الرئيسية / القرآن الكريم / نفحات من القران

نفحات من القران

2 ـ كيف تُرفع الحجب؟
إضافة إلى الاحاديث السابقة، فان هناك تعابيرات في الروايات تدل على ان الانسان كلما ازداد ايمانه ويقينه زالت عنه الحُجُب والنفسيات والصفات الذميمة (التي اصطنعها الانسان نفسه بذنوبه) عن قلبه وتكشفت له حقائق أكثر عن الكون الى درجة تمكنه من النظر الى ملكوت السموات والارض كما نظر ابراهيم الخليل.
إن قلب الانسان وروحه كالمرآة التي قد لا تعكس حقيقة بسبب المعاصي وسوء الأخلاق، لكنها عندما تطهر بماء التوبة، ويزول غبار المعاصي عنها، ويعقل القلب جيداً، فان الحقائق ستسطع فيها ويكون صاحبها أمين اسرار الله، ويسمع نداءاته التي لا يسمعها إلاّ من اؤتمن.
ويمكن عدّ الأحاديث التالية شواهداً على ما قلناه!
1 ـ يقول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في ضمن حديث له: «لولا أن الشياطين يحومون الى قلوب بني آم لنظروا الى الملكوت»(3).
2 ـ وقد جاء في خبر آخر عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً: « ليس العلم بكثرة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – أمالي الصدوق الصفحة 93 مجلس 30.
2 – مدينة المعاجز الصفحة 224.
3 – البحار الجزء 70 الصفحة 59، باب القلب وصلاحه الحديث 39.
[246]
التعلّم، وانّما العلم نور يقدفه الله في قلب من يحب، فينفتح له، ويشاهد الغَيب، وينشرح صدره فيتحمل البلاء، قيل: يا رسول الله هل لذلك من علامة؟ قال: التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله»(1).
3 ـ وقد وصف نهج البلاغة حُجَجَ الله على الناس في الارض هكذا:
«هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة وباشروا روح اليقين، واستدانوا ما استعوره المُترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواها مُعلَّقة بالمحلِّ الأعلى، اولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه»(2).
4 ـ وقد جاء في حديث « ذعلب اليماني » الخطيب النبه الذي كان من
صحابة الامام علي(عليه السلام): سأل الامام يوماً هذا السؤال: «هل رأيت ربَّك يا أمير المؤمنين»؟
أجاب الامام: «افأعبد ما لا أرى»؟!
فقال: «وكيف تراه»؟
فقال الامام : « لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الايمان»
ثم أضاف: «قريبٌ من الأشياء غير ملابس، بعيد منها غير مباين»(3).
ليس مراد الامام من ادراك الله إدراك بالاستدلال العقلي، وهذا واضح، لأن هذا الأمر حاصل لجميع الموحدين وحتى لتلك العجوز صاحبة الغزل المعروفة، فانها تستدل على وجود الله بحركة آلة الغزل التي تحتاج الى محرك، فكيف بالفلك العظيم والسموات والارضين.
فالمراد ـ إذن ـ إدراك لله يفوق الادراك الطبيعي، أي الشهود الباطني، فانه يرى
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير الصراط المستقيم الجزء 1 الصفحة 267.
2 – نهج البلاغة، الكلمات القصار: 147.
3 – نهج البلاغة، الخطبة: 179.
[247]
الله به واضحاً بدرجة وكأنه يراه بعينه. (دققوا).
5 ـ وقد جاء في حديث معروف للامام امير المؤمنين(عليه السلام):
«لو كشف لي الغطاء ما ازددتُ يقيناً».
أي اني أرى جميع الحقائق من وراء ستار الغيب أراها بالشهود الباطني، وبصيرتي تشق حاجز العيب وتنفذ فيه.
6 ـ قال الامام علي بن الحسين(عليه السلام):
«ألا إن للعبد أربع أعيُن: عينان يُبصر بهما دينه ودنياه، وعينان يُبْصر بهما أمر آخرته، فاذا أراد الله بعبد خيراً فتح له العينين اللتين في قلبه، فأبصر بهما الغيب وأمر آخرته»(1).
وقد جاءت روايات عن الشيعة الصادقين يشبه مضمونها مضمون هذا الحديث(2).
