشف عادل عبد المهدي، الذي كان وزيرا للنفط في ذلك الوقت، أن ميزانية العراق من 2003 إلى 2015 بلغت 850 مليار دولار، ومن هذا الرقم، أهدر نحو 450 مليار دولار بسبب الفساد.
كشف الرئيس العراقي برهم صالح، في سبتمبر 2021، في مقابلة تلفزيونية، أن عائدات النفط منذ عام 2003 وصلت إلى ألف مليار دولار، مع تقديرات تظهر أن 150 مليار دولار من الأموال المنهوبة من الخزينة خرجت من البلاد. وتحاول الحكومة العراقية الآن إعادة جزء من هذا المبلغ إلى البلاد من خلال تشكيل لجنة دولية لمكافحة الفساد.
وعلى الرغم من إعلان السلطات العراقية عن هذا القرار، يعتقد “عبد الرحمن المشهداني”، أستاذ الاقتصاد في جامعة العراق ببغداد، في حديث مع قناة الجزيرة. لا توجد إحصائيات دقيقة خاصة فيما يتعلق بالفساد المتعلق بتهريب الأموال إلى الخارج، وتصريحات برهم صالح حول تحديد مبلغ الأموال المهربة بـ 150 مليار دولار كاذبة، ومقدار الأموال المهربة بين 350 و600 مليار.
وحسب المشهداني، يتم عرض هذا الرقم من خلال الأخذ بعين الاعتبار المشاريع السورية التي لم يتم تنفيذها بين عامي 2006 و2018، والتي أنفقت خلالها الحكومة ميزانية تلك المشاريع دون مراقبة التنفيذ. ويضيف: خلال هذه السنوات رأينا إنفاق مليارات الدولارات على 6000 مشروع لم يتم تنفيذها، لأن سياسة الحكومة في ذلك الوقت كانت منح أموال المشاريع لحظة توقيع العقود دون اعتماد نظام نسبي، مبني على الدفعات المقدمة للمقاولين بما يتناسب مع تقدم المشروع.
على سبيل المثال، قال جمال كوجر، عضو اللجنة المالية في مجلس النواب، إنه من بين أكثر من 3000 مدرسة خصصت الحكومة العراقية أموالًا لإنشائها في عام 2010، بعد 12 عامًا، تم بناء 300 مدرسة فقط.
تشكيل لجنة البحث في الحكومة السابقة
مع تزايد الطلب الشعبي وانتشار الاستياء الاجتماعي من تنامي الفساد في الهيكل الإداري والسياسي للبلاد، أعلنت الحكومة السابقة برئاسة مصطفى الكاظمي، الذي تولى السلطة بعد احتجاجات عام 2019، أن أحد أهدافه الرئيسية هو متابعة هذه المطالب.
ونتيجة لذلك، تم إطلاق اللجنة العليا للتحقيق في قضايا الفساد الكبرى في ذلك الوقت. مع بدء عمل هذه المؤسسة، انطلقت موجة كشف عن فساد كبير مع أرقام مذهلة في السنوات الماضية واعتقال مسؤولين حكوميين بتهمة الفساد في سبتمبر 2020.
وفي حالة واحدة فقط كشفت رئيسة الهيئة الوطنية للاستثمار، سها النجار قبل أشهر عن مصادرة أكثر من 400 ألف متر مربع من الأراضي الحكومية في إطار مشاريع استثمارية وهمية وغير مكتملة تبلغ قيمتها نحو 62 مليار دولار.
أعلنت هيئة النزاهة الفيدرالية، في تقريرها السنوي لعام 2021، أن أكثر من 11 ألف مسؤول حكومي، من بينهم 54 وزيراً، متورطون في قضايا فساد. وأضافت الهيئة (التابعة لمجلس النواب) إن جميعهم متهمون بقضايا فساد (لم تحدد طبيعتها) وإن الهيئة وجهت لهم أكثر من 15 ألف اتهام.
