إنه من سليمان وإنّه
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة المجمع
يمتاز الاسلام كأطروحة نظرية وكحركة رسالية لبناء إنسان الصلاح والعدل وأُمة
الخير الرائدة أنه صنع رجالاً لا مثيل لهم في التاريخ علماً وايماناً وسلوكاً
ومواقف ، من خلال تربيتهم وإعدادهم في مدرسة أهل بيت النبوة
والعصمة ( عليهم السلام ) .
وهؤلاء الرجال هم العظماء ليس في المنظور الآني لحياتهم فقط ، بل على
امتداد التاريخ الانساني ، بما كان لهم من دور كبير في تصحيح المسار والوقوف
بوجه الانحراف الذي كان يقوده الطواغيت السلطويون وأتباعهم من المنغمسين في
أوحال الذلّ والعبودية للطغيان . ومن عرفان الجميل لهؤلاء الاشخاص الذين بذلوا
الغالي وكل ما يملكون أن تخصص الدراسات والبحوث لبيان حياتهم الجهادية
والأدوار التي عاشوها ، وإيضاح الجوانب الرسالية الغامضة في مسيرتهم . كما أنه
من المفيد أن يطّلع الجميع على واقع أمثال هذه الشخصيات الفريدة لأنهم القدوة
الحسنى والمثل الطيب الذي ينبغي الاقتداء به ، والاعتبار بسيرته ومواقفه
الاسلامية .
ويقف في القمة منهم رجال الولاء والتشيّع لأهل بيت النبوة
والعصمة ( عليهم السلام ) ، أُولئك الذين أعطوا للانسانية على امتداد تاريخها
دروساً لا تنسى في العزيمة والثبات والجهاد والتضحية ، وكانوا كالشموع التي
تحترق لتضيء الدرب للسالكين ، بل كانوا نجوماً يهتدى بها في الظلمات ، ويستدل
بها على معالم الطريق .
وعلى العكس مما ينبغي ، فبدل أن يكرّم هؤلاء ، وبدل أن
يوضعوا في الأماكن التي يحق لهم أن يتبوؤها ، وقف ولاة الجور في وجوههم ،
وطاردوهم ، وحاربوهم ، وانتقموا منهم شر انتقام ، سجناً ، وتعذيباً ، وقتلاً
وصلباً ، وإلى غيرها من الوسائل البشعة التي يمارسها الطغاة ضد الثائرين
والرافضين لوجودهم ( وما نقموا منهم إلاّ أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ) . وكان
الظلم الذي تعرضوا له هو الجزاء الذي نالوه نتيجة اخلاصهم لربهم ولامتهم
ولرسالتهم الخالدة .
كما أنهم ظلموا من قبل اخوانهم اتباع أهل البيت ( عليهم
السلام ) ، حيث التقصير بحقهم ، لعدم الاهتمام الكافي بإبراز أدوارهم الرسالية
ومواقفهم الرائدة ، فظلّت تلك الأدوار والمواقف في منسيات التاريخ وفي طيّ
الاهمال . رغم ثراء تاريخنا الاسلامي بأمثال هذه المواقف الرائدة .
وسلسلة شهدا الولاء التي يتولى المجمع العالمي لأهل البيت ( عليهم السلام )
إصدارها بادرة طيبة في طريق إجلاء هذا التاريخ الناصع ، وهذه الأدوار
الرسالية الخالدة .
والكتاب الأول الذي يبتدئ فيه سلسلته هذه هو شهيد الولاء حجر بن عدي الكندي . هذا الطود الذي كان ذروة في الإيمان والصلابة في الحق ضد الباطل ، وكيف لا يكون كذلك ؟ وهو التلميذ الصالح لسيد المعلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الذي غذاه من علمه ، ورواه من إيمانه ، وأغدق عليه من إخلاصه وثباته وشجاعته دروسا سطرها التاريخ منائر من نور .
وقد كان ليراع المحقق السيد هاشم محمد وابداعه في هذه الترجمة الهادفة دورٌ
أساسي لاظهار السلسلة بالمستوى الرفيع الذي يجعل منها دروساً للأجيال
المتعاقبة والطلائع الرسالية في كل زمان ومكان .
