نهج الحق وكشف الصدق / الصفحات: ٨١ – ١٠٠
وهل الأولى أن نقول: من ديننا أن الله لا يكلف الناس ما لا يقدرون عليه، ولا يطيقون؟ أو نقول: إنه يكلف الناس ما لا يطيقون، ويعاقبهم على ترك ما لا يقدرون على فعله؟.
وهل الأولى أن نقول: إنه تعالى يكره الفواحش، ولا يريدها، ولا يحبها، ولا يرضاها، أو نقول: إنه يحب أن يشتم، ويسب، ويعصى بأنواع المعاصي، ويكره أن يمدح، ويطاع، ويعذب الناس لما كانوا كما أراد ولم يكونوا كما كره؟.
وهل الأولى أن نقول: إنه تعالى لا يشبه الأشياء، ولا يجوز عليه ما يجوز عليها؟ أو نقول: إنه يشبهها؟
وهل الأولى أن نقول: إن الله تعالى يعلم، ويقدر، ويحيي، ويدرك لذاته؟ أو نقول: إنه لا يدرك، ولا يحيي، ولا يقدر، ولا يعلم إلا بذوات قديمة، لولاها لم يكن قادرا، ولا عالما، ولا غير ذلك من الصفات؟
وهل الأولى أن نقول: إنه تعالى لما خلق الخلق أمرهم ونهاهم، أو نقول: إنه لم يزل في القدم ولا يزال بعد فنائهم طول الأبد يقول: أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، لا يخل بذلك أصلا؟.
وهل الأولى أن نقول: إنه تعالى تستحيل رؤيته، والإحاطة بكنه ذاته؟ أو نقول: إنه يرى بالعين إما في جهة من الجهات له أعضاء وصورة، أو يرى لا في الجهة.
وهل الأولى أن نقول: إن أنبياءه وأئمته منزهون عن كل قبيح وسخيف، أو نقول: إنهم اقترفوا المعاصي المنفرة عنهم، وأنه يقع منهم ما يدل على الخسة والذلة، كسرقة درهم، وكذب، وفاحشة، ويدومون على ذلك، مع أنهم محل وحيه، وحفظة شرعه، وأن النجاة تحصل بامتثال أوامرهم القولية والفعلية؟.
إثبات الحسن والقبح العقليين
المطلب الثاني: ذهبت الإمامية، ومن تابعهم من المعتزلة، إلى أن من الأفعال ما هو معلوم الحسن، والقبح بضرورة العقل، كعلمنا بحسن الصدق النافع، وقبح الكذب الضار، فكل عاقل لا يشك في ذلك.
وليس جزمه بهذا الحكم بأدون من الجزم بافتقار الممكن إلى السبب، وأن الأشياء المساوية لشئ واحد متساوية. ومنها ما هو معلوم بالاكتساب أنه حسن، أو قبيح، كحسن الصدق الضار، وقبح الكذب النافع (١).
ومنها ما يعجز العقل عن العلم بحسنه أو قبحه فيكشف الشرع عنه كالعبادات.
الثاني: لو خير العاقل الذي لم يسمع الشرايع، ولا علم شيئا من الأحكام، بل نشأ في بادية، خاليا من العقائد كلها، بين أن يصدق ويعطى دينارا، أو بين أن يكذب ويعطى دينارا، ولا ضرر عليه فيهما، فإنه يتخير الصدق على الكذب. ولولا حكم العقل بقبح الكذب، وحسن الصدق، لما فرق بينهما، ولا اختار الصدق دائما.
الثالث: لو كان الحسن والقبح شرعيين لما حكم بهما من ينكر الشرع، والتالي باطل، فإن البراهمة بأسرهم ينكرون الشرايع والأديان كلها، ويحكمون بالحسن والقبح، مستندين إلى ضرورة العقل في ذلك.
