الصحيح من سيرة الإمام علي (عليه السلام)- ج01 / الصفحات: ١ – ٢٠
تقديم:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، ولا سيما علي أمير المؤمنين والأئمة من أبنائه الميامين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، من الأولين والآخرين، إلى قيام يوم الدين..
وبعد.. |
فقد وفق الله تعالى في أوئل شهر حزيران سنة ٢٠٠٧م.. للشروع في تسجيل بعض اللمحات من حياة أمير المؤمنين وسيد الوصيين، علي بن أبي طالب “عليه السلام”.. نسأل الله أن يجعل هذا الجهد خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به مؤلفه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وأن يهدي بسيرة الوصي والولي من شاء من عباده، إنه ولي قدير..
هذا وقد ارتأينا أن يكون تقديمنا لهذا الكتاب هو لفت نظر القارئ الكريم إلى بعض الأمور التي سيلاحظها بنفسه في هذا الكتاب، وهي التالية:
١ ـ إن هذا الكتاب غير قادر على عرض كل الدقائق، وتفاصيل الحقائق عن حياة أمير المؤمنين علي “عليه السلام”، وإنما هو نقطة من بحر
سيرته “عليه السلام”، ولمعة ضوء من باهر دلالاتها، ورشحة من روائع مراميها وغاياتها.. وباقة ريانة من أزاهير ملامحها وإشاراتها..
٢ ـ إن لحياته “عليه السلام” في عهد رسول الله “صلى الله عليه وآله” طابعاً ينسجم مع موقعه من رسول الله، ومع المهمات التي لا بد له أن يضطلع بها، وكذلك مع طبيعة تعامله مع مقام النبوة الأقدس.
أما في عهد: أبي بكر، وعمر، وعثمان، فقد اختلف الحال.. وأصبح له “عليه السلام” موقع في سياسة الأمور، وفي مواجهة التعديات وحفظ المنجزات، والعمل لحفظ خط الحق وأهله في موازاة، ومواجهة سياسات الترويج للباطل.. فلا بد من رصد حركته “عليه السلام” في خضم الأحداث المتلاحقة بعناية ودقة.. واقتناص الموقف ولملمة شراذمه، وبلورة معالمه..
ثم جاءت خلافته “عليه السلام” لتقدم النموذج الصحيح والصريح للحكومة الإلهية على الأرض.. فالتعاطي مع هذه الحالات المختلفة لا بد أن يختلف ويتفاوت، وفق توفر النصوص، وتنوع الخصوصيات في كل منها. وهذا ما ظهر في هذا الكتاب.. فليلاحظ ذلك.
٣ ـ قد اعتمدنا كثيراً في القسم الذي يرتبط بحياته وسيرته “عليه السلام” في عهد رسول الله “صلى الله عليه وآله” على النصوص التي أوردناها مع مصادرها في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم “صلى الله عليه وآله”..
أما ما علقناه على تلك النصوص، أو أوردناه من مناقشات، فمعظمه
قد أعدنا تدوينه، أو أضفناه وألحقناه لاقتضاء المقام ذلك.
٤ ـ قد اعتمدنا في أكثر الموارد طريقة إيراد النص، ثم ألحقناه بفقرات لها عناوين خاصة بها.. وقد تضمنت تلك الفقرات معالجات، أو انتقادات، أو تحليلات لما جاء في ذلك النص..
٥ ـ سيجد قارئ هذا الكتاب الكثير من الموارد التي يصح أن تعتبر بمثابة إعادة نظر، أو تصحيح أو توضيح، أو توسعة لما ذكرناه في سائر مؤلفاتنا..