7 ـ ونقرأ في حديث الامام الصادق(عليه السلام): ان الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) رأى يوماً الصحابي «حارثة» فسأله عن حاله.
فاجابه حارثة: «يا رسول الله مؤمن حقّاً»!
فقال رسول(صلى الله عليه وآله): «لكلِّ شيء حقيقةٌ فما حقيقة قولك؟»
فأجابه حارثة: «يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأضمأت هواجري وكأني انظر الى عرش ربي وقد وضع للحساب وكأني انظر الى اهل الجنة يتزاورون في الجنة وكأني اسمع عواء اهل النار في النار».
فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «عبدٌ نوّر الله قلبه أبْصَرْتَ فاثبت».
فقال حارثة: «يا رسول الله ادعُ الله لي أن يرزُقني الشهادة معك».
فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «اللهُمَّ ارزق حارثة الشهادة».
ولم تمضِ أيام كثيرة حتى أرسل الرسول فريقاً لاحدى المعارك وكان معهم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – خصال الصدوق الصفحة 265 الحديث 90.
2 – بحار الانوار الجزء 67 الصفحة 58 الحديث 35.
[248]
حارثة فقاتل وقَتل ثمانية أو تسعة من الأعداء ثم قُتِلَ شهيداً(1).
8 ـ وقد جـاء في حديث للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) نقل في كتب هل السنة : «لولا تكثير في كلامهم وتمريج في قلوبكم لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمع»(2).
إن هذه الأحاديث وأحاديث اخرى من هذا النوع، وضحت العلاقة بين الكشف الروحاني والايمان واليقين، وبينت امكانية حصول الانسان بالتكامل المعنوي ـ على هذا الادراك الذي لا نعلم عنه غير أنه موجود فحسب.
* * *
3 ـ سبعة منامات صادقة في القرآن المجيد:
إن «الرؤيا الصادقة» احدى فروع الشهود والكشف، والصادقة هي التي تتحق وتطابق الواقع، فتُعد منامات كهذه نوعاً من الكشف.
إن الفلاسفة الروحيين ـ خلافاً للفلاسفة الماديين الذين يعتقدون بأن الاحلام هي وليدة النشاطات اليومية أو الآمال غير المتحققة أو الخوف من الامور المختلفة ـ يعتقدون ان الاحلام تنقسم الى الأقسام التالية:
1 ـ الرؤيا التي تتعلق بالذكرات والميول والآمال.
2 ـ الرؤيا غير المفهومة والمضطربة ويعبر عنها بـ «أضغات أحلام» وهي نتيجة قوة الوهم والخيال.
3 ـ الرؤيا التي تتعلق بالمستقبل وترفع الستار عن بعض أسراره، وبتعبير آخر انها شهود يحصل للانسان وهو نائم.
لا دليل الفلاسفة الماديين على نفي القسم الثالث، بل لدنيا قرائين كثيرة تثبت واقعية هذا القسم من الرؤيا، وقذ ذكرنا عدة نماذج حية لا تقبل الرد في التفسير
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – اصول الكافي الجزء 2 الصفحة 54 باب حقيقة الايمان واليقين الحديث 3.
2 – تفسير الميزان الجزء 2 الصفحة 292.
[249]
الأمثل(1).
والجدير ذكره ان القرآن ذكر سبعة موارد على الأقل من موارد الرؤيا الصادقة، وذكرها هنا يناسب تفسيرنا الموضوعي:
1 ـ تحدث القرآن في سورة الفتح عن الرؤيا الصادقة للرسول، حيث رأى نفسه مع أصحابه يدخلون مكة لأداء مناسك العمرة وزيارة بيت الله الحرم، فأفصح الرسول عن منامه هذا للمسلمين ففرحوا، إلاّ أنهم تصورا أن الرؤيا هذه تحققت في السنة السادسة عندما حصل صلح الحديبية، ولم يحصل الفتح يومذاك، إلاّ أن الرسول طمئنهم بأن الرؤيا صادقة وستتحق يوماً ما.
