الرئيسية / القرآن الكريم / نفحات من القران

نفحات من القران

عندما يعترف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع علمه الواسع حيث يقول الله تعالى فيه (وعلمك ما لم تكن تعلم) ـ النساء 113 ـ بأني لا أعلم من الغيب (وهو الأمر الخارج عن الحس) إلاّ ما علمني الله فكيف حال بقيّة البشر؟!
* * *
والآية الثامنة بعد أن بينت أحكام إرث الاولاد والأب والأم في حالات مختلفة ذكرت: حتى انفسكم لا تعلمون أيّاً من الأب والأم أو الاولاد أنفع لكم؟ وأيهم أحق بأموالكم كي يخصص له سهم أكثر.
نعم، لستم على بينة بمصالحكم الشخصية، لهذا السبب لا تستطيعون أن تسنّوا قوانين دقيقة تليق بمقام الارث وغيره. إن المَقِنّن يجب أن يكون الهاً محيطاً بِكل اسرار وجود. نعم، إن قصور علم البشر بدرجة لا يستطيع أن يسن قوانين
[100]
تحافظ على مصالحه، ولهذا نرى أن القوانين البشرية في حالة تغيير دائمي، فاذا كان الانسان يجهل مصيره الى هذا الحد، فكيف به اتجاه الموجودات الاخرى التي في الكون؟
وأخيراً، فان تاسع وآخر آية في البحث تحدثت عن العلم الالهي اللامتناهي، وصوّرت اللانهاية في الاذهان بحيث يستطيع حتى الذي لم ينل من العلم إلاّ القليل بل وحتى الأُمي أن يرسم في ذهنه صورة عنها. بالرغم من صعوبة تصور اللانهاية حتى للعلماء، حيث قالت: لو أن ما في الارض من شجر يصير قلماً رغم أن الاشجار قد يصل عددها الى مليارات (بل قد يُصنع الملايين
من الاقلام من شجرة واحدة: وبالرغم من أنّ حوضاً صغيراً قد يملأ الملايين من الدواة فكيف بالمحيطات والبحار، واضافة الى هذا كله، لو اجتمعت الملائكة وكُتاب الانس والجن على أن يكتبوا بهذه الاقلام وهذا الحبر كلمات الله وعلمه ما استطاعوا وسوف تنصرم الاقلام وينتهي الحبر وما زالت كلمات الله جل جلاله وعلومه في بداية الدفتر، هذا من جهة.
ومن جهة اخرى فأنّنا نعلم أن المراد من كلمات الله هو الكائنات الموجودة في العالم، وعلى هذا فالآية دليل واضح على سعة العالم وقصور علم البشر.
* * *
نتيجة البحث:
إن ما يستخلص من الآيات السابقة هو أن معرفة الانسان وعلومه رغم سعتها بحد ذاتها ورغم ازديادها كل يوم بل كل ساعة ولحظة، ورغم امتلاء الدنيا بالمدارس والجامعات والمكتبات ومراكز التحقيق، رغم هذا كله فان معلومات الانسان بالقياس الى مجهولاته كالقطرة بالنسبة للبحر.
إذا لم يكن الانسان عارفاً بخيره وشره ونفعه وضره ولا بِكُنْهِ روحه التي هي أقرب إليه من أي شيء آخر، ولا بالحوادث المقبلة عليه، ولا بساعة موته،
[101]
فكيف يمكنه أن يعرف ما يدور في الكواكب البعيدة في العالم اللا متناهي.
ومما لا شك فيه ان جهل الانسان بهذه الامور لا لعجزه بل لسععة الكون، وقد يكون انكار البعض لنظرية امكان المعرفة نشأ من خلطهم بين هذه المسألة ومسألة قصور العلم البشري واقترانه بالاخطاء.
إن القرآن كما يدعوا الى العلم والمعرفة ويؤكد على أن باب العلم مفتوح للجميع، يصرح بقصور العلم البشري، هذا النقص والقصور اللذان يدعوانه الى الاعتراف بعظمة الكون وخالقه وبحاجته الى الرسل واصحاب الوحي.
