الأذان بين الأصالة والتحريف / الصفحات: ٣٤١ – ٣٦٠
ومن المعلوم أنّ المسلمين انقسموا بعد وفاة رسول الله إلى نهجين:
الأوّل: نهج الصحابة.
والثاني: نهج أهل البيت.
وعُرف النهجان بالتخالف فيما بينهما في كثير من المسائل، بحيث تجاوز حدَّ النزاع حول الإمامة والخلافة ليشمل كافّة مجالات الشريعة وأحكامها.
وبمعنى آخر: إنّ الخلاف الحاصل بين النهجين قد تجاوز الصعيد السياسيّ ليشمل أصعدة أخرى فكريّة وعقائدية واجتماعية. وفي حال اعتبار مصدر تشريع الأحكام في الفقه من الأُمور المهمّة والحسّاسة جدّاً، فلا عجب أن ترى بين قادة النهجين أحكاماً فقهيّة متضادّة، قد تصل إلى حدّ التناقض في المسألة الواحدة، فتجد ما يقوله عمر بن الخطاب يخالف ما يقوله عليّ بن أبي طالب تماماً، فعلى الرغم من التزام وتعبّد عليّ (عليه السلام) بمنهج رسول الله في جواز المتعة مثلاً، ترى اجتهاد عمر شاخصاً أمامك في قبال شريعة رسول الله، محرّما للمتعتين، قائلاً: “أنا أُحرمهما وأُعاقب عليهما”.
لقد أخذ أهلُ السنّة الكثيرَ من فقههم من مجتهدي الصحابة الاوائل،
إذ أنّ استمرار الصراع العقائدي السياسي لمدة طويلة من الزمن ينبئ عن وجود أصل شرعي مُختلَف فيه عندهم.
ولمّا كان النهج الحاكم ـ على مرّ العصور ـ يدعو إلى «الصلاة خير من النوم» تبعاً للخليفة الثاني والأمويين من بعده، ولمّا كان الطالبيون لا يؤمنون بشرعية هذا الجزء، فمن المؤكد أن يكون عدم إتيان الحفّاظ والمحدّثين بما يدل على شرعيّة «حيّ على خير العمل» في الصحاح والسنن قد كان خاضعاً لأمور سياسية.
إنّ الطالبيّين قد وقفوا أمام مثل هذه الهجمات بكلِّ قوّة، وبذلوا كلّ ما يمكنهم في التعبير عن عدم الرضوخ أمام تغيير السنّة، وقد كلّفهم ذلك الكثير الكثير، وتحمّلوا المصاعب العظام من أجل الحفاظ على سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومنها الإتيان بـ «حيّ على خير العمل» في أذانهم. وقد جرت بين الطرفين مناوشات كلامية
لقد تمسّك الطالبيّيون بـ «حيّ على خير العمل» وقدّموا قرابين نفيسة من أجل إبقائها سنّة حتّى صارت شعاراً للشيعة في كلّ الأصقاع، وصبغة عقائديّة يُميَّزون بها عن غيرهم، وقد استمدّوا العزم من مواقف أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) الذي قال حين سمع أذان ابن النبّاح بـ «حيّ على خير العمل»: “مرحباً بالذي قال عدلاً، وبالصلاة مرحباً وسهلاً”(١).
وقد تجلّت مواقف الشيعة بوضوح في موقف الحسين بن عليّ ـ صاحب فخّ ـ وغيره من الطالبيين(٢) الذين أصرّوا على إعلانها جهاراً في الأذان.
١. حركة محمّد النفس الزكيّة في المدينة سنة ١٤٥ هـ، في عهد المنصور العباسي.
٢. حركة إبراهيم ـ أخي النفس الزكية ـ في البصرة سنة ١٤٥ هـ.
٣. حركة الحسين بن علي (صاحب فخّ) في المدينة سنة ١٦٩ هـ، في عهد الخليفة الهادي.
٤. حركة يحيى بن عبدالله ـ أخي النفس الزكيّة ـ في بلاد الديلم سنة ١٧٥ هـ، في عهد هارون الرشيد.
