[392]
* * *
3 ـ النقطة المهمة الاخرى:
هي: إن الشيطان لا يدخل قلوبنا فجأة ولا يعر حدود دولة الروح من دون جواز، إن هجومه ليس مباغتاً بل يدخل برخصتنا، نعم انه يدخل من الباب الا من النافذة، ونحنُ نفتح له الباب، كما يقول القرآن في هذا المجال: (اِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ـ اِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (النحل / 99 ـ 100).
في الحقيقة ان أعمال الانسان هي التي توفر الأرضية لنفوذ الشيطان، وذلك ما يقوله القرآن: (اِنَّ المُبَذِّرِينَ كانُوْا اِخْوانَ الشَّياطِينِ) (الاسراء / 27).
إلاّ انه لا طريق للنجاة من مكائد الشياطين المتنوعة وجنودهم في أشكالها المختلفة من الشهوات ومراكز الفساد والسياسات الاستعمارية والمذاهب المنحرفة والثقافات الفاسدة، إلاّ اللجوء الى الايمان والتقوى والتظلّل بألطاف الله والتوكل على ذاته المقدسة، وكما يقول القرآن: (وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ اِلاَّ قَلِيلا)
(النساء / 83).
* * *
وقد انتـهت الى هنا حجب المعـرفة العشرين، فننتقل معـاً الى مؤهلات المعرفة.
[393]
[394]
مؤهلات المعرفة
[395]
[396]
5 ـ مؤهلات المعرفة
تمهيد:
كما ان البذور تنمو في الاراضي الخصبة، وكما أن الأزهار لا تتفتح في الاراضي المالحة بالرغم من استعمال أفضل البذور، ونزول المطر المتوالي عليها، كذلك بذور المعرفة فانها لا تنمو إلاّ في القلوب الصالحة والمؤهلة، ولا تتفتح أزهارها إلاّ في الارواح الطاهرة.
ولهذا السبب فان الاطلاع على الروحيات والاعمال التي تهييء وتُعِدّ أرضية المعرفة يعد من أهم البحوث التي تتعلق بـ «المعرفة»، وقد استعمل القرآن في هذا المجال تعابير ذات معان عميقة وإشارات جميلة.
وبالرغم من ان المؤهلات للمعرفة كثيرة، إلاّ أن الاسس المهمة والتي أشار إليها القرآن عبارة عن الامور التالية:
1 ـ التقوى.
2 ـ الايمان.
3 ـ الخشية والاحساس بالمسؤولية.
4 ـ تزكية النفس.
5 ـ الوعي.
[397]
6 ـ المعرفة.
وسنبحث كلا من هذا الامور في فصل خاص بعد ذكر الآيات التي تتعلق بها، كما سنستعين بالروايات الاسلامية في هذا المجال كمؤكد وموضّح لها ان شاء الله.
* * *
1 ـ علاقة التقوى بالمعرفة
في البداية نصغي خاشعين للآيات التالية:
1 ـ (اَلم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيْهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)
(البقرة / 1 ـ 2)
2 ـ (يا اَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اِنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً)
(الانفال / 29)
3 ـ (وَاتَّقُوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله وَالله بِكُلِّ شَىْء عَلِيمٌ)
(البقرة / 282)
4 ـ (يـا اَيُّهـا الَّـذِينَ آمَنُوا اِتَّقـوا الله وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كَفِـلَينِ مِنْ رَحْمَتِـهِ وَيَجْعَلْ لَكُـمْ نُـوراً تَمْشُـونَ بِـهِ وَيَغْفِـرْ لَكُمْ وَالله غَفُورٌ
رَحِيمٌ)
(الحديد / 28)
* * *
شرح المفردات:
[398]
إن «التقوى» من مادة «وِقاية» وتعني ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ حفظ الشيء من الآفات.
ثم يضيف: ان التقوى بمعنى حفظ الروح والنفس ممّا يخشى مضرته، ثم اطقت على الخوف، كما ان التقوى في الشرع تطلق على التحفظ من المعاصي، وكمالها ترك بعض المباحات المشكوكة(1).
ولباقي أئمة اللغة تعابير تشبه ما جاء في المفردات، فقد فسرها بعض بالصيانة(2)، وبعض اخر بـ «الامتناع عن القبائح والأهواء»(3).