المعاونية الثقافية للمجمع العالمي لأهل البيت ( ع )
المقدمة
الحمد للّه رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين .
هذه دراسة حول حجر بن عدي الكندي ، أحد اعلام الولاء لأهل البيت عليهم السّلام وأبطالهم
وشهدائهم . حاولت فيها استقصاء ما ذكر حوله في مختلف المصادر ، القديمة والحديثة
، بما يسلط الضوء على سيرة حياته متكاملة من ولادته حتى استشهاده في مرج
عذراء ، بأيدي أعداء أهل البيت ، أعداء النور والهدى ، لان في دراسة أمثال هؤلاء
الأفذاذ قدوة وعبرة لغيرهم ، من أجل مواصلة الطريق الذي سلكوه في سبيل الدفاع عن
الولاء ، الذي يمثل الاسلام الأصيل ، وطريق الكمال والسعادة والفلاح في الدنيا
والآخرة ، والحفاظ على تلك المبادى والمكتسبات مهما كانت التضحيات .
وقد كتبت هذه الدراسة عام 1388 هجرية ، ولكني خلال هذه المدة الطويلة أضفت
إليها ما أمكن اضافته ، مما ظفرت به في مختلف المصادر ، مما يتعلق بها .
و قد أقدمت على نشرها لعلها تقدم خدمة متواضعة في مجال نشر مبادى أهل البيت وتاريخهم
وتراثهم ، ولعلها تنفع صحيفة كاتبها ( يوم لا ينفع مال
ولا بنون * إلا من أتى اللّه بقلب سليم ) ، وبشفاعة أهل بيته الطاهرين ، فتقبلوا يا سادتي وأئمتي هذا الجهد الضئيل
، متوسلا بكم إلى اللّه ان يتفضل على عبده الضعيف بالاستقامة على ولائكم
ومبادئكم التي تمثل الاسلام الأصيل ، والصراط المستقيم ، والسعادة في الدنيا
والآخرة ، وبالشفاعة في يوم الجزاء ، إنه نعم المولى ونعم النصير .
هاشم محمد
اسمه
( حجر بضم أوله وسكون الجيم ، ابن عدي بن معاوية بن جبلة بن ربيعة بن
معاوية الأكرمين الكندي ، المعروف بحجر بن الأدبر ، حجر الخير ) ( 1 ) .
وابن سعد يسقط معاوية الأول في نسب حجر ، فيقول : ( حجر بن عدي بن جبلة . . ) ( 2 )
على خلاف بقية المؤرخين . وقد بحثت عن مسألة النسب ، والاختلاف فيه في رسالتي عن
أبي الأسود الدؤلي ، واضع النحو العربي ، فليراجع .
وقال السيد الداماد : ( حجر بضم الحاء وسكون الجيم ثم راء ، وعدي بفتح العين
وكسر الدال ثم ياء مشددة ، والكندي نسبة إلى كندة ، بكسر الكاف و سكون النون وفتح
الدال ، هي قبيلة عربية كبيرة ، تنتسب إلى ثور بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن
أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان . قيل : سمي كندة لأنه كند أباه ، أي
كفر نعمته ) ( 3 ) .
( ويعرف بحجر الخير ، وابن عمه حجر الشر ، حجر بن يزيد ملعون من
اتباع معاوية يوم صفين كما في كتاب صفين ) ( 4 ) .
وكذلك يعرف بحجر بن الأدبر لان أباه عديا طعن موليا فسمي الأدبر ( 5 ) .
ولادته وشهادته
يكتنف بعض الغموض في التاريخ حياة حجر ، و نشير إلى بعض نقاطه التي
منها ولادته . فلم يذكر المؤرخون عام ولادته . وقد نتمكن من تخمين ذلك من خلال
تتبع حياته والاستفادة من سنة وفاته .
