الصراط المستقيم
29 يوم مضت
مقالات متنوعة
43 زيارة
وأقول: لو لم يوجد في القرآن ما يدل على فعل العبد ولا آية لكان في صريح العقول عن ذلك كفاية، ويجب تأويل مخالفها لأن الله تعالى أنزل القرآن حجة لنبيه، ولو انتفى فعل العبد أو حتمه الرب لكان محجوجا به، بأن يقول الكافر:
(كتابك شاهد لي بعدم قدرتي فاللوم لازم لك ومنتف عني) ونحن نورد طرفا من الآيات التي تمسك الخصم بها ونشير إلى شئ من تأويلها.
منها (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك (١)) قالوا: المراد بالحسنة الخصب، وبالسيئة الجدب ولهذا قال (أصابك) ولو أراد الفعل قال (أصبت) لأنك تصيب الحسنة، أما الخصب والجدب فإنه يصيبك لا تصيبه.
قلنا: سلمنا أن المراد الخصب والجدب ولكن لا يضرنا وقد قال مقاتل : ما أصابك من المكروه فمن نفسك لأنك وليت وجنيت. وعلى قولنا: فما أصابك من سيئة فمنك لأنك السبب فيها. وقد قال الله (٢) (ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) ولو كان الكل منه تعالى لم يصح أن يقول (من نفسك) ولبطلت القسمة المذكورة. وقد ذكر أبو العالية وأبو القاسم وهما من أئمة المفسرين أن المراد بالحسنة الطاعة وقعت بتوفيق الله وترغيبه وبالسيئة المعصية وقعت بخذلانه للعبد على وجه العقوبة له.
قولهم: لو أراد الطاعة والمعصية لقال: ﴿أصبت).
قلنا: ما أصابك قد أصبته، قال السخاوي في شرح الشاطبية في تفسير:
فتلقى آدم من ربه كلمات﴾ (3) ما تلقيته فقد تلقاك، ومن الأفعال ما يستوى فيه الإضافة فتقول: نالني كذا ونلت كذا، قال شاعر:
إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخطا * أصبت جميلا أو أصابك جاهل
١ – النساء: ٧٨.
٢ – الشورى: ٣٠.
٣ – البقرة: ٣٧.
(٢٤)
ومنه (لا ينال عهدي الظالمين). ﴿وبلغني الكبر﴾ (١).
قالوا: قال في الآية الأخرى: ﴿قل كل من عند الله﴾ (٢) فقد فسر تلك بهذه.
قلنا: معارضة بقوله: ﴿ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله﴾ (٣) مع أن تأويل مخالف العقل أولى من العكس على أنه لا بد من العدول عن الظاهر لدفع التناقض عن الآيتين إذ في إحداهما (من الله ومن نفسك) وفي الأخرى (الكل من الله) فكأنه قال: الكل من الله والبعض ليس من الله!
قالوا: إذا حملنا الآيتين على أن الكل من عند الله لم يتناقضا.
قلنا: لا يجوز الحمل اقتراحا ولم يفسر البعض بالكل لا مجازا، ولا ضرورة تلجئ إليه عن الحقيقة ويزول التناقض بما ذكر من تغاير الموضوع. قال ابن المرتضى، من شيوخهم: لما نزل النبي صلى الله عليه وآله المدينة قال اليهود والمنافقون:
ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا مذيوم قدم هذا الرجل علينا، فنزل: إن تصبهم حسنة – يعني رخصا – يقولوا هذه من عند الله لنا وإن تصبهم سيئة – يعني غلاء – يقولوا هذه بشؤم محمد فينا، وإنما أتى الله بها عقيبها لئلا يظن ضعيف العقل اتحاد معناهما، وقد قال الله تعالى: ﴿إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها﴾ (4) فقد سمى الرخاء والشدة حسنة وسيئة.
قالوا: الكلام من أوله إلى آخره خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وجواز السيئة عليه ينافي العصمة فيه.
قلنا: قال ابن المرتضى: الخطاب له والمراد غيره، وقال ابن العباس:
نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة.
١ – البقرة: ١٢٤. آل عمران: ٤٠.
٢ – آل عمران: ٧٧.
٣ – آل عمران: ٧٨.
٤ – آل عمران: ١٢٠.
(٢٥)
ومن آيات العدل ﴿ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يأمر بالفحشاء، الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، إن علينا للهدى، إنا هديناه السبيل، ومكروا ومكر الله، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل﴾ (١) ولفظ (على) يدل على الاستحقاق وبالجملة فلا يكاد أكثر القرآن المجيد يخلو من ذكر اختيار العبد، فالمخالف تمسك بما نهى الله عنه فقال: ﴿فأما الذين في قلوبهم مرض فيتبعون ما تشابه منه﴾ (٢) ثم نقول لهم: ما تريدون أنتم من الكفار؟ فإن قالوا الكفر كفاهم ذلك النكر. وإن قالوا: الإيمان، قلنا: أيما أفضل ما أردتم من الإيمان أو ما أراد الله من الكفران؟ فإن قالوا: ما أراد الله، لزم كون الكفر خيرا من الإيمان. وإن قالوا ما أردنا لزم كونهم أولى بالخير من ربنا. ثم نقول: أيجب على العباد اتباع مراد الله أو مرادكم؟ فإن قالوا مراد الله، لزمهم وجوب الكفر على العباد، وإن قالوا مرادنا دون مراد الله كفاهم بذلك خزيا وقبحا.