وقد نقل عدد من المفسرين حديثاً عن بعض الصحابة أنهم سألوا عن حقيقة التقوى فأجيبوا:
«هـل مـررت بطـريق مليء بالاشواك في يـوم ما؟ قـال السائل: نعم. قـال: الم تجمع ثيابك وترفع اذيالك وتسعى للخلاص م الاشواك؟ فحالتك هذه هي التقوى».
نعم، إن الطريق الى الله مليءٌ بأشواك كثيرة كاشواك الشهوات والميول والأهـواء والآمـال البعيدة والكاذبـة، ومن هنا ينبـغي علـى الانسـان أن يحافظ على ثبات روحه دون ان تمس الاشواك أقدام روحه فتمزقها، ينبغي أن لا تشغله دون إنهاء هذا الطريق.
وهذ لا يمكن إلا باليقظة والمعرفة والخبرة ومراقبة النفس على الدوام.
وبتعبير أبسط: إن التقوى هي الوقاية من الآفات التي تعترض الروح في طريق التكامل، وتجنّبُ الذنوب والشبهات حتى الحصول على الملكة.
وقد ذكر بعض المفسرين معانيَ عديدة للتقوى، وجاؤوا بشاهد من القرآن لكل
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – مفردات الراغب مادة وقى.
2 – لسان العرب نفس المادة.
3 – مجمع البحرين، نفس المادة، كما ينبغي الالتفات الى أن أصل مفردة التقوى هو «وَقى» فانقلبت الواو تاءً، كما ذكر ذلك لخليل بن أحمد في كتابه «العين».
[399]
منها، وفي الحقيقة إن كلا منها مصداق من مصادق التقوى، مثل التوبة والطاعة والاخلاص والايمان (العبادة والتوحيد)(1).
ويقول البعض: إن حقيقة التقوى هي أن يجعل الانسان حائلا أو مانعاً أمام آفة ما، فكما يدفع الانسان تأثير ضربات العدو بالدرع، كذلك المتقون فانهم يصونون أنفسهم من عذاب الله بواسطة درع طاعة الله(2).
نقسّم التقوى الى ثلاث مراحل: التقوى عن الكفر، والتقوى عن الذنب، والتقوى عما ينسي الانسان ذكر ربّه(3).
ولكن ـ كما هو واضح ـ فانَّ المعاني هذه كلها ترجع الى المعنى الأساسي الذي ذُكر للتقوى في البداية.
* * *
جمع الآيات وتفسيرها:
اتقوا كي يسطع نور العلم على قلوبكم!
يقول الله عزّ وجلّ في الآية الاولى: (ذلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدى لِلْمُتَّقِينَ)والتعبير هذا يثبت بوضوح تأثير التقوى على المعرفة كمؤهل لها.
وهذه هي الحقيقة، فمـا لم تحصل في باطن الانسان مرحلة من مراحل التقـوى، لا يمكنه الاستفاضة من ينابيع الكتب السماوية، وأقل التقوى هو أو يسلـم الانسان نفسه الى الحق ويترك العناد، فان الذين يفتقدون هذه المرحلة من التقـوى، سوف لا يرتفعون الى أدنى درجة من درجات المعرفة ولا يتقبلون الهداية أبداً.
طبيعي ان الانسان كلما كانت روح التقوى والتسليم الى الحق وقبول الحقائق
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – وجوه القرآن الصفحة 55، وتفسير الفخر الرازي الجزء 2 الصفحة 20.
2 – روح البيان الجزء 1 الصفحة 30 و 31.
3 – روح البيان الجزء 1 الصفحة 30 و 31.
[400]
والواقعيات قوية عنده كانت استفاضته من ينبايع الهداية أكثر.
إن ينابيع الهداية وعلى رأسها القرآن المجيد كالغيث الذي يحيي الارض ويفتح أزهـا المعرفة فيها، وهذا يحـدثُ في الارض الخصبة فقط لا في كـل أرض.
إن التعبير بـ «هدى» أي بصيغة المصدر، تأكيد لحقيقة أن روح التقـوى اذا استيقظت عند الانسان وأصبحت فعالة، فان القرآن سيصبح الهداية ذاتا (تأمل جيداً).