ففي الطبقات : ( وكان حجر بن عدي جاهليا اسلاميا ) ( 6 ) . وفي المستدرك روى عن
مصعب الزبيري : أن حجرا ( كان قد وفد إلى النبي ( ص » ( 7 ) . وروى عن إبراهيم بن
يعقوب : ( قد أدرك حجر بن عدي الجاهلية واكل الدم فيها ، ثم صحب رسول اللّه ( ص )
وسمع منه ) ( 8 ) . فهو إذن قد عاصر الجاهلية ، يؤيده ما ذهب إليه أكثر
المؤرخين ، بل إنهم ذكروا أنه مارس بعض مظاهرها ( كأكل الدم ) ، وهذه الممارسة لا
تحصل الا في فترة الرشد . وهناك بعض الروايات يؤكد صغر سنه بالنسبة لبقية
الصحابة : « وكان حجر من فضلاء الصحابة وصغر سنه عن كبارهم » ( 9 ) ، ولكن ما هو
مقياس الصغر عند المؤرخين وما هي مدة صحبته للرسول ( ص ) ؟ يقول السبيتي : « . .
ومن هنا يتبين ان صحبته لم تتجاوز السنتين ، وكذلك ليس من السهل تحديد عمره عندما
أسلم ويلوح لنا أيضا أنه لم ينته من العقد الثالث » ( 10 ) . ويظهر من كلامه أن
عمر حجر ناهز الثلاثين حين وفاة النبي ( ص ) ، ولعل ما يدعم ذلك أنه قتل وهو شيخ .
وجميع هذه الآراء لا تستند إلى وثائق تاريخية مسلمة ، بل هي افتراضات وإن أصابت
جانبا من الواقع بحسب تلك الوثائق .
أما سنة شهادته فيذهب أكثر المؤرخين أنه قتل في مرج عذراء مع جماعة من
الموالين لأمير المؤمنين ( ع ) بأمر معاوية سنة ( 51 ه ) ، وهذا ما ذكر في تاريخ الطبري
، والكامل وغيرهما من كتب التاريخ ، والتراجم والسير . ولكن البعض منها ، أمثال
المسعودي في مروج الذهب ، خالف بقية المؤرخين .
يقول المسعودي : ( وفي سنة ثلاث وخمسين قتل معاوية حجر بن عدي الكندي )
( 11 ) ويذكر أيضاً في آخر حديثه عن حكاية مقتله ( وقيل : ان قتلهم كان في سنة
خمسين ) ( 12 ) .
والظاهر أنه يرجح سنة ( 53 ه ) لقوله في معرض ذكره لسنة خمسين : ( قيل ) ، وهو
دليل على تضعيفه ، فهو لا يتطرق إلى ما عليه الأكثر أنه قتل عام ( 51 ه ) ، وقد ذكر
بعض المؤرخين ما ذكره المسعودي ، ولكن بتعبير التضعيف ( قيل ) ، والأصح ان وفاته سنة
( 51 ه ) .
ولقتله حكاية سوف نتحدث عنها بصورة موسعة .
أولاده
في الإصابة : ( وكان لحجر بن عدي ولدان عبد اللّه و عبد الرحمن قتلا مع
المختار ، لما غلب عليه مصعب ) ( 13 ) أو ( قتلهما مصعب بن الزبير صبرا ) ( 14 ) .
وذكر المرزباني أن له ولدا قتل معه في مرج عذراء في موقف بطولي ذكرناه في موضعه ،
وإن ذكر السيد الأمين أن المرزباني قد انفرد بهذا القول ولكن السيد الأمين نفسه
ينقل بعد ذلك عن الشهيد الأول أنه قتل ابنه معه في مرج عذراء ، وأن هذا الابن اسمه
( همام ) ( 15 ) . وذكره أيضا صاحب الدرجات الرفيعة ( 16 ) .
ونقل الحاكم في المستدرك حديثا عن مخشي بن حجر بن عدي عن أبيه . ويظهر منه ان لحجر
ابنا آخر اسمه مخشي غير المذكورين ( 17 ) ، وقد ذكرنا الحديث في موضع آخر .
ويظهر من مروج الذهب انه كانت لحجر ابنة ، أنشدت شعرا ترثي أباها فيه ، سيأتي
ذكرها لاحقا .