٦ ـ إن عدداً من المصادر التي أخذنا منها النصوص قد اختلفت طبعاته، وتعددت، ولم نتمكن من الإعتماد على طبعة واحدة، بسبب الظروف التي واجهناها، ولا سيما بعد تدمير منازلنا ومكتبتنا التي في بيروت، والجزء الأهم، والأثمن من مكتبتنا التي في بلدتنا عيثا الجبل ـ عيثا الزط سابقاً ـ مع ملاحظة: أننا كنا نرغب بالإسراع في إنجاز هذا الكتاب، بعد أن لاحظنا أن وضعنا الصحي ليس في صالح التسويف أو التباطؤ فيه، فكنا ننجز في كل شهر أو أقل، أو أزيد بأيام قليلة جزءاً من هذا الكتاب، رغم كثرة الصوارف، ووفرة المعيقات والموانع في كثير من الأحيان..
٧ ـ إننا لم نلتزم بحرفية النص في خصوص الصلاة البتراء التي تستبعد آل النبي عنها، بل التزمنا بصيغة واحدة وهي الصلاة الصحيحة، والتامة في جميع الموارد، وهي عبارة “صلى الله عليه وآله”..
والتزمنا أيضاً بكلمة “عليه السلام” بالنسبة للإمام علي وسائر الأئمة.. فليلاحظ ذلك.
٨ ـ إن هذا الكتاب لم يكتب مسودة، ثم تم تبييضها، بل كتب مسودة، ثم طبع وصحح مرة واحدة.. فإن ظهرت فيه بعض الأخطاء، أو لوحظ أي خلل أو قصور في بعض عباراته، فهو بسبب ذلك غالباً، فإن الكتاب الذي لا يحظى بعناية كافية لا يسلم ـ عادة ـ من خلل كهذا..
٩ ـ لا بد أن نعترف: بأن ثمة مباحث لم توف حقها من البيان، ولم تستوف نصوصها التي تحتاجها لاستكمال ملامحها أو لم نذكر لها من المصادر ما يناسب أهميتها.. لأن همنا كان مصروفاً إلى فتح الباب، وإراءة الطريق، ولم يكن بإمكاننا الأخذ بيد سالكيه إلى نهاياته، لأن ذلك قد يؤدي إلى استطرادات واسعة، قد يصعب معها تحقيق الغرض من التصدي لتأليف الكتاب، فليقبل القارئ الكريم عذرنا هذا، والعذر عند كرام الناس مقبول..
١٠ ـ إن لنا الحق في أن نسجل هنا أمراً قد يفيد تسجيله في إثارة الرغبة لدى بعض أهل العلم بالتصدي لمعالجته، وهو أن ما يرتبط بحياة أمير المؤمنين ليس مجموعاً في كتاب تكفل بتبويبه وترتيبه، وتنسيقه وفق خطة بعينها، بل وجدناه متناثراً، ومنتشراً في كل كتاب، وفي كل فصل وباب، ولو جمعت سيرته “عليه السلام”، ورتبت، وبوبت حسب الأصول، فلربما تكون معالجتها أوفى وأتم مما هي عليه الآن.
١١ ـ قد يلاحظ القارئ الكريم على مصادر هذا الكتاب أنها خلطت المصدر بغير المصدر، وذكرت القديم والحديث، والآخذ، والمأخوذ منه. وقد يتخذ ذلك ذريعة للطعن في سلامة الطريقة، وأن ينسب الخلل إلى
معايير البحث، ونحن نريد هنا أن نطمئن القارئ إلى أن هذا لم يغب عن بالنا، ولكننا قد تعمدنا ذلك لعدد من الأسباب التي لا مجال لشرحها الآن..
ومنها: التعريف بكتب علمائنا رضوان الله تعالى عليهم، والدلالة على تضمنها لهذه الحقائق..
ومنها: رفض الإلتزام بما يريد الآخرون أن يفرضوه علينا، من أن المعتبر هو كتبهم ومصادرهم ، وادعاء أنها هي الصحيحة دون سواها.
ومنها: تيسير الوصول إلى الكتب التي دونت النص لمن لا يملك مكتبة جامعة..
ومنها: ..
ومنها: ..