وقد أجاب القرآن اولئك الذين شككوا في صدق الرؤيا بقوله:
(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامِ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُؤا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتحاً قَرِيبا)
(الفتح / 27)
تحقق المنام بجزئياته في ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة، وقد عرفت العمرة في تلك السنة بـ «عمرة القضاء» لأن المسلمين كانوا قاصدين أدائها في السنة السادسة، لكن قريش منعتهم منها.
رغم ان المسلمين دخلوا مكة (التي تعتبر مركزاً لقدرة المشركين وسلطانهم) من دون سلاح، إلاّ أنّ ابهتهم كانت مشهودة للأعداء، وقد صدق عليهم تعبير «آمنين» و«لا تخافون» بالكامل فأدوا مراسم زيارة بيت الله وبه تحقق منام الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بجميع خصوصياته رغم أن تخمين وقوع أمر كهذا كان شبه مستحيل، وهذا من عجائب تاريخ الاسلام.
2 ـ وقد أشير في سورة الاسراء الى رؤيا اخرى للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) إشارة عابرة وقصيرة حيث قال تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – التفسير الأمثل الجزء 9 الصفحة 315 الى 317.
[250]
(وَما جَعَلْنا الرُّؤْيا الّتي أَرَيْناكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنّاسِ وَالشَّجرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرانِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزيدُهُمْ إلاّ طُغْياناً كَبِيراً)
(الاسراء / 60)
وقد نقل مفسروا الشيعة والسنة حديثاً معروفاً جاء فيه: ان الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)رأى في المنام قروداً ترتقي منبره وتنزل منه، فحزن الرسول من جراء هذا الأمر، لأنه يحكي عن الحوادث المفاجئة في قيادة المسلمين بعد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) (إن الكثير فسّرَ المنام بحكومة بني امية، حيث خلفوا لارسول ـ ظلماً ـ واحداً بعد الآخر وأفسدوا في الخلافة، وكانوا فاقدي الشخصية واتبعوا ما كان عليه آباؤهم في الجاهلية)(1).
وادعى البعض ان هذه الرؤيا هي نفس رؤيا دخول مكة، بينما سورة الاسراء نزلت بمكة، والرؤيا كانت في المدينة وقبل حدث صلح الحديبية في السنة السادسة.
وقد رجح البعض مثل الفخر الرازي أن تكون الرؤيا بمعنى المشاهدة في حالة اليقظة، والآية تشير الى مسألة المعراج(2).
لكن هذا التفسير ضعيف لأن المعنى الأصلي واللغوي للرؤيا هو المشاهدة عند النوم لا لليقظة، وعليه فالصحيح هو التفسير الأول.
أما المراد من «الشجرة الملعونة»، فقد ادعى البعض: إنها هي «شجرة الزقوم» التي تنبت في قعر جهنم طبقاً للآيه (64) من سورة الصافات، وهي طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون طبقاً للآيات (46 و 47) من سورة الدخان.
وادعى بعض آخر: إنها كناية عن اليهود العصاة، فانهم كالشجرة مع ما فيها من غصون وأوراق إلاّ أنّهم ملعونون عند الله.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير الفخر الرازي الجزء 20 الصفحة 236.
2 – جاءت هذه الرواية في تفسير القرطبي ومجمع البيان والصافي والفخر الرازي، وقد قال الفيض الكاشاني: إنها من الروايات المشهورة عند العامة والخاصة.
[251]
إلاّ انها فُسِّرت في كثير من كتب الشيعة والسنة ببني امية، وقد نقل الفخر الرازي هذا التفسير عن ابن عباس المفسر الاسلامي الكبير(1)، وهذا التفسير يتفق مع رؤية الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بالكامل.
قد يقال: لِمَ لم يُشِر القرآن الى الشجرة الملعونة في القرآن المجيد؟ إلاّ ان المسألة محلولة بالالتفات الى لعن المنافقين بشدة في سورة محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) الآية (23)، وبني امية من طلائع النفاق في الاسلام.
إضافة الى هذا، فان تعبير القرآن (نُخَوِّفُهُم فَما يَزِيدُهُمْ إِلاّ طُغْياناً كَبِيرا)يصدق عليهم بالكامل.
وقد جاء في رواية أن عدداً من صحابة الامام الصادق(عليه السلام) سألوه نفسه أو أباه(عليه السلام) عن المراد من الشجرة الملعونة في الآية، فأجابهم: «بني امية»(2).