الرابع: الضرورة قاضية بقبح العبث، كمن يستأجر أجيرا ليرمي من ماء الفرات في دجلة، ويبيع متاعا أعطي في بلده عشرة دراهم، وفي بلد يحمله إليه بمشقة عظيمة، ويعلم أن سعره كسعر بلده بعشرة دراهم أيضا. وقبح تكليف ما لا يطاق، كتكليف الزمن الطيران إلى السماء، وتعذيبه دائما على ترك هذا الفعل، وقبح من يذم العالم الزاهد، على علمه، وزهده، وحسن مدحه، وقبح مدح الجاهل الفاسق على جهله وفسقه، وحسن ذمه عليهما، ومن كابر في ذلك فقد أنكر أجلى الضروريات، لأن هذا الحكم حاصل للأطفال، والضروريات قد لا تحصل لهم.
السادس: لو كان الحسن والقبح شرعيين لحسن من الله تعالى أن يأمر بالكفر، وتكذيب الأنبياء، وتعظيم الأصنام، والمواظبة على الزنا والسرقة، والنهي عن العبادة والصدق لأنها غير قبيحة في أنفسها. فإذا أمر الله تعالى بها صارت حسنة، إذ لا فرق بينهما وبين الأمر بالطاعة، فإن شكر المنعم، ورد الوديعة، والصدق ليست حسنة في أنفسها، ولو نهى الله تعالى عنها كانت قبيحة. لكن لما اتفق أن الله تعالى أمر بهذه مجانا، لغير غرض ولا حكمة، صارت حسنة، واتفق أنه نهى عن تلك فصارت قبيحة، وقبل الأمر والنهي لا فرق بينهما. ومن أداه عقله إلى تقليد من يعتقد ذلك، إنه أجعل الجهال، وأحمق الحمقى، إذ علم أن معتقد رئيسه ذلك. ومن لم يعلم، ووقف عليه، ثم استمر على تقليده فكذلك، فلهذا وجب علينا كشف معتقدهم، لئلا يضل غيرهم ولا تستوعب البلية جميع الناس.
السابع: لو كان الحسن والقبح شرعيين، لزم توقف وجوب الواجبات على مجئ الشرع. ولو كان كذلك لزم إفحام الأنبياء، لأن النبي عليه السلام إذا ادعى الرسالة، وأظهر المعجزة، كان للمدعو أن يقول: إنما يجب علي النظر في معجزتك، بعد أن أعرف أنك صادق، فأنا لا أنظر حتى أعرف، صدقك ولا أعرف صدقك إلا بالنظر، وقبله لا يجب علي امتثال الأمر، فينقطع النبي، ولا يبقى له جواب.
الثامن: لو كان الحسن والقبح شرعيين، لم يجب المعرفة، لتوقف
إن الله تعالى لا يفعل القبيح
المطلب الثالث: في أن الله تعالى لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب.
ذهبت الإمامية ومن وافقهم من المعتزلة، إلى أن الله تعالى لا يفعل القبيح، ولا يخل بالواجب. بل جميع أفعاله تعالى حكمة وصواب، ليس فيها ظلم، ولا جور، ولا عدوان، ولا كذب، ولا فاحشة، لأن الله تعالى غني عن القبيح، وعالم بقبح القبيح، لأنه عالم بكل المعلومات وعالم بغناه عنه. وكل من كان كذلك فإنه يستحيل عليه صدور القبيح عنه، والضرورة قاضية بذلك، ومن فعل القبيح مع الأوصاف الثلاثة استحق الذم واللوم. وأيضا الله تعالى قادر، والقادر إنما يفعل بواسطة الداعي، والداعي: إما داعي الحاجة، أو داعي الجهل، أو داعي الحكمة..
فأما داعي الحاجة، فقد يكون العالم بقبح القبيح محتاجا إليه، فيصدر عنه دفعا لحاجته. وأما داعي الجهل، فبأن يكون القادر عليه جاهلا بقبحه، فيصح صدوره عنه. وأما داعي الحكمة، بأن يكون الفعل حسنا فيفعله لدعوة الداعي إليه. والتقدير أن الفعل قبيح فانتفت هذه الدعاوى، فيستحيل القبح منه تعالى.