١٢ ـ إنني أتمنى على القارئ الكريم أن يتحفني بملاحظاته، وإقتراحاته، وسيجدني إن شاء الله عند حسن ظنه، لأن المهم عندي هو إحقاق الحق، وإبطال الباطل، وليس لدي أي مصلحة في غير ذلك.
والشاهد على ذلك: أن الذي يلتزم جانب الحق، لن يكون مقبولاً عند أهل الباطل، وسيواجهونه بمختلف أنواع الكيد، والمكر، والتجني..
وهذا هو ما واجهناه، ولا زلنا نـواجهه على مـر الدهور وكـر العصور..
١٣ ـ قد يشعر البعض في بعض الأحيان ـ وإن كانت قليلة ـ: أن ما نأخذه على البعض قد نقع فيه، فمثلاً قد نقول: إننا نشك في نص بعينه،
لوجود نصوص أخرى تخالفه.. مع أن ذلك قد يحدث لنا أيضاً.
ونقول:
إن غيرنا يدعي: أن ما يقوله هو الصحيح، لأنه ورد في كتب الصحاح عنده.. وما عداه مكذوب، فنحن نلزمه بقوله. ونقول له:
إن هذا النص موجود في كتبك، فإن كان مكذوباً، فالكذب قد صدر من علمائك الذين تنسب إلىهم الديانة، وتصفهم بالوثاقة، فكيف تحكم؟!
أما نحن، فنقول:
كل رواية وردت في مؤلفات علمائنا تحتمل الصدق والكذب، لا لأن علماءنا قد كذبوها.. بل لأن علماءنا قالوا: نحن ننقل لكم ما نقل إلينا، وكله يحتاج إلى بحث وتمحيص منا ومنكم. فنحن وأنتم فيه شرع سواء..
وربما يكون المقصود هو بيان تناقض نصوص صححاهم نفسها، ليتبين لهم عدم صحة هذا الإدعاء، لكي يتنازلوا عن العرش الذي وضعوها فيه.
أما نحن، فإننا لم ندعِ صحة جميع ما في كتبنا، ليطلب منا التخلي عن هذه النظرة، التي من شأنها أن توقعنا في كثير من المشكلات.
١٤ ـ وأخيراً.. نسأل الله سبحانه أن يلهمنا قول الحق، ويرزقنا نصرته، وتقويته، والإلتزام به، وأن يزهق الباطل، ويفضح أهله، ويرد كيدهم إلى نحورهم، ويحفظ أولياءه منهم، ويقوي عزائمهم، ويشد على أيديهم، إنه ولي قدير..
وقد حرر هذا التقديم بعد أشهر من الشروع في هذا الكتاب، وذلك
حين قرر الإخوة المهتمون بطباعة الكتاب، أن يشرعوا في طباعة القسم الأول منه.. يبدأ من أحداث ولادة علي “عليه السلام”، وينتهي أول خلافة علي أمير المؤمنين “عليه السلام” في سنة ٣٥ للهجرة.
وكنا قد بدأنا في تدوين هذا الكتاب في أوائل شهر حزيران سنة ٢٠٠٧ للميلاد، وانتهينا إلى أول خلافة علي “عليه السلام” في أواخر شهر حزيران سنة ٢٠٠٨ للميلاد. رغم أننا قد توقفنا عن الكتابة خلال هذه الفترة نحو شهرين، بسبب سفرنا إلى إيران والعراق لزيارة العتبات المقدسة.
والحمد لله، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله الطاهرين.
عيثا الجبل (عيثا الزط سابقاً)
٢٦/٦/سنة ١٤٢٩ هـ.ق الموافق ٣٠/٦/٢٠٠٨م.
جعفر مرتضى الحسيني العاملي
تمهيد(١):
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد وآله الطاهرين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، إلى قيام يوم الدّين.
وبعد.. |
فإن الحديث عن الأئمة، وعن حياتهم، ومواقفهم وممارساتهم ليس حديثاً عن أشخاص لهم ميزات وخصائص محدودة، ذات طابع فردي، تمتاز بها شخصية مّا على حد ما عرفناه وألفناه.