وفي هذا المجال يقول بعض المفسرين العظام:
«ان الهداية الثـانية لما كانت بالقرآن فالهداية الاولى قبل القرآن وبسبب سلامة الفطرة، فان الفطرة اذا سلمت لمت تنفك من أن تنتبه شاهدة لفقرها وحاجتها الى امر خارج عنها، وكـذا احتياج كل ما سواها ممـا يقـع عليـه حس أو وهم أو عقل الى امر خارج تقف دونه سلسلة الحوائج، فهي مؤمنة مذعنة بوجود موجود غائب عن الحس، منه بدأ الجميع وإليـه ينتهي ويعود، وانـه كـما لم يهمل دقيقة من دقائق ما يحتاج اليه الخلق كذلك لا يهمل هداية الناس الى ما ينجيهم من مهلكات الأعمال والاخلاق وهذا هو الاذعان بالتوحيد والنبوة والمعاد وهي اصول الدين»(1).
كما يقول الفخر الرازي:
والبعض الاخر ذكر في حصر الهداية بالمتقين لان الله تعالى ذكر المتقين مدحاً ليبين انهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال: (انما انت منذر من يخشاها)وقال: (انما تنذر من اتبع الذكر) وقد كان عليه السلام منذراً لكل الناس، فذكر هؤلاء الناس لاجل ان هؤلاء هم الذين انتفعوا بانذاره(2).
وقد استنتج الفخر الرازي في بعض عباراته:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الميزان الجزء 1 الصفحة 42.
2 – تفسير الفخر الرازي الجزء 2 الصفحة 21.
[401]
«ولو لم يكن للمتقي فضيلة الاّ ما في قوله تعالى (هدى للمتقين) كفاه لانه تعالى بيّن ان القرآن هدى للناس في قوله تعالى: (شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس) ثم قال: انه هدى للمتقين فهذا يدل على ان المتقين هم كل الناس فمن لا يكون متقياً كانه ليس بانسان(1).
وبالـرغم من عدم تنـافي التفاسير الماضية، إلاّ أن التفسيـر الأول يبـدو أوضح، ومن هنا يعرف سُقـم الرأي القائل (بحمل «المتقين» في الآية على المجـاز، والقول بأن المراد منهم سالكـو طريق التقوى، وذلك للحيلولة دون الوقـوع في اشكال (تحصيل حاصل)، وذلك لان للتقـوى ـ وكـما قلنا ـ مراحل ودرجات، فمرحلة منه تؤهل لهداية القرآن، والمراحل الرفيعة الاخرى تكون وليدة هداية القرآن.
ويُطـرح هنا سؤال وهـو: إن الآيـات التـي جاءت بعـد « هدىً للمتقين » عرفت المتقين بالذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصـلاة ويؤتون الزكاة، وعلى هذا، افلا تكون هداية القرآن تحصيلا للحاصل يا ترى؟!
إن الاجـابة على هذا السـؤال تتضـح بالالتفات الى نقطة في هذا المجال وهي: إن الوصول الى هذه المـراحل المذكورة في السؤال ليست نهـاية الطريق، بل هناك مراحل كثيرة اخرى ينبغي طيها لبلوغ المرحلة التكاملية اللائقة بالانسان، وهـذه المرحلة عند المتقين ستهديهم الى مراحل ارفع واسمى بالاستعانة بهداية القرآن.
وتوجد تعبيرات في القرآن تشبه ما جـاء في الآية السابقة، مثلما جاء في الآية (48) من سورة الحاقة (وَاِنَّه لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتِّقِينَ).
فعدت الآية الاولى القرآن «هدى» للمتقين وسبباً لهدايتهم، والثانية «تذكرة» لهم، ونعلم أن «التذكر» من مقدمات «الهداية»، ولهذا عندما وصل عدد من
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير الفخر الرازي الجزء 2 الصفحة 21.
[402]
المفسرين الى هذه الآية أرجعوا الحديث فيها الى نفس الحديث في بداية سورة البقرة.
وعلى أية حال، فان هذه الآيات شاهد ناطق على دور التقوى كممهّد للمعرفة والهداية.
* * *
وقد وضحت الآية الثانية علاقة التقوى بالمعرفة توضيحاً أكثر من الآية السابقة وصرحت: (يا اَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اِنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً).