وذهبت الأشاعرة كافة، إلى أن الله تعالى قد فعل القبايح بأسرها، من أنواع الظلم، والشرك، والجور، والعدوان، ورضي بها، وأحبها (١) فلزمهم من ذلك محالات:
وأنه لا فرق عنده بين نبوة محمد صلى الله عليه وآله، ونبوة مسيلمة الكذاب؟، فليحذر العاقل من اتباع أهل الأهواء، والانقياد إلى طاعتهم، ليبلغهم مرادهم، ويربح هو الخسران بالخلود في النيران، ولا ينفعه عذره غدا في يوم الحساب!.
ومنها: أنه يلزم منه تكذيب الله تعالى في قوله: ” إن الله لا يحب الفساد ” (١)، و ” إن الله لا يرضى لعباده الكفر ” (٢)، و ” ما الله يريد ظلما للعباد ” (٣)، و ” ما ربك بظلام للعبيد ” (٤)، و ” لا يظلم ربك أحدا ” (٥)، و ” ما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ” (٦)، ” كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ” (٧)، ” وإذا فعلوا فاحشة قالوا:
وجدنا عليها آباءنا، والله أمرنا بها. قل: إن الله لا يأمر بالفحشاء ” (٨).
ومن يعتقد اعتقادا يلزم منه تكذيب القرآن العزيز، فقد اعتقد ما يوجب الكفر، وحصل الارتداد، والخروج عن ملة الإسلام، فليتعوذ الجاهل العاقل من هذه المقالة الردية، المؤدية إلى أبلغ أنواع الضلالة. وليحذر من حضور الموت عنده وهو على هذه العقيدة، فلا تقبل توبته، وليخش من الموت قبل تفطنه بخطأ نفسه. فيطلب الرجعة، فيقول: ” رب
(٣) المؤمن: ٣١.
(٤) فصلت: ٤٦.
(٥) الكهف: ٤٩.
(٦) هود: ١١٧.
(٧) الإسراء: ٣٨.
(٨) الأعراف: ٢٨.
ومن يجوز لنفسه أن يقلد من يعتقد جواز الكذب على الله تعالى، وأنه لا جزم في البعث والنشور، ولا بالحساب، ولا بالثواب، ولا بالعقاب؟، وهل هذا إلا خروج عن الملة الإسلامية؟
فليحذر الجاهل من تقليد هؤلاء، ولا يعتذر: بأني ما عرفت مذهبهم، فهذا عين مذهبهم، وصريح مقالتهم.. نعوذ بالله تعالى منها، ومن أمثالها..
ومنها: أنه يلزم نسبة المطيع إلى السفه والحمق، ونسبة العاصي إلى الحكمة والكياسة، والعمل بمقتضى العقل. بل كلما ازداد المطيع في طاعته وزهده، ورفضه للأمور الدنيوية، والاقبال على الله تعالى بالكلية، والانقياد إلى امتثال أوامره، واجتناب مناهيه، نسب إلى زيادة الجهل، والحمق، والسفه. وكلما ازداد العاصي في عصيانه، ولج في غيه وطغيانه، وأسرف في ارتكاب الملاهي المحرمة، واستعمال الملاذ المزجور عنها بالشرع، نسب إلى العقل، والأخذ بالحزم، لأن الأفعال القبيحة إذا كانت مستندة إليه تعالى، جاز أن يعاقب المطيع، ويثبت العاصي، فيجعل (٢) المطيع بالتعب، ولا تفيده (٣) طاعته إلا الخسران، حيث جاز أن يعاقبه على امتثال أمره، ويحصل في الآخرة بالعذاب الأليم السرمد،
(٣) في نسخة: ولا يفيد.