وإنما هو حديث عن الإسلام بشتى مجالاته، ومختلف أبعاده، وأروع خصائصه، وبكل ما فيه من شمولية، وأصالة وعمق.
إنه حديث عن الحياة بحلوها ومرها، وبكل ما لها من اتساع وامتداد،
١- هذا التمهيد كتب ليكون مقدمة لكتاب ألفه أحد الأخوة الفضلاء، وقد رأينا أن نورده هنا، لشدة الحاجة إليه. ولمزيد من التعويل عليه في إيضاح بعض ما يحتاج إلى إيضاح.. ومن الله تعالى نطلب التوفيق والتسدسد، والفلاح والنجاح..
وغموض ووضوح. وهو أيضاً حديث عن هذا الكون المديد والهائل، وعن كل ما فيه من عجائب وغرائب، وآيات بينات.
حديث عن الدنيا والآخرة بآفاقهما الرحبة، وبجميع ما فيهما وكل ما لهما من ميزات، وسمات.
وإذن.. فليس بوسع أي باحث أو مؤرخ أن يستوعب حياتهم “عليهم الصلاة والسلام”. ولا أن يعكس لنا الصورة الدقيقة والطافحة بكل النبضات الحية في شخصيتهم، وفي مواقفهم ومجمل سلوكهم، إلا إذا استطاع أن يدرك بعمق كل أسرار الحياة، وحقائق التكوين، ومرامي وأهداف حقائق الإسلام، ويقف على واقع تاثيراته في كل حياتهم، وفي كنه شخصياتهم، ومن ثم انعكاساته على كل المفردات، والحركات، والسلوك، والتعامل مع كل ما ومن يحيط بهم.
ولا نظن احداً يستطيع أن يدعي أنه قد بلغ هذا المستوى أو وُفِّق لمثل هذا المقام الرفيع، إلا إن كان واحداً منهم “عليهم السلام”، أو من نهل من نمير علمهم، وتربى في مدرستهم، وطبع كل حياته ووجوده بطابعهم فكراً وعلماً، وفضيلة وخلوصاً، وصفاءً، كسلمان الفارسي وأبي ذر، واضرابهما. وأين وأنّى لنا بأمثال هؤلاء، أو بمن هم دونهم بمراتب.
ولكن ذلك لا يعني أن نقف هكذا عاجزين، ولا أن نرتد خائبين، بل لابد من خوض غمار البحث، واقتحام هذا العباب الزاخر بالخير والبركات، والعبر والعظات، ليستفيد كل منا حسب ما تؤهله له قدراته، وتسمح له به إمكاناته، فإن ذلك نور على نور، وهو محض الخير الذي
يؤهلنا لخير أوفى وأوفر وأكبر، ولبركات أعم وأتم وأكثر.
آفاق البحث:
وإذ قد عرفنا: أن الحديث عن الأئمة “عليهم الصلاة والسلام” ليس تاريخاً لأشخاص، فيما نعرفه من مفردات التاريخ لهم.
وإنما هو تاريخ الرعاية الإلهية لهذا الإنسان، الذي أراد الله له أن تتجسد فيه كل آمال الأنبياء وجهودهم، على امتداد التاريخ البشري، فإنهم “عليهم السلام” هم النموذج الفذ للخلافة الإلهية على الأرض، بكل ما لهذه الكلمة من معنى، وما تحمله من مداليل.
نعم لقد تجسد في شخصيتهم الإنسان الإلهي الكامل الذي واجه الحياة، بالإرادة والعلم والوعي والحكمة، والحزم، وواجهته الحياة بكل ما تملك من سلبيات، وما تختزنه من مصاعب ومشكلات، وما انطوت عليه من مهالك، وآفات. فقهرتها إرادته، التي هي امتداد لإرادة الله سبحانه، واحبط مكرها وعيه، لأنه ينظر بعين الله، وانتصرت عليها حكمته، وأناف على جبروتها حزمه، لأن ذلك منه كان بتعليم الله وتسديده، وتوفيقه وتأييده.