ونختم هذا الحديث بجملة قالها الامام الحسين(عليه السلام) في دعائه المعروف يوم عرفة، حيث يقول هناك:
«إلهي أنا الفقير في غناي، فكيف لا أكون فقيراً في فقري، الهي أنا الجاهل في علمي، فكيف لا أكون جهولا في جهلي».
* * *
3 ـ الفلاسفة والعلماء يشهدون بقصور العلم البشري:
إنّ كون علم البشر محدوداً أمرٌ مسلم به ولا حاجة الى الدليل، إلاّ انه بالالتفات الى النقاط التالية يتّضح لنا الامر أكثر:
1 ـ إن قدرة حواس الانسان محدودة، فالعين رغم أنها أهم وسيلة للمعرفة في الامور الحسية فهي لا تستطيع رؤية شيء من بعيد، إضافة الى أن عدد الألوان التي يشاهدها الانسان محدودٌ جداً لأن الالوان ما فوق البنفسجية وما تحت الحمراء بالرغم من كثرتها فلا قدرة للعين على رؤيتها.
كذلك بالنسبة للاذن فانها لا تسمع كل شيء بل تسمع أمواجاً صوتية محدودة، وبمجرد ارتفاع أو هبوط درجة ارتعاش الأمواج فسوف لا نسمع شيئاً، وكذا الحال في بقية الحواس.
[102]
إننا بالعين المجردة نستطيع رؤية عدة آلاف من النجوم في السماء الدنيا فقط، بينما هناك المليارات من النجوم.
صحيح أن الوسائل العلمية ضاعَفَت من قدرة الحواس، إلاّ انها هي بدورها محدودة القدرة أيضاً.
2 ـ إن قدرة ادراكنا وأفكارنا محدودة وما وراءها فهو مجهول عندنا على الاطلاق، وهذا الأمر يصدق حتى بالنسبة الى اكثر الناس علماً وذكاءً فان قدرة فكره وإدراكه تكون محدودة ايضاً.
3 ـ من جهة ثالثة فان العالم واسع بدرجة لا يمكننا استيعابه، ونستطيع أن نقول: إن علمنا كلما ازداد، ازداد عظمة العالم في افكارنا.
ولأِدراك عظمة هذا العالم (الى المستوى الذي يصل إليه فكرنا) يكفي ان نعرف أن المنظومة الشمسية والنجوم التي نشاهدها حولنا جزء من المجرّة التي تسمى بدرب التبّانة (المجرّات أو مدن النجوم مجموعة ضخمة من النجوم التي تشكل عالماً خاصاً لنفسها).
وفي هذا المجرة ـ على ما يقوله العلماء ـ يوجد أكثر من مائة مليارد نجمة! والشمس بالرغم من عظمتها ونورانيتها تعتبر فيها من النجوم المتوسطة الحجم.
ونفس هؤلاء العلماء يقرّون ـ وبالاستعانة بالتلسكوب والحسابات الكمبيوترية ـ أن هناك مليارد مجرة في هذا العالم تقريباً(1)!
إنّ ذكر هذه الأرقام سهل على اللسان لكن ما أصعب تصوره؟! وينبغي أن لا ننسى أن معلوماتنا عن هذه المجرات والنجوم الهائلة تدور حول محور الأرض فكيف بنا اذا تجاوزناها؟!
4 ـ ومن جهة رابعة فان عالمنا هذا له بداية ونهاية فلا يعلم أحد عن المليارد
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – جاء في كتاب (هل وكيف ولماذا) أن الفكليين يعتقدون بوجود عدد كبير من المجرات قرب مجرتنا وبعضها اكبر وبعض أصغر حجماً وقد كشفت التلسكوبات القوية والحاسوبات العادة للنجوم عن وجود مليارد مجرة تقريباً في هذا العالم.
[103]
سنة الماضية ولا عن المستقبل شيئاً، فهو كالسلسلة بدايتها الأزل وتمتد الى عمق الأبد، وما نعرفه هو حلقة واحدة من هذه السلسلة وهي الحلقة التي نعيش فيها،
وما ماضيه أو مستقبله إلاّ كشبح مطبوع في أذهاننا.
صحيح أن الانسان ـ وبدعوة من فطرته ـ في سعي مستمر لتحصيل علم أكمل وأشمل عن نفسه وعن العالم، وأنه قد جمع خلال آلاف السنين الماضية معلومات كثيرة ادخرها في خزائن المكتبات الكبيرة والصغيرة.