وجوزوا بهذا الاعتبار، وباعتبار وقوع القبح منه تعالى: أن يكلف الله تعالى أن يخلق مثله تعالى، ومثل نفسه، وأن يعيد الموتى في الدنيا، كآدم، ونوح، وغيرهما. وأن يبلع جبل أبي قبيس دفعة، ويشرب ماء دجلة جرعة، وأنه متى لم يفعل ذلك عذبه بأنواع العذاب!.
فلينظر العاقل في نفسه، هل يجوز له أن ينسب ربه تعالى وتقدس إلى مثل هذه التكاليف الممتنعة؟ وهل ينسب ظالم منا إلى مثل هذا الظلم؟
تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا..
ومنها: أنه يلزم منه عدم العلم بنبوة أحد من الأنبياء عليهم السلام، لأن دليل النبوة هو: أن الله تعالى فعل المعجزة عقيب الدعوى، لأجل التصديق، وكل من صدقه الله تعالى فهو صادق، فإذا صدر القبيح منه لم يتم الدليل. أما الصغرى، فجاز أن يخلق المعجزة للاغواء والاضلال.
وأما الكبرى، فلجواز أن يصدق المبطل في دعواه.
ومنها: أن القبائح لو صدرت عنه تعالى لوجبت الاستعاذة منه، لأنه حينئذ أضر على البشر من إبليس لعنه الله، وكان واجبا على قولهم، أن يقول المتعوذ: أعوذ بالشيطان الرجيم من الله تعالى.
وهل يرضى العاقل لنفسه المصير إلى مقالة تؤدي إلى التعوذ من أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين؟. وتخليص إبليس من اللعن، والبعد، والطرد؟ نعوذ بالله من اعتقاد المبطلين، والدخول في زمرة الظالمين.
ولنقتصر في هذا المختصر على هذا القدر.
إنه تعالى يفعل لغرض وحكمة
المطلب الرابع: في أنه تعالى يفعل لغرض وحكمة.
قالت الإمامية: إن الله تعالى إنما يفعل لغرض، وحكمة، وفائدة، ومصلحة ترجع إلى المكلفين، ونفع يصل إليهم.
وقالت الأشاعرة: إنه لا يجوز أن يفعل شيئا لغرض، ولا مصلحة ترجع إلى العباد، ولغاية من الغايات (١). ولزمهم من ذلك محالات:
منها: أن يكون الله تعالى لاعبا عابثا في فعله، فإن العابث هو الذي يفعل لا لغرض وحكمة، بل مجانا. والله تعالى يقول: ” وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ” (٢) ” ربنا ما خلقت هذا باطلا ” (٣). والفعل الذي لا لغرض للفاعل فيه باطل ولعب، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ومنها: أنه يلزم أن لا يكون الله تعالى محسنا إلى العباد، ولا منعما عليهم، ولا راضيا لهم، ولا كريما في حق عباده، ولا جوادا.
وكل هذه تنافي نصوص الكتاب العزيز، والمتواتر من الأخبار النبوية، وإجماع الخلق كلهم، من المسلمين وغيرهم، فإنهم لا خلاف بينهم في وصف الله تعالى بهذه الصفات على سبيل الحقيقة، لا على سبيل المجاز.
وبيان لزوم ذلك: أن الاحسان إنما يصدق لو فعل المحسن نفعا لغرض الاحسان إلى المنتفع، فإنه لو فعله لا كذلك لم يكن محسنا. وبهذا لا يوصف مطعم الدابة لتسمن حتى يذبحها بالاحسان في حقها، ولا بالإنعام عليها.
(٣) آل عمران: ١٩١.