٥. حركة إدريس بن عبدالله ـ أخي النفس الزكيّة ـ في بلاد المغرب سنة ١٧٢ هـ، في عهد الرشيد.
٦. حركة محمّد بن إبراهيم وأبي السَّرايا في الكوفة سنة ١٩٩ هـ، في عهد المأمون.
٧. حركة محمّد بن جعفر الصادق في مكة سنة ٢٠٠ هـ، في عهد المأمون.
٨. حركة أبي عبدالله (أخي أبي السرايا) في الكوفة سنة ٢٠٢ هـ، في عهد المأمون.
٩. حركة إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمّد عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب في اليمن سنة ٢٠٠ هـ، في عهد المأمون.
١٠. حركة عبدالرحمن بن أحمد بن عبدالله بن محمّد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب في اليمن سنة ٢٠٧ هـ، في عهد المأمون.
١١. حركة محمّد بن القاسم بن عمر بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب في خراسان سنة ٢١٩ هـ، في عهد المعتصم.
إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما ذكره المقريزيّ في باب (ذكر الأذان بمصر وما كان فيه من الاختلاف) وربطنا ذلك بما توصّلنا إليه من السير التاريخيّ لمسألة الأذان فيما يخصّ المسألة المبحوثة وشعاريّتها، وما أُثير حولها من محاولات عامدة للحؤول دون ترسيخها في قلوب المسلمين، وجمعنا ذلك مع ما بحوزتنا من رواياتنا ورواياتهم فسنحصل على ثمرة يانعة تشفي غليل المتطّلع الى الحقيقة، وعلى نتيجة جليّة لا غبار عليها، ويستبين عندئذ أنّها لا تتعدَّى كونها في أصلها شعيرة إلهيّة وشعاراً إسلاميّاً أصيلاً يحمل وراءه نهجاً إسلامياً فكرياً يتبع “الرمز” القدوة الحسنة الذي دعا القرآن الكريم إلى الاقتداء به، ويرمي بعيداً كلّ ما يمتّ بِصلة إلى الاجتهاد بالرأي والاستحسان المقابل لمنهجيّة التعبّد المحض ; ذلك أن «حيّ على خير العمل» سنّة نبويّة، أمّا «الصلاة خير من النوم» فهي دعوة مُستحدَثة لا تمثل جانباً من رؤية الإسلام.
ولدى مرورنا بالنصوص والأحداث سنوضح ـ وفق منهجنا ـ ملابسات المسألة خلال الصراع الأموي العلوي ثمّ الصراع العباسي العلوي، والسلجوقي
وقد بدأ الخلاف بين النهجين أولاً في موضوع الخلافة ومن هو الأحّق بها، وهل هناك تنصيب من الله، أم أنّ الأمر شورى بين الأمة ـ أو أصحاب الحَلّ والعقد منهم ـ؟ ثمّ انجرّ هذا الخلاف إلى الشر يعة، فوجدنا أحكاماً تُغيَّر وأخرى تُستحدَث، إما دعماً لمواقف الخليفة، أو للتعرف على رجال الطالبيين، أو لغيرهما من العلل والأسباب.
وقد استفحل هذا الخلاف بعد مقتل عثمان بن عفان، فانقسم المسلمون إلى فئتين كبيرتين:
فجلّ أهل البصرة وأهل الشام كانوا ذوي أهواء عثمانيّة في الانتماء الفكري والسياسي، وأهل الكوفة والأنصار من أهل المدينة وعدد كبير من أهل الحجاز كانوا علويّي الفكرة والعقيدة.
وبعد استشهاد الإمام عليّ وصلح الإمام الحسن تم استيلاء معاو ية بن أبي سفيان على الحكم، فغلبت العثمانيّة على مجريات الأحداث وانحسر الطالبيّون فبدؤوا يعيشون حالة التقيّة.
وإنّما جئنا بهذا الكلام كي نوضح بأن عملنا في هذا الفصل سيكون في
٢ ـ المحور التشر يعي.