وصحيح أن بعض المكتبات كبيرة إلى مستوى بحيث يصل مجموع طول اقفاص الكتب فيها الى مائة كيلومتر (كما هو الحال بالنسبة لمكتبة المتحف الانكليزي)! وقد يصل عدد الكتب في بعضها إلى ستةُ ملايين كتاباً (كما هو الحال بالنسبة لمكتبة باريس).
بل قد يصل العدد الى خمسة وعشرين مليوناً (كما هو الحال بالنسبة للمكتبة الامريكية المعروفة)، وقد يصل فهارس الكتب فيها الى جعل مكتبة كبيرة لها، وقد يصل الأمر بالبعض أن تُستعمل وسائل النقل فيها للتنقل بواسطتها من مكان الى آخر!
لكن بالرغم من كل هذه المعلومات عن العالم وأسراره، فان مجموعها لا يشكل إلاّ كقطرة من محيط كبير للغاية.
* * *
ولا بأس أن نشير هنا الى شهادات بعض العلماء في هذا المجال كي يعرف ان ما ذهبنا إليه معترف به عند الجميع.
1 ـ يقول «كريس موريس» الطبيب والعالم النفساني في كتابه «سر خلق الانسان»:
«عندما نفكر بالفضاء اللامتناهي، أو الزمان السرمدي، أو الطاقة العجيبة المودعة في الذرة، أو بالعوالم غير المحدودة والتي تسبح فيها كواكب كثيرة، أو
[104]
بقدرة تشعشع بعض الكواكب، او بقوة جاذبية الأرض، او بالقوانين الاخرى التي يرتبط قوام العالم بها، عندما نفكر بهذه ندرك مدى ضعفنا ونقصان علمنا»(1).
2 ـ ويذكر الدكتور «الكسيس كارل» في كتابه «الانسان ذلك المجهول»: «إنَّ المساعي التي بذلت في العلوم التي تدرس الانسان لم تصل الى نتيجة مطلوبة، ومعرفتنا لأنفسنا ما زالت ناقصة الى حد كبير»(2).
ولهذا السبب جعل «الانسان ذلك المجهول» عنواناً لكتابه القيّم، فاذا كانت معرفة الانسان عن نفسه محدودة الى هذه الدرجة، فواضح ما حال معرفته عن الأكوان والعوالم الاخرى.
3 ـ ويقول العالم المعروف «وليام جيمس»:
«علمنا قطرة، وجهلنا بحر عظيم».
4 ـ ويقول الفكلي المعروف «فلا ماريون»:
«أستطيعُ أن أهييء أسئلة ولمدة عشر سنوات عن مجهولات «لا تستطيعون الاجابة عليها»(3)!
5 ـ ويضيف في كلام آخر له:
«نحن نفكر لكن ما هو فكرنا؟ ونمشي، لكن ما هو عملنا العضلي هذا؟ لا أحد يعلم بذلك.
أرى أنّ ارادتي قدرة غير مادية، لكنني عندما أريد أن أرفع يدي أرى أنّ الارادة غير المادية تحرك يدي والتى هي عضو مادي، كيف يحصل هذا؟ وما هي الواسطة التي تحول الطاقة غير المادية الى مادية؟ لا يوجد من يجيب على
هذا السؤال»(4).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – «سر خلق الانسان» الصفحة 87 (بالفارسية).
2 – «الانسان ذلك المجهول» الصفحة 5.
3 – «على اطلال المذهب المادي» الصفحة 138.
4 – المصدر السابق.
[105]
إذا كانت معلوماتنا تجاه أوضح وأبسط الامور اليومية هكذا، فما هو الحال بالنسبة للقضايا المعقدة أو البعيدة عن متناول أيدينا زماناً ومكاناً.
6 ـ يقول (انشتاين» الرياضي المعروف والمكتشف لنظرية النسبية والبُعد الرابع، في أحد كتبه:
«لقد علّمنا كتاب الطبيعة الذي نقرأه الكثير من الأمور وقد عَرِفْنَا أُسس لغة الطبيعة … لكن رغم قرائتنا للمجلدات وفهمنا لها فانا مازلنا بعيدون عن كشف أسرار الطبيعة»(1).