ومنها: أنه يلزم أن يكون جميع المنافع التي جعلها الله تعالى منوطة بالأشياء غير مقصودة، ولا مطلوبة لله تعالى. بل وضعها وخلقها عبثا (١)، فلا يكون خلق العين للإبصار، ولا خلق الأذن للسماع، ولا اللسان للنطق، ولا اليد للبطش، ولا الرجل للمشي (٢) وكذا جميع الأعضاء التي في الإنسان، وغيره من الحيوانات.. ولا خلق الحرارة في النار للإحراق (٣)، ولا الماء للتبريد، ولا خلق الشمس، والقمر، والنجوم للإضاءة، ومعرفة الليل والنهار للحساب (٤). وكل هذا مبطل للأغراض، والحكم، والمصالح. ويبطل علم الطب بالكلية، فإنه لم يخلق الأدوية للإصلاح،
١٩٥ وقال تعالى: ” ومن آياته خلق السماوات والأرض، واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين ” الروم: ٢٢.
(٣) وقال تعالى: ” نار الله الموقدة ” الهمزة: ٦ وقال: ” ثم في النار يسجرون ” غافر: ٧٢.
(٤) وقال تعالى: ” هو الذي أنزل من السماء ماء، لكم منه شراب، ومنه شجر ” النحل: ١٠.
إبطال النبوات بأسرها، وعدم الجزم بصدق أحد منهم. بل يحصل الجزم بكذبهم أجمع، لأن النبوة إنما تتم بمقدمتين.
إحداهما: أن الله تعالى خلق المعجزة على يد مدعي النبوة، لأجل التصديق.
والثانية: أن كل من صدقه الله تعالى فهو صادق.
ومع عدم القول بأحدهما لا يتم دليل النبوة، فإنه تعالى لو خلق المعجزة لغير غرض التصديق، لم تدل على صدق المدعي، إذ لا فرق بين النبي وغيره، فإن خلق المعجزة لو لم يكن لأجل التصديق، لكان لكل أحد أن يدعي النبوة، ويقول: إن الله تعالى صدقني، لأنه خلق هذه المعجزة.
ويكون نسبة النبي وغيره إلى هذه المعجزة على السواء.
ولأنه لو خلقها لا للتصديق لزم الاغراء بالجهل، لأنه دال عليه، فإن في الشاهد لو ادعى شخص أنه رسول سلطان، وقال السلطان: إن كنت صادقا في دعوى رسالتك فخالف عادتك، واخلع خاتمك، ففعل السلطان ذلك ثم تكرر هذا القول من مدعي رسالة السلطان، وتكرر من السلطان هذا الفعل عقيب الدعوى، فإن الحاضرين بأجمعهم يجزمون بأنه رسول ذلك السلطان، كذا هنا، إذا ادعى النبي الرسالة، وقال: إن الله تعالى يصدقني، بأن يفعل فعلا لا يقدر الناس عليه، مقارنا لدعواي.
وتكرر هذا الفعل من الله تعالى عقيب تكرر الدعوى، فإن كل عاقل يجزم
والمقدمة الثانية: وهي: أن كل من صدقه الله تعالى فهو صادق، ممنوعة عندهم أيضا. لأنه يخلق الضلال، والشرور، وأنواع الفساد، والشرك، والمعاصي الصادرة من بني آدم، فكيف يمتنع عليه تصديق الكاذب؟ فيبطل المقدمة الثانية أيضا.
هذا نص مذهبهم، وصريح معتقدهم. نعوذ بالله من عقيدة أدت إلى إبطال النبوات، وتكذيب الرسل، والتسوية بينهم وبين مسيلمة، حيث كذب في ادعاء الرسالة..
فلينظر العاقل المنصف، ويخف ربه، ويخش من أليم عقابه، ويعرض على عقله: هل بلغ كفر الكافر إلى هذه المقالات الردية؟؟
والاعتقادات الفاسدة؟ وهل هؤلاء أعذر في مقالتهم، أم اليهود، والنصارى؟، الذين حكموا بنبوة الأنبياء المتقدمين عليهم السلام، وحكم عليهم جميع الناس بالكفر، حيث أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وآله. وهؤلاء قد لزمهم إنكار جميع الأنبياء عليهم السلام، فهم شر من أولئك، ولهذا قال الصادق عليه السلام، حيث عدهم، وذكر اليهود والنصارى: إنهم شر الثلاثة (١)، ولا يعذر المقلد نفسه، فإن فساد هذا القول معلوم لكل أحد،
والآيات الدالة على الغرض والغاية في أفعال الله أكثر من أن تحصى، فليتق الله المقلد في نفسه، ويخش عقاب ربه، وينظر فيمن يقلده:
هل يستحق التقليد، أم لا؟ ولينظر إلى ما قال، ولا ينظر إلى من قال.