فقد نفرض أن يتغاضى الحاكم الأموي عن شعارية «حيّ على خير العمل» في بعض الأحيان، لكن ذلك لا يعني رضاه وسكوته عن ذلك في كلّ الحالات، لأنّ الحيعلة الثالثة كما علمت لها جانبان تشريعي صلاتيّ وعقائدي سياسي، فإذا كان الإتيان بها منحصراً في حدّ المسألة التشريعية سكت الحكام عنها على مضض، وإن اتّخذت طابعها العقائدي السياسي قامت قيامتهم واستبدّ بهم الغيظ ; لأنّ معناها العقائدي السياسي هو فرع لمعناها التشريعي الصلاتي الذي هو “محمّد وآل محمّد خير البرية” و”الولاية” و”بِرّ فاطمة وولدها”، وهذا البعد التشريعي يتلوه البعد السياسي الذي يعني أنّهم أحقّ بالخلافة والحكم من الآخرين.
فلو دعا الإمام الباقر أو الصادق إلى جزئيتها في العهد الأموي، أو أتى بها عليّ بن الحسين، فقد يسكت الحاكم عنه على مضض، لكن ليس معنى هذا سكوتهم كذلك عن الطالبيين الثوار لو أذّنوا بـ «حيّ على خير العمل» ; لأنّ الأمويّين لو أرادوا معارضة الإمامين الصادق والباقر وقبلهما الإمام عليّ بن الحسين، لفتحت أمامهم جبهة جديدة هم في غنى عنها في تلك المرحلة من تاريخ المعارضة، ولدخل الأمر في إطاره السياسي قبل أوانه.
ذلك أنّ الأمة الإسلامية بدأت تعي الأوضاع بعد شهادة الإمام الحسين سنة ٦١ هـ، وأخذت تتّضح لها معالم الظلم والمكر الأموي وسعيه لهدم الإسلام، لأنّ ما فعله يز يد بن معاوية بن أبي سفيان بعترة رسول الله واستحلاله المدينة المنورة
فالامويون والعباسيّون في حدود المسألة التشريعيّة لا يمكنهم الوقوف أمام تأذين عليّ بن الحسين ومحمّد الباقر وجعفر الصادق بـ «حيّ على خير العمل»، لوجود أمثال عبدالله بن عمر وأبي أمامة بن سهل بن حنيف وغيرهما ممن أذّن بها.
على أنّه يمكن حمل سكوت الأمويين هذا على أنّهم استهدفوا من عملهم هذا هدفاً سياسياً، وهو التعرّف على الطالبيين وتجمّعاتهم، وقد وضحنا سابقاً في كتابنا (وضوء النبيّ) أنّ الطالبيين هم المعارضون الحقيقيون للحكومتين الأموية والعباسية.
واستقراراً على هدفهم هذا سعوا أن يجمعوا الأمة على فقه يخالف فقه الإمام
وفي قبالة ذلك التيار الجارف نجد أن الإمامين الباقر والصادق كانا يدعوان إلى الحيعلة الثالثة، ويؤكّدان على شرعيتها بدون خوف واكتراث من السلطة، لكن الأمر نفسه لم يكن عند الثوار في ظروف التعبئة السريّة، بل كانوا يتّقون ويخافون من تعرف السلطة على مواقعهم العسكرية وتجمعاتهم الثورية، فلم يقولوا بـ «حيّ على خير العمل» إلاّ في الصحراء وحين يأمنون مكر السلطة.
ومن المعلوم أنّ الدولة العباسية أُسست على شعار الرضا من آل محمّد(١)وأنهم قد تذرعوا بطلب ثار الشهداء من أبناء فاطمة: الحسين بن عليّ، زيد بن عليّ بن الحسين، وولده يحيى وسواهم.
لكنّهم سرعان ما قلبوا للعلويين ظهر المجنّ فلم يَفُوا بما عاهدوا عليه الأمة، ولم يحافظوا على الدلالة الصادقة لمقولة “الرضا من آل محمّد”، بل نقضوا ما بايعوا عليه محمّد بن عبدالله بن الحسن “النفس الزكية” قبل الانتصار.
