بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمداً دائماً أبداً، والصلاة على نبينا المصطفى وعلى آله الأكرمين الذين من تمسك بهم نجا ومن تخلّف عنهم غرق وهوى واللعنة على أعدائهم ومحاربيهم إلى قيام يوم الدين.
هذا هو الاصدار الثالث من السلسلة الفصلية للدورس الثقافية، وقد جمع بين دفتيه مواضيع إسلامية شتّى يرتبط بعضها بالأخلاق والآداب، وبعضها الآخر بالعقائد وبعضها الثالث بالفقه وقد جمع الكل ورود الروايات المتحدثة عنها مصدّرة بقولهم عليهم السلام (ليس منّا) وهي بأجمعها تحمل عناوين يحتاج إليها الإنسان المؤمن في طريقه نحو الكمال، وتروي عطش الكثيرين من الاخوة الذين طالما أحبوا الحديث عنها وتفصيلها بلغة بسيطة بعيدة عن التعقيد وصعوبة البيان.
وقد تضمّن كل درس منها في نهايته تلخيصاً للفكرة وإثارة تساؤلات حول المضمون وإعطاء شواهد قرآنية وحديثية للحفظ، ثم اتبع ببعض الأحكام الفقهية، وقصة من وحي الدرس. كما كان في الإصدارين السابقين.
فالله نسأل التأييد والتسديد وعليه نتوكل والأمل أن تزوّدونا بملاحظاتكم البنّاءة في سبيل عمل أكمل وغد أفضل ونحن لكم من الشاكرين.
والحمد لله رب العالمين
مركز المعارف للدراساتوالبحوث الاسلامية
الدرس الأول: آفة الغضب
عن الصادق عليه السلام:”ليس منّا من لم يملك نفسه عند غضبه… يا شيعة آل محمد صلى الله عليه وآله اتقوا الله ما استطعتم ولا حول ولا قوة إلا بالله”1.
أ- في ظلال الحديث
في هذا الحديث الصادقي المبارك ندا موجَّه إلى أتباع أهل البيت عليهم السلام المتمسكين بخطهم وولايتهم يدعوهم ويحثهم إلى ملك النفس عند الغضب، والقدرة على السيطرة عليها وعدم الانصياع إلى القوة الغضبية والضياع في أوديتها الوعرة المهلكة التي لا توصل الإنسان إلى خير أبداً، بل تطفىء نور عقله وتحول بينه وبين اصلاح نفسه، طالما بقيت نارها مشتعلة ولم يكن قادراً على إخمادها يقول أمير المؤمنين عليه السلام: “احترسوا من سورة الغضب وأعدوا له ما تجاهدونه به من الكظم والحلم”2.
وعنه عليه السلام: “إنكم إن أطعتم سورة الغضب أوردتكم نهاية العطب”3.
ومما ذكره الإمام الخميني قدس سره في بحثه الأخلاقي موضحاً خطورة مطاوعة الغضب في إفراطه قوله: “إن الافراط في الغضب المبتلى به أكثر الناس، والذي عبر عنه في الحديث الشريف بالسفه يعتبر من ذمائم الأوصاف ورذائل الأخلاق التي توقع الإنسان في التهلكة، وربما تكون سبباً لشقائه في الدنيا والآخرة… ربما تنزع الاختيار من يد الإنسان، فيشرع في الطغيان وتوقعه في هتك النواميس المحترمة.. إن هذه القوة تفوق سائر القوى خطراً، لأنها قد تؤدي بسرعة البرق إلى تفكك الأسرة وقد تخرج الإنسان في دقيقة واحدة من الوجود كله ومن سعادة الدنيا والآخرة”4.
صفحة 7
لذلك تجد التأكيد في الدعوة من المعصومين عليهم السلام على ملك النفس عند الغضب كما سيأتي في الفقرة التالية.
ب- أفضل الملك ملك الغضب
جاء في كتاب أمير المؤمنين عليه السلام للأشتر لما ولاّه على مصر: “املك حميّة أنفك، وسورة حدّك، وسطوة يدك، وغرب لسانك، واحترس من كل ذلك بكف البادرة، وتأخير السطوة، حتى يسكن غضبك، فتملك الاختيار، ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربّك”5.
ومن الواضح أن العقلانية لا تجتمع مع طغيان الغضب، فكلما كانت أوداج الإنسان تتفجر غيظاً ووجهه يمتلىء احمراراً وعيناه ترغبان في القفز من وجهه، ودقات قلبه تتصاعد في السرعة، ودمه يغلي في عروقه، ولسانه قد جفّ وشفتاه ترتجفان، وصوته يدوّي كصاعقة اللعنة النازلة على قوم كفروا بربهم، لا يمكن لنا أن نقول أن لعقله وجوداً في هذه الحالة التي لا يُحسد عليها، بل يكون العقل مغيّباً في نزهة عن ذلك الهيكل المشؤوم، ويوصف هذا الإنسان بأنه لا يملك الاختيار كما تقدم في كتاب الأمير عليه السلام للأشتر.
وفي الحديث: “من لم يملك غضبه لم يملك عقله”6.
وفي مقابله جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام: “أعظم الناس سلطاناً على نفسه من قمع غضبه وآفات شهوته”7.