وليستعد لجواب رب العالمين، حيث قال: ” أو لم نعمركم؟ ما يتذكر فيه من تذكر، وجاءكم النذير ” (٧)، فهذا كلام الله تعالى على لسان النذير، وهاتيك الأدلة العدلية المستندة إلى العقل، الذي جعله الله تعالى حجة على بريته. وليدخل في زمرة الذين قال الله تعالى عنهم: ” فبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب ” (٨)، ولا يدخل نفسه في زمرة الذين قال الله تعالى
(٣) الذاريات: ٥٦.
(٤) النساء: ١٦.
(٥) المائدة: ٧٨.
(٦) محمد صلى الله عليه وآله: ٣١.
(٧) فاطر: ٣٧
(٨) الزمر: ١٧.
فهل يجوز لعاقل يخاف الله تعالى، وعقابه: أن يعتقد في الله تعالى مثل هذه العقائد الفاسدة؟. مع أن الواحد منا لو نسب غيره إلى أنه يسئ إلى من أحسن إليه، ويحسن إلى من أساء إليه، قابله بالشتم والسب، ولم يرض ذلك منه، فكيف يليق أن ينسب ربه إلى شئ يكرهه أدون الناس لنفسه؟؟
إنه تعالى يريد الطاعات، ويكره المعاصي
المطلب الخامس: في أنه تعالى يريد الطاعات ويكره المعاصي.
هذا مذهب الإمامية قالوا: إن الله تعالى أراد الطاعات، ولم يرد المعاصي، سواء وقعت، أو لا. وكره المعاصي، وسواء وقعت، أم لا، ولم يكره الطاعات، سواء وقعت أم لا.
وخالفت الأشاعرة مقتضى العقل، والنقل في ذلك، فذهبوا إلى أن الله
وهذا القول يلزم منه مجالات:
منها: نسبة القبيح إلى الله تعالى، لأن إرادة القبيح قبيح، وكراهة الحسن قبيحة، وقد بينا: أنه تعالى منزه عن فعل القبايح كلها.
ومنها: كون العاصي مطيعا بعصيانه، حيث أوجد مراد الله تعالى، وفعل وفق مراده.
ومنها: كونه تعالى يأمر بما يكره، لأنه أمر الكافر بالإيمان، وكرهه منه، حيث لم يوجد، وينهى عما يريد، لأنه نهاه عن الكفر، وأراده منه.
وكل من فعل ذلك من أشخاص البشر ينسبه كل عاقل إلى السفه والحمق، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. فكيف يجوز للعاقل أن ينسب إلى ربه تعالى ما يتبرأ منه، ويتنزه عنه؟..
ومنها: مخالفة النصوص القرآنية، الشاهدة. بأنه تعالى يكره المعاصي،
وجوب الرضا بالقضاء
المطلب السادس: في وجوب الرضا بقضاء الله تعالى.
اتفقت الإمامية والمعتزلة، وغيرهم من الأشاعرة، وجميع طوائف الإسلام: على وجوب الرضا بقضاء الله تعالى وقدره (٥).
(٣) الزمر: ٧.
(٤) البقرة: ٢٠٥.