وبعد خيانة العباسيين لشعار الرضا من آل محمّد، ادّعَوا أنّهم أولى بالخلافة من العلويين ; لمكان العبّاس عم الرسول، وأنه أولى بالنبي من عليّ وفاطمة
من هنا جَدَّ العلويّون لإعادة السنّة إلى موضعها ـ كما كانت في عهد رسول الله وكما أرادها الإمام عليّ ـ فأخذوا يعلنون «حيّ على خير العمل» على المآذن، ويجهرون بالبسملة، ويكبّرون على الميّت خمساً، وينادون بـ “من مات عن بنت وأخ وأخت فالمال كله لها” ويصرحّون بالصحيح من دين الله في عشرات المسائل التي حرّفها المحرّفون.
وجاء في جامع علي بن اسباط عن الحسن بن جهنم قال: ذكرت لابن عبدالله جعفر بن محمّد (عليه السلام) ما نحن فيه وما للناس فيه من اذلال بني العباس قلت: ومتى الفرج؟ قال: النداء بحي على خير العمل على المنارة(١).
وهذا يشير إلى أنّ الخلاف بين الحكّام والعلويين كان أصولياً، وليس كما يصوّره البعض بأنّه خلاف حول الخلافة بما هي خلافة فقط، بل إنّ اختلافهم كان
زيد بن عليّ بن الحسين “١٢٢ هـ”
روى الحافظ العلوي بسنده إلى يزيد بن معاوية بن إسحاق، قال: كنّا بجبّانة سالم(١)، وقد أَمِنَّا أهل الشام، فأمر زيدُ بن عليّ معاويةَ بن إسحاق فقال: أذِّن بـ “حيّ على خير العمل، حيّ على خير العمل”(٢).
يحيى بن زيد بن عليّ بن الحسين “١٢٥ هـ”
أخرج الحافظ العلوي بسنده عن زياد بن المنذر، قال: حدّثني حسّان، قال: أذّنت ليحيى بن زيد بخراسان، فأمرني أن أقول: حيّ على خير العمل، [ حي على خير العمل ].
وبإسناده عن صباح المزني، قال: أذّن رجل كان مع يحيى بن زيد بخراسان، قال: ما زال مؤذنهم ينادي بحيّ على خير العمل حتّى قُتل(٣).
٣- الأذان بحيّ على خير العمل للحافظ العلوي: ٨٧ وانظر: إمالي أحمد بن عيسى ١: ٩٧ الحديث ٢٣٦.
إبراهيم بن عبدالله بن الحسن “١٤٥ هـ”
أخرج الحافظ العلوي باسناده عن سالم الخزاز، قال: كان إبراهيم بن عبدالله ابن الحسن يأمر أصحابه إذا كانوا في البادية أن يزيدوا في الأذان ” حيّ على خير العمل “(١).