وقد نقل نفس المضمون عن امير المؤمنين(عليه السلام) وكذلك عن الامام الباقر(عليه السلام)، وقد ذكر علي بن ابراهيم الروايات الثلاث في تفسيره(3).
وقد نقل السيوطي في تفسيره «الدر المنثور» روايات كثيرة عن الشجرة الملعونة، ورؤيا الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث فُسِّرت الشجرة الملعونة في بعضها ببني امية وفي بعضها ببني الحكم وبني العاص، وكلهم من شجرة خبيثة واحدة(4).
وعلى أية حال ، فان رؤيا الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) تحققت بعد رحيله ، وخلفته
الشجرة الملعونة نسلا بعد نسل، وكانوا بلاءً عظيماً على المسلمين، وامتحاناً كبيراً لهم.
3 ـ والرؤيا الصادقة الاخرى هي رؤيا ابراهيم الخليل(عليه السلام) فيما يخص ذبح اسماعيل(عليه السلام)،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – نقلها القرطبي عن ابن عباس في تفسيره الجزء 6 الصفحة 2، 39، ونقلها الفخر الرازي عنه أيضاً في الجزء 20 الصفحة 237.
2 – نور الثقلين الجزء 3 الصفحة 180 الحديث 278.
3 – نور الثقلين الجزء 3 الصفحة 180 و 181 الحديث 282 و 283 و 286.
4 – تفسير الميزان الجزء 13 الصفحة 175.
[252]
فانه كان محلا لامتحان عظيم للوصل الى مقام الامامة وقيادة الامة الرفيع، فقد أُمر بذبح ابنه العزيز «اسماعيل»، رغم أنّ الأمر أوحي إليه وهو نائم، أي ان الايعاز كان مناماً لا شيئاً آخر، ولنقرأ ما يقوله القرآن في هذا المجال:
(فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قالَ يا بُنَىَّ إنِّي أُرى في الْمَنامِ أَني أَذْبَحُكَ
فَانْظُرْ ما ذا تَرَى قَالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُني إنْ شاء اللهُ مِنَ
الصّابِرِينَ)
(الصافات / 102)
إن التعبير بـ «أرى» الذي هو فعل مضارع يفيد الاستمرار يدل على أن ابراهيم(عليه السلام) كان يرى الرؤيا كراراً، بحيث حصل له اطمئنان بأن الأمر من الله، ولهذا أجابه اسماعيل بهذا الجواب: (يا أَبتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إنْ شاء اللهُ مِنَ الصّابِرِينَ).
ولهذا السبب نفسه جاء في الآيتين ( 104 و 105 ) من نفس السورة : (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إبْرَاهِيمْ ـ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا).
والحادث هذا ، دليل واضح لأولئك الذين يـقولون بامكانية عـد الرؤيا الصادقة نوعاً من أنواع الوحي للانبياء والرسل، كما أنه قد جاء في بعض الروايات: «إن الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءً من النبوة»(1).
وقد شكك بعض الاصوليين في مسألة نسخ الحكم قبل العمل به إلاّ أن
كلامهم ـ وكما ذُكِرَ في محله ـ يختص بالأوامر غير الامتحانية، أما في الامتحانية فهو غير صادق، والتعبير بـ «قد صدَّقَتْ الرؤيا» دليل على أن ابراهيم(عليه السلام)قد أدى ما عليه بما جاء به من تتهيئة المقدمات لهذا الايثار الكبير.
4 ـ ومن الرؤى الصادقة في القرآن، هي رؤيا يوسف في بيت أبيه، حيث أشارت إليها الآيات الاولى من سورة يوسف:
(إِذْ قالَ يُوسُفُ لاَِبِيهِ يا أَبَتِ إنّي رَأَيْتُ أَخَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – بحار الانواز الجزء 58 الصفحة 167 و 177 و 178.
[253]
وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ)
(يوسف / 4)
تنبأ يعقوب مستقبل يوسف والحوادث المقبلة عليه فبشره: (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ … وَيَتُمُ نِعْمَتَهُ عَلَيكَ وَعَلى آلَ يَعْقُوبْ).