وخلص التقرير الصادر عن هذه الهيئة إلى أن التحقيقات أدت إلى صدور 632 إدانة منها حُكم واحد بحق الوزير و42 قضية بحق 23 شخصاً من حملة الدرجات الخاصة والمديرين العامين ومراتبهم العليا والتحقيق في هذا الصدد مستمر.
وشملت موجة الاعتقالات شخصيات رفيعة المستوى مثل أحمد الساعدي مدير هيئة التقاعد الأسبق، وشاكر الزاملي رئيس هيئة استثمار بغداد، وعادل خضير مدير عام البنك الزراعي.
فضح سرقة القرن في العراق
لكن على الرغم من إنشاء طبقات حماية ومؤسسات لمكافحة الفساد، أفاد المدققون في العراق مرة أخرى بالعثور على أدلة على مخطط فساد اقتصادي هائل اختلس فيه شبكة من الشركات والمسؤولين حوالي 2.5 مليار دولار من مصلحة الضرائب في البلاد. تشير وسائل الإعلام والبرلمان العراقي إلى هذا الفساد الاقتصادي على أنه اختلاس القرن.
يُظهر تقرير المدققين، الذي حصلت عليه وكالة أسوشيتيد برس وأوردته صحيفة الغارديان لأول مرة، أن السرقة كانت مدبرة من قبل شبكة واسعة من المسؤولين وموظفي الخدمة المدنية ورجال الأعمال.
وظهرت المؤامرة الشهر الماضي عندما كشفت المراجعة الداخلية لوزارة المالية العراقية أن الهيئة العامة للشؤون الضريبية – دائرة الإيرادات الداخلية العراقية – دفعت بشكل احتيالي لخمس شركات 3.7 تريليون دينار عراقي، أي حوالي 2.5 مليار دولار.
تم سداد هذه المدفوعات من خلال 247 شيكًا تم دفعها بين 9 سبتمبر 2021 و11 أغسطس من هذا العام من فرع مصرف الرافدين الحكومي الموجود داخل هيئة الضرائب العراقية.
احتوى الحساب على مليارات الدولارات من ودائع الشركات التي كان من المفترض إعادتها إليها بعد خصم الضرائب وتقديم بيانات مالية محدثة. ويقال إن هذه الشركات الخمس قامت برد مبالغ احتيالية دون إيداع أي مبلغ.
عندما استفسر وزير المالية العراقي عن الرصيد المتبقي في الحساب، قالت مصلحة الضرائب في البلاد إن لديها حوالي 2.5 مليار دولار، لكن المزيد من التفتيش كشف أن الرصيد الفعلي كان 100 مليون دولار، حسبما قال مسؤول.
كانت هذه أول علامة على هذا السرقة الكبيرة، حيث كشفت مراجعة لاحقة قدمت إلى اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي عن الباقي. وحصلت وكالة أسوشيتد برس مؤخرًا على نسخة من ذلك التقرير.
وتعد الفضيحة المالية علامة مرجعية للحكومة العراقية الوليدة، التي تشكلت أخيرًا أواخر الشهر الماضي بعد مأزق سياسي طويل. حيث أعلن رئيس وزراء العراق، محمد شياع السوداني، التزامه بقمع الفساد، وأعلنه كأحد أولويات خطط حكومته.
في مطلع الشهر الجاري (4 تشرين الثاني)، وصف محمد السوداني انتشار الفساد في بلاده بعبارة “وباء الفساد” ليُظهر للناخبين والسياسيين العراقيين أنه جاد في مواصلة مكافحة هذا المرض الاقتصادي، وقال إن عملية استرداد المبالغ المسروقة من أمانات الضرائب مستمرة وتتم متابعتها بشكل يومي.
أعلن المكتب الإعلامي لمحمد السوداني، الأربعاء الماضي (16 نوفمبر)، عن تشكيل “الهيئة العليا لمكافحة الفساد”، رغم أنها تشبه اللجنة التي شكلها رئيس الوزراء الأسبق مصطفى الكاظمي (التي تم حلها من قبل المحكمة الاتحادية بناء على طلب الحكومة الحالية لعدم شرعيتها)، لكن مصطلح “العليا” يشير إلى الصلاحيات الخاصة والاستثنائية لهذه اللجنة مقارنة بالمؤسسات المماثلة الموجودة أو السابقة.