الحسين بن عليّ (صاحب فَخّ) “١٦٩ هـ”
روى أبو الفرج الإصفهانيّ أنّ إسحاق بن عيسى بن عليّ، وَلِي المدينة في أيّام موسى الهادي، فاستخلف عليها رجلاً من ولد عمر بن الخطّاب، يُعرف بعبد العزيز بن عبدالله، فحمل على الطالبيّين، وأساء إليهم، وأفرط في التحامل عليهم، وطالبهم بالعرض [عليه] كلّ يوم، وكانوا يعرضون في المقصورة، وأخذ كلّ واحد منهم بكفالة قرينه ونسيبه، فضمن الحسينُ بن عليّ، ويحيى ابن عبدالله بن الحسن: الحسنَ بن محمَّد بن عبدالله بن الحسن، ووافى أوائل الحاجّ، وقَدِم من الشيعة نحو من سبعين رجلاً فنزلوا دار ابن أفلح بالبقيع وأقاموا بها، ولقوا حسيناً وغيرَه، فبلغ ذلك العمرىَّ فأنكره، وكان قد أخذ قبل ذلك الحسن بن محمّد بن عبدالله، وابن جندب الهذلي الشاعر، ومولى لعمر ابن الخطاب وهم مجتمعون، فأشاع أنّه وجدهم على شراب، فضرب الحسن ثمانين سوطاً، وضرب ابن جندب خمسة عشر سوطاً، وضرب مولى عمر سبعة أسواط، وأمر بأن يدار بهم في المدينة مكشّفي الظهور ليفضحهم، فبعثت إليه الهاشميّة ـ صاحبة الراية السوداء في أيام محمّد بن عبدالله ـ فقالت له: لا ولا كرامة، لا تشهّر أحداً من بني هاشم،
فحلف [العمريّ] على الحسين بطلاق امراته وحريّة مماليكه، أنّه لا يخلّي عنه أو يجيئه به في باقي يومه وليلته، وأنّه إن لم يجئ به ليركبنّ إلى سويقِهِ فيخرّبها ويحرقها وليضربنَّ الحسين ألف سوط…
فوثب يحيى مُغضَباً، فقال له: أنا أعطي الله عهداً.. ثمّ وجَّهَ [الحسين] فجاءهُ يحيى، وسليمان، وإدريس ـ بنو عبدالله بن الحسن ـ وعبدالله بن الحسن الأفطس، وإبراهيم بن إسماعيل طباطبا، وعمر بن الحسن بن عليّ بن الحسن بن الحسين بن الحسن، وعبدالله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن عليّ، وعبدالله بن جعفر بن محمَّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب.. ووجَّهوا إلى فتيان من فتيانهم ومواليهم، فاجتمعوا.. ستّة وعشر ين رجلاً من ولد عليّ، وعشرة من الحاجّ، ونفر من الموالي.
فلمَّا أذَّن المؤذِّن للصبح دخلوا المسجد، ثمَّ نادوا: (أحد، أحد)، وصعد عبدالله بن الحسن الأفطس المنارة التي عند رأس النبيّ (صلى الله عليه وآله)، عند موضع الجنائز ; فقال للمؤذِّن: أذِّن بـ “حيَّ على خير العمل”، فلمَّا نظر إلى السيف في يده أذَّن بها. وسمعه العمريّ، فأحسَّ بالشرِّ، ودهش… وولَّى هارباً… فصلَّى الحسين بالناس
ومثله قالوا عن ثورة الإمام زيد وشككوا في دواعي ثورته الخالصة، زاعمين أنّها جاءت على أثر خلاف ماليّ بينه وبين بعض أعوان السلطة وهو خالد بن عبدالله(٣) أو أنّه وابني الحسن تخاصما في وقف لعلي(٤) أو ما شابه ذلك من التهم الفارغة التي تباين شخصية هؤلاء الأفذاذ، وما هذا إلاّ كصنيع الأمويين مع النصوص والأحداث.
لقد سعت حكومة عمر بن الخطاب ومن بعده عثمان والحكومة الأموية، إلى تجريد الحيعلة الثالثة من طابعها السياسي، بل حاولوا إدخالها في إطار اختلاف
٣- تاريخ الطبري ٧: ١٦٠. وقد أجاب الإمام زيد عن هذه التهمة وقال ليوسف بن عمر: أنّى يودعني مالاً وهو يشتم آبائي على منبره.
فارسل [ يوسف ] إلى خالد فاحضره في عباءة فقال له: هذا زيد، زعمت أنك قد أودعته مالاً، وقد أنكر.
فنظر خالد في وجههما ثمّ قال: أتريد أن تجمع مع إثمك فيّ إثماً في هذا! كيف أودعه مالاً وأنا أشتمه وأشتم آباءه على المنبر! قال: فشتمه يوسف، ثمّ رده، (تاريخ الطبري ٧: ١٦٧).
٤- تاريخ الطبري ٧: ١٦٣ احداث سنة ١٢١.
طبرستان (سنة ٢٥٠ هـ)
خرج بطبرستان الحسن بن زيد بن محمّد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد ابن الحسن بن عليّ بن أبي طالب.