وسنورد لك بعض ما تمسكوا به لتقف منه على بطلانه منه قوله تعالى: (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه) (٣).
قلنا: أمر واجب لا أنه ألزم، وإلا لانتفت قدرته حيث لم يقع ما ألزمه.
ومنه ﴿إلا امرأته قدرناها من الغابرين﴾ (4).
قلنا: كتبناها لا ألزمناها.
ومنه (وقدر فيها أقواتها، وقدرنا فيها السير) (5).
قلنا: علمها وعلم ما عليها من ثواب وعقاب.
١ – الزمر: ٧. الأعراف: ٢٧. البقرة: ٢٦٨. الليل: ١٢.
الدهر: ٣. آل عمران: ٥٤. البقرة: ١٥٠.
٢ – التوبة: ١٢٦.
٣ – أسرى: ٣٣.
٤ – النمل: ٥٧.
5 – حم السجدة: 10. سبأ: 18.
(٢٦)
ومنه ﴿كتب في قلوبهم الإيمان﴾ (١) قلنا: علامة يعرفون بها.
ومنه (ومن يضلل الله فما له من هاد) ونظائرها. (٢) قلنا: الضلال يكون في الدنيا بمنع الألطاف جزاء على الكفران ويكون في الآخرة بالأخذ عن طريق الجنة والاهتداء يقابلهما، وقد يضاف الضلال إليه لوقوعه عند تكليفه كما أضيف الرجس إلى السورة والنفور إلى الرسول (٣) وقد يقال (أضل الله الانسان) إذا وجده ضالا، يقال أجدبت المنزل وأقفرت الدار، إذا وجدتهما كذلك. قال عمرو بن معدي كرب: (قاتلنا بني سليم فما أجبناهم، وسألناهم فما أبخلناهم، وهاجيناهم فما أفحمناهم) (٤) وقد نسب الله إضلال الدين إلى غيره:
﴿فأضلهم السامري، وأضل فرعون قومه، ويريد الشيطان أن يضلهم﴾ (٥) وأضاف إلى نفسه ضلال المستحق: (ويضل الله الظالمين، وما يضل به إلا الفاسقين) (٦) ولو جاز منه الاضلال عن الدين لم يخص به الظالمين.
ومنه ﴿ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله﴾ (7) فنهى عن الشئ وهو يعم الطاعة والمعصية إلا مع التعليق بمشيئته، ولو كان لا يريد المعصية لكان من قال (لأعصينك غدا إن شاء الله) كاذبا حانثا، إذا لم يفعل، لأن الله قد شاء ذلك فلم يؤثر الاستثناء في المشيئة، ولما لم يكن حانثا بالاجماع كان الله مريدا للعصيان.
قلنا: قال المرتضى رحمه الله: الاستثناء يكون للايقاف كالداخل في العقود وللتسهيل مثل (لأقضينك غدا إن شاء الله) أي إن لطف، وهذا ليس على حقيقة الاستثناء فلا حجة لهم فيه كما ذكروه.
١ – المجادلة: ٢٢.
٢ – الرعد: ٣٥.
٣ – في قوله: (فزادتهم (السورة) رجسا إلى رجسهم) وقوله: (فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا) ٤ – أي ما وجدناهم جبناء، بخلاء مفحمين.
٥ – طه: ٨٥. طه: ٧٩. النساء: ٥٩.
٦ – إبراهيم: ٢٧. البقرة: ٢٦.
٧ – الكهف: ٢٤.
(٢٧)
ومنه ﴿فألهمها فجورها وتقواها﴾ (١).
قلنا: أي بينه ومنه (وما تشاؤن إلا أن يشاء الله) (٢).
قلنا: لم نشأ شيئا إلا وقد شاءه لأنه الآمر به، إذ لولا مشيئة الله لتخلف بها مشيئتنا فلم نشأ شاء بعدم مشيئتنا إن قيل مشيئتنا من فعلنا عندكم؟.
قلت من خلقه تعالى.
فإن قلت: كيف يكون من خلقه؟.
قلنا: المراد خلقنا أحياء نقدر على المشيئة وذلك سبب مشيئتنا.
ومنه (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها، ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم (٣).
قلنا: على سبيل الاجبار لأن بعضهم سأل الرسول أن يقهر المجاورين لهم على الإيمان ليتقوا ربهم، فنزلت الآية وفي آخرها (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين).
ومنه ﴿وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله﴾ (٤).
قلنا: المراد بعلمه.
ومنه ﴿إن الذين كفروا زينا لهم أعمالهم﴾ (٥).
قلنا: زين لهم أعمالهم الحسنة بالترغيب فيه فأبوا عنها فخلا بينهم وبين قبيحها، أو منعهم ألطافه فيها.
ومنه ﴿ولو شاء الله ما أشركوا﴾ (6).
١ – الشمس: ٨.
٢ – الدهر: ٣٠.
٣ – ألم السجدة: ١٣. يونس: ٩٩.
٤ – يونس: ١٠٠.
٥ – النمل: ٤.
٦ – الأنعام: ١٠٧.
(٢٨)
2025-02-16