ومن هنا.. فإنه يصبح من الوضوح بمكان حاجتنا إلى فهم حياة الأئمة “عليهم السلام” من خلال فهم الظروف، والأحوال التي ساهمت في فرض واقع معين، كان لابد لهم من أن يعايشوه، وأن يتعاملوا معه.
سواء في ذلك ما ربما يرى البعض أنه يقع في الدائرة الخاصة من حياتهم الشخصية “عليهم السلام” أو ما يفترض أنه الدائرة الأوسع من الحياة
العامة في ظروف العمل السياسي والاجتماعي، والتربوي العام، وما يرتبط بذلك أو ينتهي إليه، بسبيل، أو بآخر.
وكل ما تقدم يدلل على حقيقة واحدة، ويؤكدها، وهي الصعوبة البالغة، وحجم المشاق التي لابد أن تواجه أي باحث يريد أن يفتح نافذة على الآفاق الرحبة في حياتهم صلوات الله وسلامه عليهم، ويؤرخ لها ولو في أبسط المستويات، مهما أراد أن يقتصد ويقتصر على الضروري من الشواهد والدلائل.
سؤال.. وسؤال آخر:
ولكن ما تقدم يفرض علينا الإجابة على سؤال ملحٍ، وهو:
هل يكفي ما بأيدينا من نصوص ومصادر لهذا المهم، ويفي بهذا الغرض، ويحقق تلك الغاية؟!
وإذا كانت الإجابة بالنفي، فالسؤال الآخر الذي يواجهنا هو:
هل استطعنا أن نوظف كل ما لدينا من نصوص؟! وهل استفدنا من جميع المصادر التي بحوزتنا بالشكل الكافي، وبالمستوى المطلوب؟!
في مجال فهم حياتهم “عليهم السلام”، والانطلاق في آفاقها الرحبة واللامحدودة.
وطبيعي أن تكون الإجابة هنا بالنفي أيضاً، فإن الكل يعلم: أننا لم نستطع أن نستثمر ما بأيدينا من نصوص.
بل لن نكون مسرفين إذا قلنا: إننا حتى الآن لم نقم بما هو ضروري في
مجال التحضير للأجواء والمناخات، وتقريب الوسائل التي تؤهلنا، ولو لأن نقدم معلومات عامة منسقة بصورة فنية صحيحة. أو فقل لم نقم حتى بفهرسة إجمالية تقربنا إلى معرفة القيمة الحقيقة لما نملكه من تراث نافع في هذا المجال.
فضلاً عن أن نقوم بدراسة النصوص وتمحصيها، ثم ربطها بمناشئها وتأثيراتها في غاياتها بصورة علمية معمقة ومفيدة، ولو في دائرة محدودة.
أما ما قد نجده من لمحات ولمعات متناثرة هنا وهناك، فإنها لم تنل حظها من البحث والتقصي، ولا استطاعت أن تلتحق بما عداها، مما كانت لها تاثيرات ـ به أو فيه ـ بمستويات متفاوتة.
تاريخان.. غير متجانسين:
ولعل مما يزيد الأمر صعوبة، وإشكالاً: أننا إذا وضعنا تاريخ الأئمة “عليهم الصلاة والسلام”، إلى جانب هذا التاريخ الذي يدعي أنه يسجل وقائع وأحداث الفترة الزمنية التي عايشوها صلوات الله وسلامه عليهم. لو وضعناهما أمام باحث أو ناقد لا يملك تصوراً عن حقيقة تطورات الأحداث، وتأثير السياسات، فإنه سيجد: أنهما تاريخان غير منسجمين، بل وحتى غير متجانسين، وسيخيل إليه: أن الأئمة لا يعيشون الأحداث ولا يتفاعلون بمحيطهم، بل لهم عالمهم الخاص، المنغلق والمنطوي على نفسه، وللآخرين عالم آخر، لا يشبهه لا من قريب، ولا من بعيد.