إنَّ « الفرقان » ـ كما يقـول بعض أئمـة اللغة ـ: ( اسم مصدر )، وادعـى بعض آخر أنه (مصدر) إلاّ أن أغلب المفسرين يصرحون بأن له ـ في موارد كهذا المورد ـ معنى فاعلياً مقروناً بالتأكيد (أشبه ما يكون بمفهوم صيغة المبالغة)، ومعناه
الشيء الذي يفرق بين الحق والباطل، وله مفهوم واسع يشمل القرآن المجيد ومعجزات الانبياء والأدلة العقلية الواضحة وشرح الصدر والتوفيق والنورانية الباطنية وغير ذلك(1).
وبهذا، فالقرآن يقول بان «التقوى» هي الارضية التي تعد للمعرفة والتي يمكن الاستدلال بها تماماً في بعض المراحل، وتنطوي في المراحل الاخرى ضمن الامدادات الالهية المعنوية.
سمى القرآن المجيد يوم معركة بدر «يوم الفرقان»، وذلك من حيث أنه يوم شهد آيات الله البارزة تؤيد جند الاسلام ضد جند الشرك، فبالرغم من عِدَّة وعدد المشركين الذي يقدر بثلاثة أضعاف عدد المسلمين، تحملوا ضربات قاسية من المسلمين لم يتوقعها أحد.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – راجع المفردات، وكتاب العين، ولسان العرب، ومجمع البحرين، والميزان، والكشاف في ذيل الآية نفسها.
[403]
إضافة الى هذا، فان معركة بدر كانت أول مواجهة مسلحة بين المسلمين والمشركين انفصلت بها صفوف المسلمين عن المشركين، ولذا سميت بـ «يوم الفرقان».
وينبغي الالتفات الى أن «فرقاناً» جاءت بصيغة نكرة ومطلقة، فدلّت على عظمة ذلك النور الالهي وعلى سعته، بحيث يشمل المسائل الاعتقادية والعملية وكل ابداء رأي تجاه امور الحياة المهمة، وعلى هذا، فثمرة شجرة التقوى هي الولوج في كل خير وبركة والابتعاد عن كل شرٍّ وفساد.
يقول الفخر الرازي في شرحه لهذه الآية: بما أن لفظ الفرقان مطلق فينبغي حمله على كل ما يفرق المؤمنين عن الكافرين، فهذا الفرقان إِما في أحوال الدنيا وإِما في أحوال الآخرة، والذي يتعلق بأحوال الدنيا إِما انه يتعلق بالقلب وهي الاحوال الباطنة او في الاحوال الظاهرة، فبالنسبة للقلب والباطن فالله يهدي قلوب المؤمنين ويلقي فيها المعرفة ويشرح صدورهم ويمحو عنـها الحقد والحسد والبغض والعداوة، بينما يمتليء قلب المنافق والكافر من هذه الرذائل والصفات السيئة، لأن القلب اذا تنور بنور الايمان زالت ظلمات هـذه الرذائل عنه، أما الذي يتعلق بالظاهـر، فالله ينصر المسلمين ويفتح لهم ويمنحهـم الرفعة(1).
* * *
والآية الثالثة التي هي جزء صغير من أطوال آية في سورة البقرة أي الآية (282)، بعـد ان بيّـنت عدداً مـن الأوامر الالهيـة قالت: (وَاتَّقُـوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير الفخر الرازي الجزء 15 الصفحة 153 (بتلخيص).
[404]
يقول القرطبي في تفسيره:
«انه وعدٌ من الله تعالى بأن من اتقاه علّمـه، أي يجعـل في قلبـه نوراً يفهم بـه ما يُلقى اليه، وقد يجعل الله في قلبه ابتداء فرقاناً، اي فصلا يفصل به بين الحق والباطل»(1).
إن هذا الحديث لا يعني ترك كسب العلم، والاكفتـاء بتهـذيب النفس ـ كما يقول بعض الصوفية وأشخاص منحرفون ـ بل المراد هو ان التقوى تهيـيء الأرضية لكسب العلم الحقيقي أشبه ما يكون بالأرض الخصبة والمُعدَّة لنثر البذور.
صـحيح أن جمـلة « اتقـوا الله » ليسـت شـرطاً وأن جمـلة « يعلمكم الله » ليست جزاء لها (ولهذا أنكر البعض العلاقة بين التقوى والعلم المستفادة من هذه الآية)، لكن ممّا لا شك فيه هو أن اقتران أحدهما بالآخر لم يكن اعتباطاً، بل هو تلـميح الى العلاقـة الموجودة بين هذين الاثنين، وإلاّ فيعرض انسجام الآية للسؤال.