يعتقده بعض المفسرين ان يوسف رأى هذا في المنام وهو في الثانية عشر من عمره، وقد تحقق منامه بعد أربعين سنة حيث جلس على عرش الحكومة في مصر، وجاءه اخوته مع أبويه خاضعين له، أو ساجدين لله شكراً، كما أُشير الى ذلك في نهاية السورة:
(وَرَفَعَ أَبَويْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سَجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هَذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقّا)
(يوسف / 100)
إن هذا الحديث يحكي بوضوح عن امكانية تحقق أحلام صادقة منقوشة في قلب طاهر قبل أربعين رغم انه لم يُذكر العدد (40) سنة في آيات القرآن، إلاّ أن المستفاد من قرائن الآيات ان الفاصل بين المنام وتحققه كان طويلا جداً.
وجدير بالذكر هنا أن من ضمن البشائر التي بشر يعقوب بها يوسف هذه البشرى: (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحاديثِ) (يوسف / 6).
وهذه الجملة (سواء عنت علم تعبير المنام كما يعتقده كثير من المفسرين أو عنت مفهوماً أوسع من ذلك ليشمل الخبرة والحاطة باصول وأسباب الحوادث ونتائجها)(1)، فانها على كل حال دليل واضحْ على امكانية صدق بعض الرؤى وتحققها عيناً وواقعاً في الخارج.
5 و 6 ـ وهما مناما اللذين كانا مع يوسف في السجن عندما كان مسجوناً بذنب طهارته، فيحكي الله قصتهما في نفس السورة ويقول:
(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قَالَ أَحَدُهُما انِّى أراني أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الآخَرُ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الميزان الجزء 11 الصفحة 86.
[254]
اِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئنا بِتَأْوِيلِهِ ارنّا
نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)
(يوسف / 36)
فداعهما يوسف للتوحيد وعبادة الله قبل أن يُأوّل ما رأيا ، ثم قال للذي رأى أنه يعصر خمراً اي عنباً: إنك تخرج من السجن، وقال للذي رأى فوق رأسه خبراً يأكل منه الطير: إنك ستُحال للاعدام وقد تحقق المنامان (من المتعارف في بيئة فاسدة وحكومة جبارة مثل بيئة وحكومة مصر آنذاك حيث يحكم على يوسف بالسجن بذنب العفة والطهارة ، أن يطلق سراح الذي يسالم الحكومة ويحضر الخمر لطغاتها، اما الذين يتحلون بروع الدفاع عن المستضعفين ويعطون خبراً للطيور فيحكم عليهم بالاعدام).
وعلى أي حال ، فان هاتين الرؤيتين اللتين حكاهما القرآن بصراحة يكشفان عن امكان اعتبار الرؤيا كمصدر للمعرفة، بالطبع لا كل رؤيا ولا كل معبّر ومفسر لها.
7 ـ رؤيا سلطان مصر التي جـاءت في نفس السورة ، وهـي نموذج واضح آخر للرؤيا الصادقة، يحكي القرآن هذه الرؤيا قائلا:
(وَقالَ الْمَلِكُ اِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرات سِمان يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعُ
سُنْبُلات خُضْر واُخَرَ يابِسات يا أَيُّها الْمَلأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ اِنْ كُنْتُم
لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ)
(يوسف / 43).
وبما أن حاشية الملك لم يكونوا خبراء بتعبير الرؤيا، قالوا له : «أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الاحلام بعالمين».
يحتمل أنهم أرادوا طمأنة سلطان مصر بحديثهم هذا ( ينبغي الالتفات الى أن ملك مصر وفرعونها هو الحاكم العام لمصر، بينما عزيز مصر فهو ـ كما يقول بعض المفسرين ـ وزير الخزينة، واسم فرعون المعاصر ليوسف هو «ريان بن وليد»
[255]
واسم عزيز مصر «قطفير او عطفير»(1).