وينبغي هنا اضافة هذه الجملة على الشهادات السابقة:
من العجيب حقّاً أن كل اكتشاف جديد يحصل في هذا العالم يزيد من مجهولات الانسان، وبعبارة اُخرى إن اكتشافات العلماء في مختلف المجالات كاكتشاف مكتبة جديدة، أو اكتشاف كنز قيم في نقاط مختلفة من الارض.
وبديهي فاننا إذا اطلعنا على وجود مكتبة في احدى المدن، أو كنز قيم في خربة فقد أزلنا النقاب عن مجهول واحد، لكن الآلاف من المجاهيل تكشف عن نفسها آنذاك، مثل عدد الكتب ومحتواها وكُتّابها وشخصياتهم وقضايا اخرى من هذا القبيل، كذا الحال بالنسبة للكنز فاذا اطلعنا على وجوده تبلورت مجاهيل عنه في أذهاننا مثل نوعيته ومحتواه …
لا نذهب بعيداً، فان عالم الكائنات المجهرية (المكروبات والبكتريا والفايروسات) كان في يوم ما مجهولا كلياً، وعندما خطا (باستور) الخطوة الاولى عند كشفه لبعض من هذه الكائنات انجلى امامه عالم كبير من
المجهولات.
إن اكتشاف الكواكب «اورانوس» و «نبتون» و «پلوتون» في المنظومة الشمسية وكذا كشف المجرات الجديدة كلها من قبيل كشف (باستور) لعالم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – خلاصة الفلسفة النسبية.
[106]
الكائنات المجهرية. ومن هنا يجب الاذعان والاعتراف بأن العلوم البشرية كنور الشمعة وان حقائق هذا العالم العظيم كنور الشمس بل أعظم!
ومن هنا ينبغي القول: (سُبْحانَكَ اللّهُمّ لا عِلْمَ لَنا الا ما عَلَّمتَنا).
ونختم هذا الحديث بكلام عظيم لمتكلم عظيم ألا وهو الامام أمير المؤمنين(عليه السلام)، حيث يقول في خطبة الاشباح:
«واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السُّدَدِ المضروبة دون الغيوب، الاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح الله ـ تعالى ـ إعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسمّى تركهم التعمّق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخاً، فاقتصر على ذلك ولا تُقدّر عظمة الله سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين»!(1).
* * *
تذكير:
إنّ الالتفات الى كون علم البشر محدود لهُ آثار ونتائج ايجابية بنّاءة، نعدها هنا:
1 ـ عدم الاغترار العلمي: نعلم أن البشر قد واجه مصائب كثيرة من جراء غروره العلمي، ومثاله ما ظهر في حدود القرن الثامن عشر الميلادي في اروبا فعندما حصلت طفرة في العلوم الطبيعة آنذاك، تصور بعض العلماء أن جميع
ألغاز الكون قد حلت وأن أسرار قد كُشفت، ولهذا أنكروا كل شيء يكمن وراء معلوماتهم، بل سخروا من جميع الامور التي لا تدخل في اطار معلوماتهم، وقد وصل انكارهم الى حد حيث قال بعضهم: لا نؤمن بوجود الروح مالم نشاهدها تحت سكاكين الجراحة في غرفة العمليات، أو بما أن الله لا يدرك بالحس فلا
وجود له!
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – نهج البلاغة، الخطبه 91.
[107]
إن هذا النوع من الغرور خلق مشاكل كثيرة. ولأمر الوحيد الذي يمكنه ان يحطم هذا الغرور العلمي هو الالتفات الى ضآلة العلوم البشرية بالقياس الى المجهولات، طبقاً للأدلة التي ذكرت سابقاً.
إن الالتفات الى هذه الحقيقة هو الذي جعل العلماء المتعمقين أن يعترفوا بما قاله أحدهم: «إن علمي وصل الى مستوىً حيث أعلم أني لا أعلم» و «معلوماتي صفر والمجهولات بالقياس لها غير متناهية».
2 ـ الحركة العلمية الأسرع: إن الالتفات الى هذه الحقيقة يسوق الانسان نحو السعي الاكثر والجهاد المرير لحل ألغاز عالم الوجود، خاصة وأنّه يرى أن أبواب العلم مفتوحة أمامه، ولا ييأس من الحصول على علوم اكثر.