* * *
إن رابع وآخر آية بيّنت العلاقة بين التقوى والمعرفة بوضوح، فبينت ثلاثة أجور للذين يتقون الله ويؤمنون برسوله.
الأول يوتيهم الله كفلَيْنِ أو نصيبين من رحمته، نَصيباً لايمانهم ونصيباً لتقواهم، أو نَصيباً لأجل ايمانهم بالانبياء السالفين ونصيباً لأجل ايمانهم بالرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبالرغم من ان المخاطبين في الآية مؤمنون إلاّ أن الله يأمرهم أن يؤمنوا بالرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، كما ان شأن نزول الآية يين انها بصدد فريق من نَصارى الحبشة الذين سمعوا القرآن وآمنوا بنبي الاسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير القرطبي الجزء 3 الصفحة 406.
2 – الكِفْل: ما يعيل الانسان ويرفع حاجته، ويعتقد البعض ان هذه المفردة حبشية دخيلة على العربية.
[405]
والثاني: هو جعل الله لهم نوراً ـ لأجل ايمانهم وتقواهم ـ يهتدون به في صراطهم: (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ).
وبالرغم من أن البعض أراد تقييد مفهوم الآية والقـول بأن النـور الـذي ذُكِرَ فيها إشارة الى النور الذي يسعى بين أيدي المؤمنين وبإيمانهم في يوم القيامة (كما تشيـر الى ذلك الآيـة 12 من سـورة الحديد: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤمِنـات يَسْعَى نُـورُهُم بَينَ أَيْـدِيهِمْ وَبِاَيْمـانِهِم))، لـكن لا دليل لهم على هذا التقييد، بل ان مفهومها ـ وكما يقول صاحب الميزان ـ واسع يشمل الأنوار الالهية كلها في الدنيا والاخرة، وعلى هذا فتكون الآية شاهداً على العلاقة بين «التقوى» و«المعرفة».
أمّا الأخير فهو: (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ) وهذا كله لأجل ايمانهم وتقواهم.
* * *
إيضاحات:
1 ـ علاقة العلم بالتقوى في الروايات الاسلامية:
وفي الروايات الاسلامية ايضاً تم بيان مدى تأثير القوى على مسألة العـلم، هذه الروايات تبين بوضوح ان تطهير القلب والروح بالتقوى يعد الارضية لتلقي المعارف الالهية.
نذكر هنا الأحاديث التالية كنماذج لما جاء في الروايات الاسلامية:
ونقرأ في حديث عن امير المؤمنين(عليه السلام) انه قال:
«من غرس اشجار التقى جنى ثمار الهدى»(1).
2 ـ وجاء ايضاً في احدى خطب نهج البلاغة انه قال:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – غرر الحكم.
[406]
«اما بعد فاني أُوصيكم بتقوى الله .. فان تقوى الله دواء داء قلوبكم وبصر عمى افئدتكم وشفاء مرض اجسادكم وصلاح فساد صدوركم وطهور دنس انفسكم وجلاء عشأ ابصاركم»(1).
3 ـ وفي حديث عنه ايضاً أنه(عليه السلام) قال:
«للمتقي هدىً في رشاد وتحرّج عن فساد»(2).
4 ـ ونقرأ ايضاً في نهج البلاغة انه(عليه السلام) قال:
«اين العقـول المستصبحة بمصـابيح الهـدى والابصار اللامحة الى منـار التقوى»(3).
5 ـ ونختـم حـديثنا بحديث ذي معنـى عميق عن الرسـول(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: جاء في وصيّة الخضر لموسى(عليه السلام): «يا موسى وطِّـن نفسك على الصبـر تلق الحلـم واشعـر قلبك التقوى تنـل العلم وَرَضّ (روّض) نفسـك على الصبر تخلص من الاثم»(4).
* * *
2 ـ كيفية الارتباط بين ينابيع العلم والتقوى؟
ما هو تأثير التقوى واجتناب الذنوب وترك التلوث بها على مسألة المعرفة؟ وبتعبير آخر: ما هي العلاقة المنطقية بين العلم والأخلاق؟
في الحقيقة إن لهذين الاثنين علاقة تقارب قوية، وأي علاقة أقرب وأوثق من العلاقة المتبادلة بين هذين الاثنين؟ فالتقوى ينبوع العلم، كما ان العلم ينبوع
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – نهج البلاغة خطبة رقم 198.