فتذكَّر عندها ساقي الملك الذي اُطلق صراحه من السجن بعد أن رأى الرؤيا وأولها يوسف، فحكى القصة للملك فبعث الملك شخصاً الى يوسف كي يأوّل المنام، فأوله هكذا:
(قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنينَ دَاَباً فَمآ حَصَدْتّمْ فَذَرُوهُ في سُنْبُلِهِ اِلاّ
قَليلا مِمّا تَاكُلُونَ * ثُمَّ يَاتي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَّاْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ
لَهُنَّ اِلاّ قَليلا مِمّا تُحْصِنُونَ)
(يوسف / 47 ـ 48)
وقد تحقق المنام بعد ذلك، وعندما شاهدوا الصدق والمعرفة في
يوسف(عليه السلام)، أطلقوا سراحه، وقد أدى به الأمر أن أصبح عزيز مصر ووزير الخزينة، ثم من بعده أصبح ملك مصر كلها مع سعتها وعمرانها.
* * *
النتيجة:
يستفاد من الآيات السابقة امكانية لاختبار بعض الرؤى مصدراً لإدراك
بعض الحقائق، وبتعبير آخر، فان مسألة الكشف والشهود يمكنها أن تحصل في المنام كما تحصل في اليقظة، وهذه الرؤى على ثلاثة أقسام (طبقاً للآيات الماضية):
1 ـ بعض تتحقق في الخارج عيناً من دون أي تغيير، مثل رؤيا الرسول، زيارته مع الصحابة لبيت الله الحرام التي جاءت في سورة الفتح.
2 ـ منامات تتحقق وهي بخاحة الى تفسير وتعبير، وتتحقق بتفسيرها لا بعينها،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – نقل هذا المضمون في التفسير الكبير للفخر الرازي الجزء 18 الصفحة 108 (وللتفصيل يراجع «اعلام القرآن» الصفحة673، كما قد صرّح «ابو الفتوح الرازي» أن نهاية يوسف وصوله الى سلطة مصر» تفسير أبي الفتوح الجزء 6 الصفحة 401.
[256]
ولا يفسرها إلاّ الخبير بها، مثل المنامات الأربعة التي حصلت ليوسف ولصديقه في السجن ولملك مصر، وقد ذكرت كلها في سورة يوسف.
3 ـ الرؤيا التي فيها جانب حكم وإيعاز، وتُعدُّ نوعاً من الوحي يحصل عند النوم مثل رؤيا ابراهيم(عليه السلام).
بالطـبع ليس مفهوم الكلام هذا أن كل حلم يُعدُّ كشفاً أو شهوداً ، بل إن كـثيراً من المنامات تُعدُّ أضغاث أحلام، وتفتقد لأي معنىً، وهي رؤى ناتجة عن نشاط قوة الوهم، أو عم الحرمان والكبت والمآسي والانزعاج والتألّم.
* * *
سؤال؟
قد يسـأل البعض عن المنامـات التي تتعلق بحوادث المستقبل ، فهل هي نوع من العلم؟ أم هي (كما يعتقد فرويد العالم النفساني المعروف) لا شيء سوى إرضاء للشهوات والميول المكبوتة والحرمان الحاصل للانسان، فتتجلى له في المنام مع تغيّر وتبدّل لخداع « الأنا » ولإرضاء الشهوة المكبوتة فان الحلم إشباع خيالي لها ، وقد ينعكس هذا الميل بنفسه عيناً في الحلم ( مثل رؤية عاشق لمعشوقته الفقيدة عيناً ) وقد ينعكس في منامه مع تغيير وتبديل ، فيحتاج الى تعبير وتفسير
حينها.
* * *
الجواب:
إن ما يقوله فرويد هو فرضية لا أكثر ، وفي الحقيقة لا دليل على ما يدعيه أبداً ، فقد تكون بعض المنامات مصادقاً لما يدعيه ، أما كون الاحلام كلها من هذا القبيل
[257]
فهذا ما لا دليل له عليه(1).
نحن نعتقد أن للمنامات أقساماً، وقسم منها هو الرؤيا الصادقة، ونعدها
وسيلة للكشف أي كشف بعض الحقائق ، وهذه حقيقة استفدناها من القرآن (الذي هو وحي الهي) بالدرجة الاولى، وبالدرجة الثانية من التجارب التي حصلت في هذ المجال، ليس المراد تلك الحكايات التي لا سند لها، بل المراد الحوادث التي وقعت لشخصيات كبيرة ومعروفة في عصرنا أو في العصور الماضية، وقد نقلوا هذه المنامات في كتبهم (وقد أشرنا الى بعض من نماذجها الواضحة في الجزء التاسع من التفسير الأمثل).