ولكن الباحث الألمعي، والمدقق الخبير، الذي اطلع على حقيقة التطورات، وما رسمته السياسات في المجالات المختلفة، لا بد يجد عكس
ذلك تماماً، حيث سيرى: أن الأئمة “عليهم السلام” يلامسون الواقع عن قرب، ويسجلون الموقف الرسالي المسؤول، والواعي، تجاه كل ما يجري، ويدور حولهم.
ولعلهم “عليهم السلام” يمثلون في أحيان كثيرة أعمق العوامل تأثيراً في مجمل الواقع السياسي، والاجتماعي، والثقافي، والتربوي، على مستوى الأمة بأسرها، فضلاً عن تأثيرهم العميق، في الدائرة التي يبدو ـ للوهلة الأولى ـ أنهم يعيشون فيها، ويتعاملون معها.
التزوير.. والأصالة:
وفي مجال فهم عوامل هذا الاختلاف الظاهر بين ذينك التاريخين، لابد من التأكيد على الحقيقة التالية:
أن ذلك الفريق الذي اهتم بتسجيل بعض اللمحات من حياة الأئمة ومواقفهم “عليهم السلام”. يختلف كثيراً في عقليته، وفي مفاهيمه، وفي طموحاته، ثم في حوافزه ودوافعه، وكذلك في أهدافه وغاياته عن ذلك الفريق الذي تصدى للتاريخ وللحياة العامة لتلك الفترة الزمنية، التي عايشها الأئمة “عليهم السلام”.
والأهم من ذلك الاختلاف الظاهر، بين هذين الفريقين في مجمل المعايير والمنطلقات التي رضيها كلُّ لنفسه، وانطلق منها لتمييز الحق من الباطل، والصحيح من السقيم، وعلى أساسها كان الرد أو القبول، والخروج، والدخول، في مختلف المواقع والمواضع.
وقد وجدنا: أن المنطلقات، والمعايير، التي انطلق منها، وتحرك على
أساسها أولئك الذين أرخوا لتلك الحقبة من الزمن، وكتبوا ما يسمى بـ “التاريخ الإسلامي”؛ كانت في مجملها مزيفة ومضللة أريد منها تكريس الانحراف، وتأكيده، وتبريره، والحفاظ عليه، وتسديده.
ولا نقول ذلك تعصباً، ولا تجنياً على التاريخ والمؤرخين، ما دام أن الكل يعترف لنا بحقيقة:
أن التاريخ المكتوب ليس هو تاريخ الشعوب والأمم، ولا يملك القدرة على أن يعكس لنا آمالها، ولا آلامها، ولا معاناتها أو حركتها في واقع الحياة. وإنما هو تاريخ الحكام والسلاطين، ومن يدور في فلكهم.
وحتى تاريخ الحكام هذا، فإنه لم يستطع أن يعكس واقعهم بأمانة ودقة ونزاهة، مادام أنه غير قادر إلا على تسجيل ما يرضي الحكام، ويصب في مصلحتهم، ويقوي من سلطانهم، مهما كان ذلك محرفاً وغير نقي، أو مزوراً وغير واقعي.
فلم يكن ثمة مؤرخ يملك حرية الرأي، ولا هو مطلق التصرف فيما يريد أن يقول أو يكتب. كيف وهو يرى بام عينه كيف أن رواية واحدة يرويها أحدهم في فضل علي “عليه السلام”، تثير عليه غضب الحاكم، فيصدر الأمر بجلده مئات السياط.
ويروي الطبري حديث الطير، فيرجم العامة داره، حتى كان على بابه تل من الحجارة.
ويروي أحدهم رواية حول مناظرة بين آدم وموسى “عليهم السلام”، فيشكل الأمر على احد الحاضرين ولا يعرف أين اجتمع آدم وموسى، وبين