2 – غررر الحكم.
3 – نهج البلاغة خطبة رقم 144.
4 – منية المريد للشهيد الثاني (ينقل عن بحار الانوار الجزء 1 الصفحة 227).
[407]
التقوى، وليس هذا بامر طبيعي فحسب بل انه اصل اساسي للسير في طريق المعرفة.
فيمكن الاستدلال على تأثير التقوى على العلم بالطرق التالية:
أ ـ إن السنخية والتنسيق تسببان الجاذبية والارتباط دائماً.
فعندما تتطهر روح الانسان وتزكى بالتقوى تحصل جاذبية قوية بينها وبين المعارف والعلوم الحقيقية «فالسنخية تبعث على الارتباط العجيب».
ب ـ إن منجل التقوى يحصد جميع الأشواك من مزرعة روح الانسان، ويُعدّ القلب وبهيئه لنمو بذور العلم والمعرفة، بل إذا دققنا النظر فان بذور العلوم جميعها قد نثرها الله في هذه المزرعة، والمهم في الأمر هو حصد الأعشاب المزاحمة وإرواء المزرعة.
وقد جاء في حديث للمسيح(عليه السلام) مخاطباً فيه أنصاره قائلا:
«ليس العلم في السماء فينزل اليكم، ولا في تخوم الارض فيصعد عليكم، ولكن العلم مجبول في قلوبكم مركوز في طبائِعكم، تخلقوا باخلاق الروحانيين يظهر لكم»(1).
ج ـ نعـلم أنه لا وجـود للخبل والحسد في مبدأ عالم الوجود، وعلى ما جاء في الآية: (وَاِنْ مِـنْ شَيْء اِلاّ عِنْدَنـا خَزائِنُـهُ وَمـا نُنَزِّلُهُ اِلاّ بِقَـدَر مَعْلُوْم)
(الحجر / 21)، فان خزائن النعم غير المتناهية عند الله، ما ينقصه زيادة كرمه وكثرته شيئاً، بل ان جوده وكرمه يتجلّى أكثر «وَلا يَزِيدُهُ كَثْرَةُ العَطاءِ اِلاّ جُوداً وَكَرَما».
وعليه، فان الحرمان سببه عدم أهلية الأشخاص، إن التقوى تجعل الانسان أهلا للفيض الالهي، وأي فيض أرفع شأناً من المعارف والعلوم الالهية؟
إن القلوب كالأوعية كما يقول امير المؤمنين(عليه السلام): (انَّ هذِهِ الْقُلُوب أَوْعِيَةٌ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير الصراط المستقيم الجزء 1 الصفحة 267.
[408]
فَخَيْرُها أوعاها)(1) والمهم هو أن نوسع هـذه الأوعية، وأن لا تـكون مقلوبة
لا تسع ولو لقطرة واحدة، وهذا الأمر ممكن في ظل التقوى.
أما التأثير المتبادل بين العلم والتقوى: فهو ان العلم الحقيقي يمحو جذور الرذائل الأخلاقية وينبايع الاثم والذنب، ويمثل أمامه عواقب الامور، وهذه المعرفة تعين الانسان على تبلور التقوى في قلبه وعلى ابتعاده عن الإثم، ويتضح من هنا ان العلم ينبوع للتقوى، كما ان التقوى ينبوع للعلم، غاية الامر ان مرحلة من التقوى تسبب مرحلة من العلم، وتلك المرحلة من العلم تسبب مرحلة أرفع من التقوى، وعلى هذا المنوال فان كلا منهما يوثر في الآخر تأثير متبادلا، وقد تكون الآية (201) من سورة الاعراف مشيرةً الى هذه النقطة:
(اِنَّ الَّـذِين اتَّقَوا اِذا مَسَّهُمْ طـائِفٌ مِنَ الشَّيْطـانِ تَذَكّرُوا فـاذا هُـمْ مُبْصِرُونَ).
أي ان التقوى تكون في البداية، ثم التذكر، ثم البصيرة، والنتيجة هي النجاة من وساوس الشياطين.