وكان سبب ظهوره أنّ محمّد بن عبدالله بن طاهر لمّا ظفر بيحيى بن عمر أقطعه المستعين بالله العباسي من ضواحي السلطان بطبرستان قطائعَ، منها قطيعة قرب ثغر الديلم وهما كلار وشالوس، وكان بحذائهما أرض يحتطب منها أهل تلك الناحية، وترعى فيها مواشيهم، ليس لأحد عليها ملك إنّما هي مَوات، وهي ذات غياض، وأشجار، وكلأ.
فوجّه محمّد بن عبدالله نائبه لحيازة ما أُقطِع، واسمه جابر بن هارون النصراني، فلمّا قَدِم جابر عَمَد فحاز ما اتّصل به من أرض مَوات يرتفق بها الناس.
وكان في تلك الناحية يومئذ أخوانِ لهما بأسٌ مذكوران بإطعام الطعام
نبّئتُ خيل ابن زيد أقبلت خَبَباً | تُريدنا لتُحَسِّينا ألامَرَّيْنا |
يا قَومُ إن كانت الأنباءُ صادقةً | فالوَيلُ لي ولجميع الطاهريّينا |
أمّا أنا فإذا اصطفّت كتائبُنا | أكونُ من بينهم رأَس المُوَلّينا |
فالعُذرُ عند رسول الله منبسطٌ | إذا احتسبت دماء الفاطميّينا |
فلما التقوا انهزم سليمان، فلما اجتمعت طبرستان للحسن وجه إلى “جندا”
“استقر الداعي الكبير ابن زيد في آمُل، وأعلن في أطراف طبرستان وكيلان والديلم أنّه: قد رأينا العمل بكتاب الله وسنّة رسوله وما صحّ عن أمير المؤمنين، وإلحاق حيَّ على خير العمل، والجهر بالبسملة، والتكبير خمساً على الميت، ومن خالف فليس منّا”(٢).
|
وقد حكى الشيخ أغا بزرك الطهراني في الذريعة عن تاريخ طبرستان: ٢٤٠ أن الداعي إلى الحق الحسن بن زيد كتب في سنة ٢٥٢ منشورة عن آمل إلى سائر بلاده، بإعلاء شعائر التشيع من تقديم أمير المؤمنين (عليه السلام)، والأخذ بما صح عنه في جميع الأصول والفروع من قول «حيّ على خير العمل» والجهر بـ “بسم الله الرحمن الرحيم” وغير ذلك(٣).
هكذا نجح الحسن بن زيد في تكوين هذه الدولة التي تُعرف بالدولة الزيدية بطبرستان، واقتطع من ملك بني العبّاس وآل طاهر طرفاً عظيماً تحميه جبال طبرستان والديلم، واستمرت هذه الحكومة نحو قرن كامل (٢٥٠ ـ ٣٥٥ هـ) تولى فيها:
١ ـ الحسن بن زيد الداعي ٢٥٠ ـ ٢٧٠.
٣- الذريعة إلى تصانيف الشيعة ١٧: ٢٧٠.
٤ ـ تولي الحسن الأطروش بن عليّ بن عمر بن زين العابدين ٣٠١ ـ ٣٠٤ على طبرستان مرّة أُخرى.
٥ ـ الحسن بن القاسم بن عليّ بن عبدالرحمن ومعه أولاد الأُطروش ٣٠٤ ـ ٣٥٥.
ويبدو أنّ المنشور الذي أعلنه الداعي الكبير سنة ٢٥٢ هـ ظل ساري المفعول حتّى نهاية هذه الدولة العلوية الزيديّة، فكانت المآذن تؤذن بـ ” حيّ على خير العمل ” لأكثر من قرن، منبّهين على أنّ هذا المرسوم صدر في وقت مبكر جداً من أوائل حكومة هذا الداعي الكبير، لما له من هيبة دينية وبُعد سياسي، وما له من أثر في ترسيخ حكومة تقوم على أساس الدين من وجهة نظر علوية، ويؤكد صحةَ هذا ما نراه اليوم وبعد أكثر من ألف عام في التراث الزيدي، فلو راجعت كتبهم الفقهية والحديثية القديمة عرفت ثبوتها عندهم، وهذا الموقف من الحسن بن زيد وغيره هو امتداد لشرعيتها على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله).