وَمن الواضح أن الانسان لا يسعى وراء الكمال مالم يشعر بالنقص، ولا يسعى وراء الدواء مالم يحس بالألم، ولهذا يقال: إن الاحساس بالألم احدى نِعَم الله العظيمة، وان أسوء الأمراض هي تلك التي لا تتزامن مع الألم لانه لا يطّلع عليه إلاّ بعد أن انقض عليه المرض وأهلكه.
إن الالتفات الى ظئالة العلم البشري يخلق عند الانسان ردّ فعل ايجابيّ يدفعه نحو التحقيق والتفحص أكثر فأكثر، وقد يكون هذا الأمر هو أحد أهداف القرآن الكريم عند تأكيده على نقصان العلم البشري.
3 ـ الالتفات الى مبدأ أسمى: من الآثار الايجابية التي يتركها الاحساس بالنقص العلمي على كل فرد هو أن الانسان شاء أم أبى يجد نفسه بحاجة الى مبدأ أعظم تكون عنده جميع أسرار العالم مكشوفة، وألغازه محلولة، إن هذه القضية تهيء الأرضية لقبول دعوة الانبياء، وتفتح امامه سبلا للعلم وراء سبله البشرية.
على أي حال، إن الالتفات إلى كون علم البشر محدوداً مع غض النظر عن كونه حقيقة، له آثار تربوية وايجابية جمة.
* * *
[108]
[109]
مصادر وسُبُل المعرفة
(مصادر المعرفة الستة)
الحس والتـــــجربة
العقل والتـحليل المنطقي
التاريخ المدون وغير المدون
الفــــطرة والوجــــدان
الوحــي والخطاب الإلهي
الكشـــف والشهــــود
[110]
[111]
2 ـ مصادر وسُبُل المعرفة
(مصادر المعرفة الستة)
الحس والتـــــجربة
العقل والتـحليل المنطقي
التاريخ المدون وغير المدون
الفــــطرة والوجــــدان
الوحــي والخطاب الإلهي
الكشـــف والشهــــود
[112]
تمهيد:
بعد ما ثبت لنا امكان المعرفة والوصول إليها اجمالا، جاء الدور للبحث عن سبلها وبتعبير آخر عن مصادرها ومنابعها التي تمكننا منها، لأننا بالاستعانة بهذه السُبُل يمكننا تبديل «الواقعيات» الى «حقائق»، وذلك كلا من هذه السُبلُ معلم وهاد يرفع الحجاب عن أسرار العالم ومجهولاته.
وقبل كلّ شيء ينبغي معرفة رأي القرآن في المسألة، لان محور دراستنا هذه هو التفسير الموضوعي والتحقيق في تعليمات القرآن.
وقد وصلنا بالتحقيق والتتبع الدقيق في الآيات المختلفة والمتناثرة في القرآن الكريم إلى هذه النتيجة وهي انّ طرق المعرفة ومصادرها في القرآن الكريم تتلخص في ستة أمور:
1 ـ الحس والتجربة (الطبيعة)
2 ـ العقل والتحليل المنطقي
3 ـ التاريخ المدون وغير المدون
4 ـ الفطرة والوجدان
5 ـ الوحي والخطاب الإلهي
6 ـ الكشف والشهود
[113]
المصدر الأوّل
الحس والتجربة
[114]
[115]
1 ـ الحس والتجربة
لنستمع خاشعين في البداية الى الآيات التالية:
1 ـ (اَفَلَمْ يَنْظُرُوا اِلى السَماءِ فَوقَهُم كَيْفَ بَنينَاها وَزَيَّنّاها وَمَا لَها مِنْ
فُرُوج)
(ق / 6)
2 ـ (اَوَ لَمْ يَنْظُروا في مَلَكُوتِ السَّمواتِ وَالاَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيء)
(الاعراف / 185)
3 ـ (اَفَلا يَنْظُرونَ اِلى الاِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَاِلى السماءِ كَيْفَ رُفِعتْ * وَاِلى الاَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)
(الغاشية / 17 ـ 20)
4 ـ (فَانْظُر اِلى آثارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْييِ الاَرْضَ بَعْدَ مُوتِها)
(الروم / 50)
5 ـ (فَلْيَنْظُرِ الاِْنسانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ ماء دافق)
(الطارق / 5 ـ 6.