* * *
3 ـ استغلال العلاقة بين «العلم» و«التقوى»:
بالرغم من ان علاقة المعرفة بالتقوىعلاقة لا يمكن انكارها، سواء من وجهة نظر القرآن المجيد، أو من وجهة نظر الدليل والعقل (وقد بينا ذلك بالتفصيل)، إلاَّ أن هذا الحديث لا يعني ترك طرق كسب العلم والمعرفة المتعارفة، والاستغناء بتهذيب النفس عن كسب تنصّب العلوم على قلوبنا العلم، كما ظن ذلك عدد من الصوفية الذين اتخذوا هذه المسألة حجة لمقارعة المعرفة وكسب العلم وظلوا في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – نهج البلاغة الحكمة 147.
[409]
جهل دامس.
إن الاسلام أوجب كسب العـلم بدرجة حيث اعتبـر الحضـور في مجـلس العلم كالحضور في روضة من رياض الجنّـة: «مجـلس العلـم روضةٌ من رياض الجنة».
كما عدَّ النظر الى وجه العالم عبادة «النظر الى وجه العالم عبادة»(1)، وكل خطوة يخطوها في سبيل العلم فهي خطوة نحو الجنة(2).
وقد عدَّ مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء(3).
وحفظ الحديث وكتابته من الفضائل العظيمة(4).
ويدعو الاسلام ـ من جهة اخرى ـ الى تهذيب النفس وتزكيتها لأجل تهيئتها لقبول المعارف والعلوم الالهية.
وعلى هذا، فاولئك الذين تركوا طلب العلم واوصوا زملائهم وأتباعهم بتركه، والتوجه الى تصفية الباطن وتزكيتها على خطأ، لأن التزكية هذه غالباً ما تنحرف عن جادة الصواب بسبب عدم اقترانها بالعلم والمعرفة، وكذلك اولئك الذين انهمكوا في كسب العلوم الرسمية وأهملوا تهذيب النفس، فانهم في ضلالة، نعم ينبغي السعي نحو كليهما.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – غرر الحكم.
2 – البحار الجزء 1 الصفحة 164.
3 – البحار الجزء 2 الصفحة 14.
4 – المحجة البيضاء الجزء 1 الصفحة 15.
[410]
2 ـ الايمان والمعرفة
تمهيد:
إن روح الايمان هي التسليم للحق والخضوع أمام الواقعيات، وبما أن أكثر واقعية في عالم الوجود هي ذات الله المقدسة، فان ورح الايمان تتمحور حول التوحيد ومعرفة الله.
إن الايمان يفسح المجال أمام عقل الانسان لأن يدرك الواقعيات كـما هي حقاً، سواء كانت مرّة أو حلوة، وسواء كانت ملائمة لمزاجه وطبعه أم لا.
إن معلومات اولئك الذين لم يسلموا للحق هي تصوّرٌ وتمثلٌّ لرغباتهم وأهوائهم، لا لنفس الواقعيات الموجودة في الخارج، انهم يرون الدنيا بالشكل الذي يرغبون فيه، ولا يرونها بشكلها الواقعي.
وبهذا التمهيد تتضح علاقة الايمان بالمعرفة اجمالا، ونصغي الآن خاشعين الى آيات القرآن في هذا المجال:
1 ـ ( اَوَمَنْ كـانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنـاهُ وَجَعَلْنـا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّـاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمـاتِ لَيْسَ بِخـارِجِ مِنْهـا)
(الانعام / 122)
2 ـ ( أَوُ كَظُلُمـات فِي بَحْر لُجِّيًّ يَغْشـاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحـابٌ ظُلُمـاتٌ بَعْضُهـا فَوْقَ بَعْض اِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراهـا وَمَنْ لَمْ يَجْعَل اللهُ لَهُ نُوراً فَمـا لَهُ مِنْ نُور)
(النور / 40)
3 ـ ( وَالَّذِينَ آمَنُـوا بِاللهِ ورُسُـلِهِ أُولـئِكَ هُمُ الصِّـدِيقُونَ وَالشّهَـداءُ
عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ اَجْرُهُمْ وَنُورُهُم)
[411]
الحديد / 19)
4 ـ ( اَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسلامِ فَهُوَ عَلَى نُور مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقـاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولـئِكَ فِي ضَلال مُبِين)
(الزمر / 22)
* * *
جمع الآيات وتفسيرها:
تأثير الايمان على الرؤية الصحيحة:
تحدثت الآية الاولى عمّن كانوا موتى ثمّ أحياهم الله وجعل لهم نوراً يهتدون به في الطريق.