حمص / مصر / بغداد (سنة ٢٩٠ هـ)
جاء في كتاب بغية الطلب في أخبار حلب لابن العديم المتوفى (٦٦٠ هـ):
“… فصار [صاحب الخال] إلى حمص ودُعي له بكورها وأمرهم أن يصلوا الجمعة أربع ركعات، وأن يخطبوا بعد الظهر ويكون أذانهم: أشهد أن محمّداً رسول الله، أشهد |
أن عليّاً ولي الله، حيّ على خير العمل”(١). |
وجاء في كتاب ” أخبار بني عبيد ” لمحمد بن عليّ بن حماد في ترجمة عبيدالله (٣٢٢ هـ) ـ مؤسس الدولة العبيدية في مصر ـ:
… وكان مما أحدث عبيدالله أن قطع صلاة التراويح في شهر رمضان، وأمر بصيام يومين قبله، وقنت في صلاة الجمعة قبل الركوع، وجهر بالبسملة في الصلاة المكتوبة، وأسقط من أذان صلاة الصبح: «الصلاة خير من النوم»، وزاد: «حيّ على خير العمل»، “محمد وعلي خير البشر”، ونص الأذان طول مدة بني عبيد بعد التكبير والتشهدين: حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح مرتين، حيّ على خير العمل محمد وعلي خير البشر مرتين مرتين، لا إله إلاّ الله مرة(٢).
|
هذان نصان أحدهما عن الطالبيين في حلب والآخر في مصر، وهما يؤكدان أنّ النزاع الفكري بين الطالبيين والنهج الحاكم كان مستمراً عبر جميع القرون، ولم يختصّ ببلدة دون أخرى.
ويدلّ على أصالة الحيعلة الثالثة، وامتداد التأذين بها زماناً، وانتشارها مكاناً، ما رواه القاضي التنوخي المتوفّى ٣٨٤ هـ عن أبي فرج الاصفهاني فيما حدث في بغداد في نفس تلك الفترة تقريباً، قال:
أخبرني أبو الفرج الاصفهاني (المتوفّى ٣٥٦ هـ) قال:
|
سمعت رجلاً من القطيعة(١)، يؤذن: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلاّ الله، أشهد أن محمد رسول الله، أشهد أن عليّاً ولي الله، محمد وعلي خير البشر، فمن أبى فقد كفر، ومن رضي فقد شكر، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، حيّ على خير العمل، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلاّ |
ويتقوى احتمالنا هذا حينما نرى الإصفهاني ـ الزيدي العقيدة ـ ينقل هذا الخبر، وهو تأكيد لأذان الإمامية القطعية في الكاظمية، وأنهم كانوا يؤذّنون بالشهادة الثالثة. ولو أحببت أن تتأكد بأن القطعية هو اصطلاح للشيعة الاثني عشرية راجع كتب الشيخ الصدوق ومقالات الإسلامين للأشعري ١: ١٧، والملل والنحل للشهرستاني ١: ٢٩، وخاتمة المستدرك ٤: ٢٤٨ عن النوبختي في كتاب مذاهب فرق أهل الامة.
وعلى فرض أن يكون المراد قطيعة أمّ جعفر، فهي أيضاً كانت من الأماكن التي يقطنها الشيعة الإمامية الاثنا عشرية، قال الحموي في معجم البلدان ٤: ٤٤٨، وأهل الكرخ كلهم شيعة إمامية لا يوجد فيهم سنيّ ألبتة. وانظر: حول تشيعها الاثني عشري البداية والنهاية ١١: ٣٠٧ / احداث سنة ٣٧٩، وموسوعة العتبات المقدسة ” الكاظمية ” ٩: ١١٥.
هذا وقد أضاف المحقق جملة من بعض النسخ تشمئز منها النفوس ولا تتفق مع السير التاريخي وارتباط هند وابن عمر بمسألة الأذان، فراجع.