ومن هنا يعرف انه لا يمكن عدّ الرؤيا لوحدها مصدراً للمعرفة، ولهذا يقال بعدم حجية الرؤيا، بل ينبغي ضم قرائن من الخارج موضحة ولا تقبل النفي، لتصحب الرؤيا مصدراً مقبولا للمعرفة.
* * *
4 ـ المكاشافات الرحمانية والمكاشفات الشيطانية:
قد نستغني عن التذكير بأنه كما يوجد كشف وشهود واقعي يحصل تارة بالايمان واليقين الكامل ، وتارة اخرى بالرياضات النفسية، فانه يوجد كشف وشهود وهمي كثير ، فقد يحصل هذا الكشف بسبب التلقينات المكررة وانحراف الذهن والفكر عن جادة الصواب، وتارة بسبب الالقاءات الشيطانية ، فتتمثل في ذهن الانسان صور وحوادث لا واقع لها ، إنها مجموتة أوهام لا أكثر ، ومن هذا القبيل الكشف والشهود الذي يدعيه كثير من « الصوفية »، فان المريد البسيط يعتقد في بداية عمله ( من جراء الاعلام والدعاية التي يتلقاها من البعض ) أنه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – لم يكشف العلماء منشأ النوم (لا المنام) بعد، فلا يعلمون هل أنّ منشأه نشاط فيزياوي أو كيمياوي أو كلاهما، أو ناشيء عن نشاط الجهاز العصبي، فاذا كان النوم نفسه لغزاً لم يُحل بعدُ، فكيف يمكن القول بحل مسألة المنام التي هي أعقد من مسألة النوم أضعافاً مضاعفة!.
[258]
ينبغي له أن يرى مرشده الحقيقي في المنام ، وتقوى هذه الفكرة عنده كل يوم، فيتوقع في كل يوم رؤية جمال مرشده ومراده في عالم الرؤيا يزوره ويرشده (عالباً ما يضع أشخاصاً معينين نصب عينيه لهذا المنصب ، واذا لم يعينهم بالدقة فانه يعين صفات ومميزات خاصة لهم).
قد يفقد هذا الصوفي تعادل فكره الطبيعي من جراء الرياضات الشاقة وانحراف المزاج ، فتزداد قدرة الوهم عنده ، فيرى في المنام يوماً أشخاصاً قريبين ـ من حيث الصفات والميزات ـ من الأشخاص الذين رسمهم في ذهنه، وقد يتطابقان في الصفات بالكامل، وقد يحصل هذا في عالم اليقظة، لأن عيني هذا السالك البسيط راحلة الى الطريق، واُذنيه صاغية إليه دائماً: فتنمو هذه الفكرة عنده ليلا ونهاراً ، وقد تصنع قوة الوهم عنده ـ لا إرادياً ـ صوتاً ينقر اُذنه، أو تتمثل أمامه صورة، فيتخذها أساس اعتقاده.
كما أن الاستماع الى المواضيع المؤنسة والمنشطة (التي قد تبين في اطار أشارات جميلة وتتزامن مع الحان مخذّرة، يزيد م تأثير التلقينات عليه أضعافاً مضاعفة.
إن تلك الفرقة من الصوفية التي تؤيد « الوجد والسماع »(1)، يذوبون فيهما بشكل حيث يفقدون توازنهم ، ويُعطِّل العقل عندهم ، فيترك الساحة فارغة لقوة الوهم ، وأولئك الغامرون في وهم الكشـف والشهود ومشاهدة عالم الغيب يسـيرون في عوالم خيالية تتوقف سعتها على شدة الـوهم والخيال عندهم ، فتتمثل أمامهم صور مثل بحار النور ، وجبل الطور ، والسموات السبع والارضين السبع، وكلما مالت قوة الوهم عندهم الى شكل أو صورة، تمثل ذلك الشكل او تلك الصورة أمام أعينهم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – المراد من المساع، الألحان الموسيقية أو نغمات المطربين الدارجة في بعض مجالس الصوفيين، والمراد من الجد، الذوق والشوق واللهفة التي تحصل للصوفيين الذين يحسنون السماع ويقترن مع حركات تشبه الرقص.

 

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...