ج- أسباب الغضب
إن علاج الأمراض الأخلاقية يعتمد على إزالة أسبابها ولذلك من الأهمية بمكان أن نتعرف على أسباب الغضب في الغالب وهي كما ذكروا جملة أمور منها ما روي عن عيسى بن مريم عليه السلام لما سئل عن بدء الغضب: “الكبر والتجبّر ومحقرة الناس”8.
صفحة 8
ومما عدّدوه في كتب الأخلاق: الزهو والعجب والمزاح والهزل والهزء والتعيير، والمماراة والمضادة والغدر وشدّة الحرص على فضول المال والجاه وهي بأجمعها أخلاق مذمومة ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب فلا بد من إزالتها بأضدادها9.
بينما يرى الإمام الخميني قدس سره أن هذه الأسباب بأجمعها ومع كثرتها إذا ذكرناها من أولها إلى آخرها تعود إلى سببين أساسيين:
1– حب الذات:
ويتفرع عنه حب المال والجاه والنفوذ والتسلط، فمن كانت فيه هذه الأنواع من الحب، اهتم بهذه الأمور كثيراً، وكان لها في قلبه مكان رفيع. فإذا واجه بعض الصعوبات في واحدة منها، أو أحس أن هناك من ينافسه فيها، تنتابه حال من الغضب والهيجان دون سبب ظاهر، فلا يعود يملك نفسه، ويستولي عليه الطمع ويمسك بزمامه مع سائر الرذائل الناجمة عن حب الذات، وحاد بأعماله عن جادة الشريعة والعقل.
وأما إذا لم يكن شديد التعلق والاهتمام بهذه الأمور، فإن هدوء النفس والطمأنينة الحاصلة من ترك حب الجاه والمقام وتفرعاتها تمنع النفس من أن تخطو خطوات تخالف العدالة والرويّة.
إن الإنسان البسيط وغير المتكلف يتحمل المنغصات ولا تتقطع حبال صبره، فلا يستولي عليه الغضب المفرط في غير وقته. أما إذا اقتلع جذور حب الدنيا من قلبه اقتلاعاً، فإن جميع المفاسد تهجر قلبه وتحل محلها الفضائل الأخلاقية السامية.
2– الجهل والاشتباه في فهم الكمال:
فقد يظن الإنسان بسبب جهله وقلة معرفته أن الغضب وما يصدر عنه من سائر الأعمال القبيحة والرذائل السافلة كمالاً، فيحسب الغضب من الفضائل، ويراه بعض الجهّال فتوّة وشجاعة وجرأة فيتباهى ويطري على نفسه في أنه فعل كذا وكذا، ويحسب
صفحة 9
هذه الصفة الرذيلة المهلكة شجاعة! هذه الشجاعة التي تكون من أعظم صفات المؤمنين، وأشرف الصفات الحسنة.
فإذا تعلم الإنسان وعرف أن الغضب ليس شجاعة، عرف أنه نقص وليس كمالاً، وينبغي التخلص من هذا العيب والابتعاد عنه، لا التباهي به.
د- دواء الغضب
1– الصمت:
عن أمير المؤمنين عليه السلام: “داووا الغضب بالصمت والشهوة بالعقل”10.
2– الجلوس أو القيام:
والمراد بذلك أن يغيّر وضعيته المقارنة للغضب إلى وضعية أخرى فإن كان قائماً جلس وإن كان جالساً قام وغير ذلك، ولو استطاع أن يغادر المكان الذي هيئت فيه أسباب الغضب فليخرج ويشغل نفسه بأمور مختلفة ومتفرقة ويرى الإمام الخميني قدس سره أن الخروج من مجلس الغضب هو الوظيفة الأولى فإن لم يمكنه كانت وظيفته البديلة تغيير الوضعية11.
جاء عن الباقر عليه السلام: “أيما رجل غضب وهو قائم فليجلس، فإنه سيذهب عنه رجز الشيطان، وإن كان جالساً فليقم…”12.
3– التفكّر:
عن النبي صلى الله عليه وآله: “… فإذا غضبت فاقعد وتفكّر في قدرة الربّ على العباد وحلمه عنهم، وإذا قيل لك: اتقِ الله فانبذ غضبك وراجع حلمك”13.
4– الوضوء:
في الحديث: “إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ”14.
صفحة 10
5– مسّ الرحم:
في الحديث: “وأيّما رجل غضب على ذي رحم فليدن منه فليمسّه فإن الرحم إذا مسّت سكنت”15.
6– قطع مادة الغضب:
يقول الإمام الخميني قدس سره: “والعلاج الأساسي لهذه القوة يكون بقطع مادتها وهي حبّ الدنيا، فلو طهّر الإنسان نفسه من هذا الحب، لتساهل في الأمور الدنيوية، واحتفظ بطمأنينة النفس رغم فقدان الجاه والمال والمنصب والرئاسة وحصلت فيه حقيقة الحلم والصبر وطمأنينة النفس وزاد فيه استقرار النفس وثباتها، ولقطع هذه المادة التي هي أصل جميع المفاسد، وأحسن علاج لقطع هذه المادة هو التفكر في أحوال الماضين وفي القصص القرآنية والاعتبار بأحوال الأشخاص الذين تمتعوا بأنواع السلطنة والعظمة والمال والمنال، فاستفادوا منها لأيام محدودة وأخذوا معهم إلى القبر حسرة لا ينتهي أمدها، وشملهم وزر ما تمتعوا به ووباله، فهذا أحسن علاج للإنسان اليقظ16.