كما أمر السوداني بتشكيل فريق دعم ذي صلاحيات واسعة لتقديم الدعم الكامل للهيئة العليا لمكافحة الفساد في فتح قضايا فساد كبرى. كما عين السوداني القاضي حيدر حنون رئيسا لهيئة النزاهة الاتحادية بدلا من علاء جواد السعدي. وأكد السوداني في 1 تشرين الثاني / نوفمبر خلال زيارة لهيئة النزاهة أنه “لا يوجد خط أحمر ضد قضية فساد تتعلق بحزب أو شخصية سياسية”.
وخلال النصف الأول من العام الجاري، صدرت 731 مذكرة توقيف من الجهات القضائية، منها 396 مذكرة توقيف، من بينهم 8 وزراء ودرجات خاصة، و53 من ذوي المؤهلات التعليمية الخاصة والمديرين العامين. وحسب هيئة النزاهة، فإن “الملفات المودعة تضم 280 وزيرا ومسؤولا برتب خاصة ومديرين عامين والأفراد المساويين لرتبهم”.
مبادرات السوداني بين فك كماشة
يعتقد العديد من الأوساط السياسية والخبراء الاقتصاديين في العراق أن أي جهد سوداني لمواجهة رؤوس الفساد قد يورطه في مواجهة مفتوحة مع بعض الفصائل السياسية وشبكات المافيا ذات السلطة والثروة، ما قد يتسبب في فقدانه الكثير من الدعم البرلماني اللازم لتنفيذ برنامجه الوزاري. من ناحية أخرى، يتعرض السوداني لتهديد الجماعات المتنافسة مثل تيار تشرين والصدريين، الذين ينتظرون رؤية ضعف وتراجع في أداء الحكومة في محاربة الفساد المستشري من أجل إسقاط هذه الحكومة.
أجبرت احتجاجات 2019 رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي على الاستقالة. في غضون ذلك، قد يلجأ التيار الصدري إلى حشد أنصاره في الشوارع للإطاحة بهذه الحكومة التي تشكلت ضد إرادته، بذريعة الفساد والمشاكل الاقتصادية.
لكن خلافًا لهذه الآراء المتشائمة تمامًا بشأن رئيس الوزراء وحده، أعلنت الكتلة البرلمانية الداعمة للسوداني دعمها الكامل لحرية الحكومة في التعامل بحزم ودون استثناء مع المفسدين الاقتصاديين. وفي هذا الصدد قال ثائر مخيف من ائتلاف “حكومة القانون” في بيان صحفي: “رئيس الوزراء بعيد كل البعد عن الضغوط السياسية الجادة في محاربة الفساد ومعاقبة الفاسدين”.
وأوضح مخيف أن “هناك الكثير من الدعم السياسي والبرلماني لرئيس الوزراء لمحاربة الفساد والفاسدين، وخاصة أن برنامج الحكومة يركز على ما يطالب به الشعب العراقي والمرجعيات الدينية منذ سنوات”.
كما أكد سعد المطلبي، أحد قادة ائتلاف حكومة القانون، أن حملة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني لمحاربة الفساد المالي والإداري تشمل كل من توجد ضده أدلة. وأشار المطلبي إلى أن “أي شخص يثبت اتهامه بالفساد لا يحظى بدعم الحزب والكتلة التابعة له”، مشيراً إلى أن “هذه الحملة تشمل كل من لديه أدلة قضايا فسادهم”.
والواقع أن المجموعات السياسية للائتلاف الحاكم، المعروفة باسم تحالف “إدارة الحكومة”، تعتبر فشل الحكومة السوداني بمثابة ضربة لبقاء هذا التحالف والاستقرار السياسي للحكومة الذي تم تحقيقه بعد شهور من الجمود السياسي المُكلف.