6 ـ (فَلْيَنْظُرِ الاِْنسانُ اِلى طَعامِهِ * اَنّا صَبَبْنَا الماء صبّا * ثُمّ شَقَقنا الارضَ شَقاً * فَاَنْبتنا فيها حبّاً * وَعِنَباً وَقضباً)
[116]
(عبس / 24 ـ 28)
7 ـ (اَوَ لَمْ يَروا اِلى الاَرْضِ كَمْ اَنْبتنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوج كِريم)
(الشعراء / 7)
8 ـ (اَوَ لَمْ يَرَوا اَنّا نَسُوقُ الماء اِلى الاَرْضِ الجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تأكُلُ منه اَنعامُهُم وَاَنْفُسُهمْ اَفلا يُبْصِرُونَ)
(الم السجدة / 27)
9 ـ (سَنُرِيهم آياتِنا في الآفاقِ وَفي اِنْفُسِهِم حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُم اَنَّهُ
الحقُّ)
(فصلت / 53)
10 ـ (اَوَ لَمْ يَرَوا اِلى الطَيرِ فَوْقَهُم صافات وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ اِلاّ الرحمنُ اِنَّه بِكل شيء بَصيرٌ)
(الملك / 19)
11 ـ (وَفي الاَرْضِ آياتٌ للمُوقِنينَ * وَفي اَنْفُسكُمْ اَفَلا تُبْصِرُونَ)
(الذاريات / 20 ـ 21)
12 ـ (وَالله اَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ اُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُؤنَ شيئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَمْعَ وَالاَبصارَ والافتدة لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ)
(النحل / 78)
* * *
إنَّ الآيات الواردة في هذا المجال كثيرة جداً، وما ذكر هنا نماذج واضحة في مجالات مختلفة(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يمكن الرجوع الى الآيات التالية: (الاعراف / 185)، (ويوسف / 109)، (الروم / 9)، (غافر / 6)، والنحل / 79)، (والشعراء / 7)، (الاحقاف / 33)، (الملك / 19)، (يس / 77)، (الانعام / 6)، (النحل / 78)، (المؤمنون / 78)، (ق / 37)، (الاحقاف / 26)، (هود / 24)، (غافر / 21)، (محمد / 10).
[117]
* * *
شرح المفردات:
إنَّ كلمة «ملكوت» ـ على ما يقوله الراغب في مفرداته ـ مصدر «مَلَك» وقد اضيفت لها التاء، وتستعمل في الاشارة الى (ملك الله) فقط دون غيره، بينما جاء في «مجمع البحرين» و«لسان العرب» أن الملكوت يعني «العزة والسلطنة». ويقول البعض: إنها اشتقت من «مُلك» على وزن «حُكْم» وتعني «الحكومة والملكية»، واضيفت لها التاء والواو للمبالغة.
وكلمة «قضب» على وزن (جَذْب) ـ وكما جاء في لسان العرب ـ في الأصل تعني «قطع» بحيث قال بعض المفسرين: إنها تعني الخضروات التي تُحصد في فصول مختلفة(1).
وكلمة «حُرُز» تعني الارض الفاقدة للنباتات، أو الارض التي لا ينبت فيها نبات، و«جَرَزَ» على وزن (مَرَض) وتعني القَطع ونقل صاحب «لسان العرب»
عن بعض أئمة اللغة أن الارض الجرز تطلق على الارض التي قلع نباتها او انقطع عنها المطر.
وأما كلمة «افئدة» جمع «فؤاد» وتعني القلب ـ كما يقول الراغب ـ إلاّ أن الفؤاد يطلق على القلب الذي له حالة إنارة وإضاءة، وهذا أمرٌ ملفت للنظر حيث يعد الله القلب المنَّور والمنير من مواهبه، وجدير بالذكر أن صاحب «لسان العرب»
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – «الميزان» الجزء 2 الصفحة 316، و«مجمع البحرين» الجزء 10 الصفحة 440. نُقِلَ عن ابن عباس أن المراد من «القضب» في الآية هو «الرُطَب» الذي يقتطف من النخيل لكن بالنظر الى الآية الاخرى التي اشارت الى نفس الكلمة فان هذا التفسير بعيد. وقال البعض: يحتمل ان يكون المراد منها هو فواكه الشجيرات مثل الخيار والرقي، او جذور بعض المزروعات مثل الجزر والبطاطس.