(٥) قال رسول الله صلى الله عليه وآله في حديث قدسي: قال الله عز وجل: ” من لم يرض بقضائي، ولم يصبر على بلائي، فليتخذ ربا سوائي. (كنز العمال ج ١ ص ٩٣ رقم: ٤٨٣ و ٤٨٦، وإحياء العلوم للغزالي ج ٤ ص ٢٤٧). وعن علي بن موسى الرضا عن آبائه، عن علي بن أبي طالب عليهم السلام، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: قال الله جل جلاله: من لم يرض بقضائي، ولم يؤمن بقدري، فليلتمس إلها غيري. (توحيد الصدوق ص ٣٧١)، وغيرهما من الروايات.
وقال الله عز وجل: ” وما كان لمؤمن ولا مؤمنة، إذا قضى الله ورسوله أمرا، أن يكون لهم الخيرة ” الأحزاب: ٣٦. فاختيار العبد خلاف ذلك مناف لإيمانه وتسليمه، ورضائه بالله ربا، وبالاسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وآله رسولا نبيا.
أما قول الإمامية من أن الله تعالى منزه من فعل القبايح والفواحش، وأنه لا يفعل إلا ما هو حكمة، وعدل، وصواب، ولا شك في وجوب الرضا بهذه الأشياء، فلا جرم كان الرضا بقضائه وقدره على قواعد الإمامية، والمعتزلة واجبا، ولم يلزم منه خرق الاجماع، في ترك الرضا بقضاء الله تعالى، ولا في الرضا بالقبايح.
إنه تعالى لا يعاقب على فعله
المطلب السابع: في أن الله تعالى لا يعاقب الغير على فعله تعالى.
ذهبت الإمامية والمعتزلة إلى: أن الله تعالى لا يعذب العبيد على فعل يفعله فيهم، ولا يلومهم عليه.
وقالت الأشاعرة: إن الله تعالى لا يعذب العبد على فعل العبد، بل يفعل الله تعالى فيه الكفر، ثم يعاقبه عليه، ويفعل فيه الشتم لله تعالى، والسب له، ولأنبيائه (ع)، ويعاقبه عليها، ويخلق فيهم الأعراض عن الطاعات، وعن ذكره وذكر أحوال المعاد (١)، ثم يقول: ” فما لهم عن التذكرة معرضين ” (٢)؟.
وهذا أشد أنواع الظلم، وأبلغ أصناف الجور، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وقد قال تعالى: ” وما ربك بظلام للعبيد (٣)، وما الله يريد ظلما للعباد ” (٤) وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، (٥) ولا تزر وازرة وزر أخرى ” (٦). وأي ظلم أعظم من أن يخلق في العبد شيئا، ويعاقبه عليه، بل يخلقه أسود، ثم يعذبه على سواده، ويخلقه طويلا،
(٣) فصلت: ٤٦.
(٤) غافر: ٣١.
(٥) هود: ١٠١.
(٦) الأنعام: ١٦٤.
امتناع تكليف ما لا يطاق
المطلب الثامن: في امتناع تكليف ما لا يطاق.
قالت الإمامية: إن الله تعالى يستحيل عليه من حيث الحكمة: أن يكلف العبد ما لا قدرة له عليه، ولا طاقة له به، وأن يطلب منه فعل ما يعجز عنه، ويمتنع منه، فلا يجوز له أن يكلف الزمن الطيران إلى السماء، ولا الجمع بين الضدين، ولا كونه في المشرق حال كونه في المغرب، ولا إحياء الموتى، ولا إعادة آدم ونوحا عليهما السلام، ولا إعادة أمس الماضي، ولا إدخال جبل قاف في خرم الإبرة، ولا شرب ماء دجلة في جرعة واحدة، ولا إنزال الشمس والقمر إلى الأرض، إلى غير ذلك من المحالات الممتنعة لذاتها.
وذهبت الأشاعرة: إلى أن الله تعالى لم يكلف العبد إلا ما لا يطاق، ولا يتمكن من فعله (١)،.
فخالفوا المعقول الدال على قبح ذلك. والمنقول، وهو المتواتر من الكتاب العزيز، قال الله تعالى: ” لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ” (٢)،