[118]
ذكر أن اصلها جاء من «فأد» على وزن (وَعْد ويعني المشوي، وعلى هذا تكون كلمة «فؤاد» إشارة الى العقول التي تتحلى بالأفكار الناضجة!
* * *
جمع الآيات وتفسيرها:
في الآية الاولى يدعو الله الانسان الى الالتفات الى السموات والارض وجمالهما وكيفية بنيانهما والنظام الذي تحكم بهما وإحكامهما واتقانهما وخلوهما من العيب.
وفي الآية الثانية يدعو الله الناس الى مشاهدة نظام السموات والأرض والكائنات، وذلك لإيقاظ القلوب للسير في طريق التوحيد ومعرفة الخالق.
والآية الثالثة تلقي نظرة من السماء إلى الارض حيث تلفت نظر الانسان الى شيئين: أحدهما خلق الإبل مع كل عجائبه (بالخصوص لاناس يعيشون في محل نزول القرآن).
والآخر تسطيح الأرض بحيث تصلح الحياة عليها، ويعتبر القرآن المشاهدة في جميع هذه المراحل منبعاً مهماً للمعرفة.
وفي الآية الرابعة والتي يخاطب الله فيها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يلفت نظره الى مسألة نزول الغيث وإحياء الأرض بعد موتها ويقول له: «فانظر الى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها».
وفي الآية الخامسة يشير الله الى مبدأ خلق الانسان وأنه يجب ان ينظر من أي شيء خُلِقَ؟ قد خلق من ذلك الماء الدافق، ويذكر المشاهدة هنا هو كوسيلة للمعرفة كذلك.
وفي الآية السادسة يأمر الله الانسان بأن ينظر الى طعامه كيف نبت ونضج بواسطة نزول المطر وشق الأرض وخروج النبتة ونضوج الحبوب والفواكه
[119]
والخضروات، فاذا نظرنا إليها يمكن ان نستنبط كتاباً بحيث إذا دققت في كل ورقة منه لوجدتها كتاباً وسفراً يحكي لك عن معرفة الله.
* * *
والآيات الست السابقة تدعو الى «النظر» بينما الآيات الخمس التي بعدها تدعو الى «الرؤية» بالرغم من أن كلا منهما يستعملان بمعنى واحد، إلاّ أنه ـ كما يستفاد من قواميس اللغة المعروفة ـ يطلق «النظر» على حركة العين والتطفل والدقة في مشاهدة شيء، بينما تطلق «الرؤية» على نفس المشاهدة(1)، بالطبع ان كلا المفردتين تستعملان بمعنى المشاهدة الحسية تارة وبمعنى المشاهدة الذهنية والفكرية تارة اخرى، إلاّ أنه ينبغي الالتفات الى أن المعنى الاولي لهما هو المشاهدة الحسية.
وعلى أي حال، فان الآية السابعة تدعو المشركين لمشاهدة مختلف النباتات التي تنبت أزواجاً أزواجاً في أرجاء المعمورة.
والآية الثامنة تدعو المشركين كذلك الى رؤية مياه البحار وحركتها في اطار الغيوم وهطولها منها على الأرض اليابسة وخروج الزرع الذي يستفيدون منه هم وأنعامهم.
وقد أشارت الآية التاسعة الى جميع آيات «الآفاق» و«الأنفس»، أي في هذا العالم العظيم وفي العالم الصغير وهو وجود الانسان، وقالت: نحن نريكم آيات الآفاق والأنفس كي يتبين لكم الحق ويتضح.
والآية العاشرة دعت الى مشاهدة الطيور وكيفية طيرانها في السماء، فتارة صافّات اجنحتها وتارة اخرى قابضات اجنحتها، وهذا الأمر هو الذي يجعلها تطير في السماء خلافاً لجاذبية الأرض، كما أن طيرانها بسرعة تارة بصف
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يراجع مفردات الراغب ولسان العرب مادة «نظر».

 

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...